و نجده محط اجماع قريش.. عندما اختلفوا على من ذا الذي ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه بعد أن أعادوا بناءها.. و كان هو ممن شاركوا في البناء..
اختلفوا.. و كادت أن تقوم بينهم حرب أهلية.. و ما أهون أسباب الحروب التي تطول عشرات السنين عند العرب.. حروب تستمر لأجيال متتالية لسبب بسيط..
فقالوا نحكم بيننا أول من يدخل من باب الحرم.. و كان أول الداخلين محمد .. فقالوا جميعا "الأمين .. ارتضيناه حكماً"..
قصة نسمعها كثيرا ولا ننتبه الى عمق مغزاها.. فلنقف معها ، نتأمل سويا ..
في ظاهر الأمر.. أن النبي كان أول من دخل عليهم قدَراً.. مصادفة..و المصادفة لون من ألوان القدر.. ولا فضل له في ذلك.. و الحقيقة أن المسألة أكبر من ذلك..
المسألة .. هي أنه من ذا الذي قال بأن العرب ينزلون على رأي من اتفقوا بتحكيمه ان خالف هواهم؟ ألم تقم بينهم حرب داحس و الغبراء 70 سنة لمجرد أنهم رفضوا أن ينزلوا على رأي لجنة التحكيم في سباق بين الإبل؟.. اللجنة تقول بأن بعير أو ناقة فلان هو أو هي من فاز بالسباق.. و أحد المشاركين يرى أنه ظلم و ناقته أو بعيره هو الذي سبق.. فقامت الحرب التي استمرت لثلاث أجيال متتالية!.. هؤلاء.. أكانوا ينزلون على حكم محمد لمجرد أنه تصادف أنه أول من يدخل عليهم من باب الحرم؟؟؟
ثم نقطة أخرى عجيبة.. و مهمة.. و هي أن النبي لما حكم بينهم ماذا فعل؟.. خلع عباءته هو.. و هو من فرشها.. و هو من أمسك بالحجر الأسود ووضعه على العباءة.. و طلب منهم أن يمسك كل منهم بطرف من العباءة و يحملوها سويا.. و عند موضع الحجر الأسود.. أخذه هو ووضعه بنفسه...! .. أليس محمد من بني عبد المطلب؟.. و أليس بنو عبد المطلب ممن شاركوا في بناء الكعبة و أيضا ممن اختلفوا على من ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه؟ أليس بهذه الطريقة بنو عبد المطلب هم من نالوا هذا الشرف في النهاية؟.. هل فات قريش ذلك؟ لا أظن..
اذن ما السبب؟ لماذا رفضوا أن يقوم بهذه المهمة أي أحد منهم.. ووافقوا على محمد تحديدا..؟
السبب.. و السر.. فاض من قلوبهم الى ألسنتهم.. لأنه "الأمين"..لأنهم يعلمون أنه لا يطلب شرف الدنيا.. أنه لا يحمل أجندة أو أهدافا شخصية خفية.. ليقينهم.. أنه لا يطمع فيهم.. ولا في ما في أيديهم.. انسان لم يؤثر عنه أنه اختلف مع أحد قط أو جادل أحدا قط لهدف في نفسه..
و هنا لنا وقفة خطيرة جدا.. لماذا تفرقوا على الناس و اجتمعوا عليه؟.. لأنهم يعرفونه.. كيف يعرفونه؟.. لأنه شخص فعال في المجتمع متفاعل معه و ليس منعزلا عنه.. لم يكن شخصا غافلا يقبع في بيته ولا دور له فيما يدور حوله..
كما أنهم كانوا يعلمون يقينا أمانته.. فقد كانت أماناتهم عنده حتى يوم الهجرة.. يحاربونه و يجتمعون على قتله و أماناته عندهم.. لم؟.. لأنهم يعلمون يقينا أنه لا يراهم غنيمة مستباحة.. هذا هو الاسلام.. أن يعلم عدوك أنك لا تراه غنيمة مستباحة لأنك صاحب مبادئ.. أن يرى عدوك أن أمنه بين يديك أنت.. لأنك صاحب عقيدة.. تحب الخير للناس.. تكره من الناس ذنوبهم و أخطاءهم ولا تكرههم لذواتهم.. لذا لا نعجب أبدا حين نرى النبي يدعوا و يقول "اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين اليك"و يقصد عمر بن الخطاب و عمرو بن هشام "أبو جهل" و هم يومها أعدى أعداء الإسلام.. لم يدع عليهم.. ليس هذا هو الاسلام.. بل النفس الأمارة بالسوء هي التي تنازعنا في الدعاء على الناس.. أما الاسلام.. فيجعل عدوك يشعر بمنتهى الأمن و هو بين يديك أنت.. الاسلام .. عاطفة تأسر من أمامك في أنس منك.. و هذا شئ سنراه مرارا و تكرارا في رحلتنا مع النبي.. ليس الاسلام ولا الالتزام أبدا أن نتسبب في أن يكره الناس الدين لأنهم يكرهوننا.. بأن نكون حجر عثرة أمام التزام الآخرين.. أن نكون على حال استعاذ منها سيدنا ابراهيم في قوله تعالى "رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "
بل يجب أن يطمع الناس دائما في كرم المسلم.. أن تكون صاحب الفضل دائماً.. ولا تمل الفضل.. ولا تمنن تستكثر.. أنفق و أعطِ و خالق الناس بخلق حسن .. كن كالشجرة.. يرميها الناس بالحجر.. فترميهم بالثمر.. لماذا؟؟ لأنك صاحب دعوة.. لأنك ترجو أن يهديهم الله و تطمع في الأجر من الله سبحانه و تعالى.. لأنك تحب النبيو تقتدي به..




رأينا سويا تلك الفترة الشديدة الأهمية في حياة النبي .. فترة صناعة و بناء الشخصية المحمدية.. فترة جمع الله فيها لرسوله كيف درب كفاءته و فعاليته في المجتمع.. و كيف عرفه بالناس و عرف الناس به.. و كون خصائصه و خصاله النفسية و العملية .. و كيف شكل منه قوة يحترمها الناس جميعا.. يحكم بين الناس فيأتي حكمه صوابا.. يحمل أمانات الناس.. يفضله الغلمان و العبيد على آبائهم.. يفضلون الرق معه على الحرية عند آبائهم و أمهاتهم.. كيف أنه كان يشارك في أمور جامعة.. محمد في ندوات قريش و مجالسهم و حلف الفضول و حرب الفجار. بل يهدم و يبني الكعبة و يحكم مع من يحكم فيها..
و لكن ليس ثمة محمد أبدا في مجلس خمر ولا في خيمة زنا ولا في لهو صبيان ولا في عرس حتى و هو صغير السن.. محمد موجود مع ضعفة الغلمان في صفاء الجو و هو يرعى الغنم.. يتعلم معهم الرحمة يتعلم الرفق.. لكنه ليس معهم اذا اتجهوا الى الفحش من القول أو الى الفساد منه. رجل أعده الله تعالى اعدادا... حماه حماية.. ينشأ مكرما.. يتيما ضعيفا منكسرا لكنه مكرم فتتفجر عنده الرحمة.. و ينشأ متحملا للمسئولية لا مدللاً.. و يسافر ليعمل في التجارة الخارجية في شمال الجزيرة العربية و يمكث في سوق مكة ليعمل في التجارة الداخلية.. فيتعلم من بقائه في السوق قوانين السوق الواحدة الثابتة و المترددين عليه و الوافدين و القبائل و الناس.. و يتعلم من السفر أخلاق السفر و كيف يكون غريبا في بيوت الناس لأنه غدا يكون غريبا في يثرب و هو يعيش حياة المهاجر..
كانت هذه طفولة و صبا و شباب النبي ..
و حتى نلتقي.. لا تنسونا من صالح دعائكم..