حكم الحقد في الشريعة


أما حكم الحقد في الشريعة فإليكموه من هذه النصوص الشرعية: قال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد : باب الشحناء، والشحناء: هي العداوة إذا امتلأت منها النفس والبغض والحقد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا) وهذا الحديث مشهور موجود في الصحيحين وغيرهما، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تباغضوا ) وهذا النهي للتحريم، لا يجوز لك وحرام عليك أن تبغض أخاك المسلم. قال ابن رجب رحمه الله في شرح هذه اللفظة: ( لا تباغضوا ) نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم). وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )[المائدة:91] وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا) [آل عمران:103].

ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة، أي: لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، وكذلك رخصت الشريعة في الكذب في الإصلاح بين الناس، لدفع الحقد والبغضاء وإزالتها من القلوب. قال ابن رجب : ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب الله في الإصلاح بينهم كما قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114] ما أعظم الأجر الإصلاح بين الناس، اكذب لكي تزيل الضغينة والبغضاء من القلوب، قل: لم يقل فيك كذا، أنا كنت حاضراً وما ذكر هذه الكلمة، اكذب فإن الكذب هنا حلال. كل ذلك من أجل أن تلتئم قلوب المؤمنين، وأن تتصافى النفوس، وأن يكون المجتمع متآخياً مترابطاً على هدي هذه الشريعة.





آثار الحقد على الحاقد والمحقود عليه


تتخزن هذه الطاقة الكريهة في النفس، ويحتقن هذا الحقد في النفس، ويظل دفيناً يتحرك ويشتعل داخلياً كلما رأيت الإنسان الذي تحقد عليه، وكلما ذكر اسمه على مسمعك، أو تذكرت شيئاً من أفعاله وأقواله، أو مشهداً من المشاهد التي حصلت فيها لهذا الشخص مواقف معك، فيتفاعل عندك هذا الخلق (الحقد). والمسألة باختصار: اختزان وإمساك العداوة والبغض في القلب واستمرار تفاعلها. وهذا المرض له آثار مدمرة على نفس الحاقد؛ لأنه يشغل القلب ويتعب الأعصاب، ويقلق البال، ويقض المضجع، وقد تظلم الدنيا في وجه الحاقد وتضيق به على سعتها، وتتغير معاملته حتى لأهله وأولاده؛ لأن الحقد يضغط عليه من كل جانب، وقد تتسع دائرة الحقد لتشمل الأبرياء كما لو كرهت امرأة زوجها لإهانته وشتمه لها وتعذيبها فقد تكره جميع الرجال، أو يظلم والد ولده ويذيقه ألوان العذاب ويقسو عليه ويحرمه ألوان العطف والحنان، فيكره الولد كل الآباء ... وهكذا.

والحقد في الغالب يكون بين الأقران، ولذلك فالضرة تحقد على ضرتها، والفقير يحقد على الغني، وكل من سلب نعمة يحقد على من أنعم الله عليه بها وهكذا، وكل صاحب رئاسة يحقد على من ينازعه الرئاسة، وكل إنسان يحقد على من يتفوق عليه بشيء. وإذا كان للحاقد سلطة أو قوة فإنه يسعى للانتقام من كل من يظن أنه عدو له، والحاقد فيه شبه من الكفار الذين قال الله فيهم: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) [آل عمران:119] تأمل هذه الصورة الكريهة الشنيعة التي ذكرت في القرآن: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران:119] أي: أن هذا الحاقد المغتاظ يعض أنامله على من يحقد عليه.


الحقد داء دفين ليس يحمله إلا جهول مليء النفس بالعلل


مالي وللحقد يشقيني وأحملـه إني إذاً لغبي فاقد الحيل


سلامة الصدر أهنا لي وأرحب لي ومركب المجد أحلى لي من الزلل


إن نمت نمت قرير العين ناعمها وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي


وأمتطي لمراقي الجد مركبتي لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي

فهذا التبرؤ أو هذا الشفاء من الحقد نعمة من الله سبحانه وتعالى، وليس أهنأ للمرء في الحقيقة ولا أطرد لهمومه ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب بريئاً من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد، ومستريحاً من نزعات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش كما يتسرب الماء من الإناء المثلوم.




معنى الحقد وما ينبني عليه

الحقد من معانيه الضِّغْنُ والانطواء على البغضاء، وإمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها، أو سوء الظن في القلب على الخلائق؛ لأجل العداوة أو طلب الانتقام، والغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي فوراً رجع إلى الباطل، واحتقن في النفس فصار حقداً. والحقد من مرادفاته: الضغينة، والغل، والشحناء، والبغضاء ... وغيرها. وموضوع الحقد موضوع خطير جداً؛ لأنه يودي إلى مهالك، الحقد قد يتداخل مع الحسد والغضب، ولكن هناك اختلاف، فالحقد رذيلة بين رذيلتين؛ لأنه ثمرة الغضب، أي: يتولد من الغضب، وهو يثمر الحسد ويؤدي إليه، فاجتمع في الحقد أطراف الشر.

والحقد حين تحليله أيها الإخوة يتبين من عناصره ما يلي:

أولاً: الكراهية الشديدة والبغض العنيف.
وثانياً: الرغبة في الانتقام وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد.
وثالثاً: تخزين العنصرين السابقين في قرارة النفس، وتغذيتهما بالأوهام والتصورات والاسترجاعات المختلفة للمشاهد، مع مثيرات جديدة للكراهية والرغبة في الانتقام. تتفاعل هذه كلها تفاعلاً يأكل نفس الحاقد من الداخل، وتتغلغل هذه الدوافع في النفس تغلغلاً يسبب التآكل الداخلي والانهيار في النهاية في نفس الحاقد. ولكي نبين كيف يتولد الحقد من الغضب، نقول: إنك قد تغضب على إنسان، أو إن الشخص قد يغضب على أخيه، أو على إنسان فيريد الانتقام منه، فإذا لم يستطع أن ينتقم منه ليشفي غيظ قلبه ويثأر لنفسه، ولم يستطع أيضاً أن يصفح عنه ويسامحه؛ لأنه لا يقدر على ذلك ماذا يحدث؟