وإذا دار الحكم بين أمرين واشتبه على الفقيه فليعلم أن الشريعة مع الحكم الذي يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة ، هذا فيما ليس فيه نص صريح ، والورع في الفتوى هو مقتضى ما ذكر ، وفي هذا يقول ابن تيمية : إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها . والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما . أ.هـ. (63)

المبحث الرابع : قاعدة :لاطلاق في إغلاق :
وهذه القاعدة العظيمة مستخرجة من حديث نبوي كريم ، فقد روت عائشة رضي الله عنها قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "لاطلاق ولا عتاق في إغلاق". أخرجه الإمام أحمد (64) ، أبوداود (65) ، وابن ماجه (66) ، والحاكم (67) ، والبيهقي (68) ، وابن أبي شيبة (69) ، والدارقطني (70) ، وأبو يعلى (71) ، وصححه الحاكم على شرط مسلم (72) ، ولم يوافقه الذهبي لوجود رجل ضعيف في سنده (73) ، وحسنه الألباني بمجموع طرقه (74)

وفي معناه ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله".أخرجه الترمذي (75) ، وفي سنده ضعف ، وصحح الألباني بعض طرقه.(76)

والعته نوع من إغلاق العقل وحجب القوة المدركة.
وفي معناه حديث علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل.أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم (77) قال الترمذي :حسن. وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، وصححه ابن حبان (78) ، وأخرجه البخاري موقوفا معلقا بصيغة جزم ، (79). وصححه الألباني (80) .
فدل الحديث أن مناط التكليف الإدراك والعقل ، وما ذكر ليس بحاصر ؛ بدليل الأدلة الأخرى.
وفي معناه حديث : ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".أخرجه الحاكم على شرط الشيخين (81) ، وابن حبان في صحيحه (82) ، والدارقطني (83) ، وحسنه النووي (84) ، وقال ابن كثير : إسناده جيد وضعفه أبو حاتم (85) .

وأخرجه ابن ماجه عن أبي ذر الغفاري (86) .والبيهقي عن ابن عمر (87) بلفظ (وضع عن أمتي) (88) .
وقد بوب البخاري رحمه الله (باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه) .
قال ابن حجر في وجه المناسبة للترجمة : ومن هنا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة ؛ لأن الوسوسة لا اعتبار لها عند عدم التوطن ، فكذلك المخطئ والناسي لا توطن لهما ، ... وأجاب الكرماني بأنه أشار إلى إلحاق النسيان بالوسوسة ، فكما أنه لا اعتبار للوسوسة ؛ لأنها لا تستقر ، فكذلك الخطأ والنسيان ، لا استقرار لكل منهما ، ويحتمل أن يقال : إن شغل البال بحديث النفس ينشأ عنه الخطأ والنسيان ، ومن ثم رتب على من لا يحدث نفسه في الصلاة ما سبق في حديث عثمان في كتاب الطهارة من الغفران .أ.هـ.


قال ابن حجر : وهو حديث جليل قال بعض العلماء : ينبغي أن يعد نصف الإسلام؛ لأن الفعل : إما عن قصد واختيار ، أو لا. الثاني ما يقع عن خطأ ، أو نسيان ، أو إكراه فهذا القسم معفو عنه باتفاق ، وإنما اختلف العلماء هل المعفو عنه الإثم ، أو الحكم ، أو هما معا ؟ وظاهر الحديث الأخير، وما خرج عنه كالقتل فله دليل منفصل. (90)

وعلى هذا تدل الأحاديث السابقة وما في معناها من الأحاديث من أن الأحكام لاتنفذ مع وجود عوارض للأهلية ، والمسحور أولى بالعفو من الناسي والمخطئ ؛ لأنه غير مكلف في حال طلاقه ، ومغلق على عقله .
أقوال العلماء في تفسير الإغلاق :
القول الأول : أنه الإكراه ، وهو قول علماء الحجاز.
القول الثاني : أنه الغضب ، وهو قول أهل العراق.
القول الثالث : أنه جمع الثلاث بكلمة واحدة.

القول الرابع : أنه الجنون .
القول الخامس : أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده وتصوره ، كالسكران والمجنون والمبرسم والمكره والغضبان ، وغيرهم ، ورجحه ابن القيم ، وعليه يحمل كلام المتقدمين ممن فسره بأحد أنواعه ، وأنهم لم يريدوا الحصر، وإنما أجابوا بحسب السؤال الوارد لهم (91) .

قال ابن القيم : التحقيق أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده وتصوره كالسكران والمجنون والمبرسم والمكره والغضبان , فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق , والطلاق إنما يكون عن وطر ; فيكون عن قصد المطلق وتصور لما يقصده , فإن تخلف أحدهما لم يقع طلاق , وقد نص مالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه فيمن قال لامرأته " : أنت طالق ثلاثا " ثم قال : أردت أن أقول إن كلمت فلانا , أو خرجت من بيتي بغير إذني , ثم بدا لي فتركت اليمين , ولم أرد التنجيز في الحال , أنه لا تطلق عليه , وهذا هو الفقه بعينه ; لأنه لم يرد التنجيز , ولم يتم اليمين . وكذلك لو أراد أن يقول " أنت طاهر " فسبق لسانه فقال : " أنت طالق " لم يقع طلاقه , لا في الحكم الظاهر , ولا فيما بينه وبين الله تعالى , نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين.أ.هـ.