التفنن في الاستفادة من الوقت واستثماره

إن الحرص على تنظيم إدارة الذات في الوقت يفسح الطريق لظهور أساليب جديدة وإلى تفنن في كسب العمل الصالح.

ولقد كان سلفنا الأبرار ينكرون على مضيعي الأوقات، ويحثونهم على اغتنام أعمارهم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأبغض الرجل أن أراه فارغاً ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة.



ومن ذلك أن القاضي (شريحاً) -رحمه الله- مرّ ذات يوم بمجموعة من الناس، وهم يلعبون ويلهون ويثرثرون! فقال لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: تفرّغنا (أي لدينا فراغ، ووقت نقضيه في ما ترى)، فقال لهم: وهل أُمر الفارغ بهذا؟ ثم قرأ قوله تعالى:



«فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ» (الشرح:7-8).



فإذا فرغت من هذا كله، فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجتهد، بالعبادة والتجرد والتطلع والتوجه إلى ربك وحده خالياً من كل شيء.



كره البطالة



العاقل الموفق من يملأ كل لحظة وثانية من حاضر عمره ووقته بفائدة أو عمل صالح، فقد كره عمر بن الخطاب رضي الله عنه التعطل والبطالة وإضاعة الزمن سدى! فقال: إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً -أي فارغاً- لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.



الاقتصار على السلام



قال يحيى بن القاسم من مدرسي المدرسة النظامية -جامعة بغداد أيام العباسيين- كان ابن سكينة -وهو أحد مدرسي المدرسة أيضاً-عالماً عاملاً، لا يضيع شيئاً من وقته، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على (سلام عليكم) مسألة، لكثرة حرصه على المباحثة وتقرير الأحكام.



وهذا -والله- شيء عجيب! إذ يدعوهم إلى اختصار السلام (سلام عليكم) ويمنعهم من التجمل بالمجاملات المعتادة أول اللقاء، ويأمرهم أن يدخلوا في المباحثة والمدارسة فور سلامهم كسباً للوقت.



قراءة على طريق قضاء حاجة



كان الفتح بن خاقان وزير المتوكل، ناصر السنة، -رحمه الله- يحمل الكتاب في كُمه أو في مكان آخر من ثيابه، فإذا قام من بين يدي المتوكل لبعض حاجاته -لقضاء حاجة أو للصلاة- أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي، حتى يبلغ الموضع الذي يريده، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه، إلى أن يأخذ مجلسه، فإذا أراد المتوكل القيام لحاجة، أخرج الكتاب من كمه أو من موضعه الذي هو فيه، وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده.



غيض من فيض، وقل مثل ذلك في الإمام علي بن المديني (شيخ البخاري) والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل وأمثالهم رحمهم الله جميعاً، فلا تمضي لهم ساعة إلا في قراءة قرآن، أو ذكر، أو تهجد، أو قراءة الناس عليهم، أو التحدث للناس.



وبعد هذا أن ترى عجباً بين أولئك العظام وبين أكثر المسلمين وعامتهم في عصرنا حتى قلت لأحدهم: الأصل عندك الراحة -أي العطلة عن أي عمل- والاستثناء هو العمل، لا نفع في دنيا ولا فائدة في دين.



ولكن لا يخلو عصرنا من أمثال أولئك الأفذاذ ممن لا يضيعون أوقاتهم قط، وأذكر أنني في مجلس كنت أترجم لقوم من قوم فكان أحد الحاضرين يخرج أوراقاً من جيبه فيكتب عليها في فترة الترجمة، فاطلعت عليها وعلى ما كتب فإذا هو متعلق بشأن آخر، وموضوع غير الموضوع الذي نحن بصدده لأنه كان يعرفه.



ويمثل الحفظ على جميع الأوقات من رجالاتنا كانت الحضارة الإسلامية سائدة في مجال الحياة... ولم تأتِ صدفة، وإنما تصنع، ومن يصنعها إلا الحريصون على النفع والانتاج والإبداع؟



المجاملات



وأحب أن أشير هنا إلى الضياع الكثير والفقدان من الوقت لدى الغالبية العظمى من المسلمين وبخاصة في المجاملات المستغرقة، واللقاءات التي تذهب الفائدة منها سدى لكثرة الخوض في هوامش الحياة لا في أسسها، مع أن الآية الكريمة تنتفي الخيرية عن كثير من أمثالها، يقول تعالى:



«لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» النساء: من الآية114.



لأنهم يعيشون أيامهم وشهورهم، ويمضون سنواتهم وأعمارهم -هكذا كما تيسر- وهم في غفلة وسذاجة، وخفة وبلاهة ولا هدف لهم سوى الحياة بلفظها الحيواني فقط، ولم يحفظوا شيئاً مما ذكر، وما انتبهوا حتى إلى قول الشاعر:



وما للمرء خير في حياة



إذا ما عُدَّ من سقط المتاع



ومتى كانت الغفلة والأوهام؟ واللهو والعبث واللعب؟ تبني الرجال، ومتى كان ضياع الوقت بناءً لحياة كريمة؟ فلا إفراط ولا تفريط في الحياة.



فللراحة حد، وهو إحجام النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة، واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكدّ والتعب ويضعف أثرها، فمتى زاد على ذلك صار توانياً وكسلاً وإضاعة، وفات به أكثر مصالح العبد، ومتى نقص عنه صار مضراً بالقوى موهناً لها.



وقد مر العبد الصالح عامر بن عبد القيس رحمه الله على مجموعة من الكسالى والبطّالين وهم جلوس يتحدثون ويثرثرون، فقالوا له: تعالَ اجلس معنا! فقال لهم: أمسكوا الشمس عن المسير حتى أكلمكم.



حرص العلماء على أوقاتهم



1- كان العلامة الكبير أبو المعالي محمود شكري الآلوسي البغدادي الحفيد الأديب رحمه الله تعالى يمتاز بالجدّ الشديد والحرص على الوقت، فكان لا يثنيه عن دروسه حمارة القيظ (شدته) ولا يؤخره عنها قرص برد الشتاء.



وكثيراً ما تعرض تلاميذه بسبب تأخرهم عن موعد الدرس إلى النقد والتعنيف.



قال عنه تلميذه الشيخ بهجة الأثري: أذكر أنني انقطعت عن حضور درسه في يوم مُزعج، شديد الريح، غزير المطر، كثير الوحل، ظنّاً مني أنه لا يحضر إلى المدرسة، فلما شخصت في اليوم الثاني إلى الدرس، صار ينشد بلهجة غضبان:



ولا خير فيمن عاقه الحرّ والبردُ



2-وهذا الإمام محمد بن الحسن الشيباني الحرستاني (حرستا بلدة قرب دمشق) لا ينام بالليل، فكان يضع عنده دفاتر (أي كتباً) يقرأ فيها، فإذا ملّ من نوع نظرَ في نوع آخر من الكتب، وكان يزيل (يطرد) النوم عنه بالماء، ويقول: إن النوم من الحرارة، والماء يبرد الحرارة ويبعدها.



3-أما المفسر الآلوسي (أبو الثناء شهاب الدين بن محمود بن عبد الله الآلوسي) البغدادي، مفتي بغداد، وقيل عنه خاتمة المفسرين، المولود سنة 1217هـ، والمتوفى 1270هـ (أي هو عالم معاصر) رحمه الله تعالى، فقد كان: حريصاً على أن يزيد علمه في كل لحظة، لا يفتُر عن اكتساب الفوائد، واقتناص الشوارد (المسائل التي تذكر أثناء البحث في موضوع ما عرضاً)، فلنعرف كيف كان يمضي حياته (في يوم من أيامه):



فكان نهارُه للإفتاء والتدريس، وأولُ ليله لمنادمة مستفيد أو جليس، ويكتب بأواخر الليل ورقات من تفسيره، فيعطيها صباح اليوم التالي للكتاب الذين وظّفهم في داره -إذ لم تكن الطباعة منتشرة كما هي اليوم، بل كان هناك نُسّاخ ينسخون بأقلامهم- فلا يكملونها تبييضاً إلا في عشر ساعات، وكان يدرس في اليوم أربعة وعشرين درساً، وكان أيام اشتغاله بالتفسير والإفتاء يدرس في اليوم ثلاثة عشر درساً في كتب مطولة، وكان يؤلف حتى في مرضه الأخير كما ذكر عنه رحمه الله تعالى، وسلك مسلكه من بعد حفيده محمود شكري الآلوسي.



4-وكان الحافظ المنذري -رحمه الله- في حال الأكل، والكتاب والكتب عنده يشتغل فيها.



ويحتل الذِّروة في مقام المحافظة على الزمن ومعرفة نفاسته، وغلاء قيمته، والحرص على مِلء الأوقات بالأعمال الزاكيات، والاستفادة من الخَطَرات واللحظات، تأليفاً وتفكيراً، وتذكراً وتذكيراً ما جاء في أخبار ابن عقيل الحنبلي تلميذ الحافظ الخطيب البغدادي الذي قال: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في الثمانين، أشدّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.



5-وقال الأصمعي رحمه الله:



غدوت ذات يوم لزيارة صديق لي، فلقيني أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى، فقال لي:



إلى أين يا أصمعي؟ فقلت له: إلى صديق لي، فقال:



إن كان لفائدة (تحصيل علم أو أية فائدة واستفادة) أو لمائدة (لحضور وليمة دعيت إذ من السنة إجابة الدعوة)، أو لعائدة (عيادة مريض)، وإلا فلا، إن كانت هذه الزيارة لواحد من الاعتبارات المتقدمة فأنعم بها وأكرم، وأما إن كانت لأجل اللغو والثرثرة فاتركها.