3- كل عبادة وردت مقيّدة فإطلاقها بدعة.


تأتي بعض العبادات مقيّدة بسبب معين، أو بمحل معين، فإذا طردها البعض دائمًا، أو في محل غير ما قيدت به، صارت بدعة من هذا الوجه.
مثال ذلك أن الطواف لم يشرع إلا حول الكعبة، ولم يشرع السعي بين جبلين سوى الصفا والمروة، فلو طاف أحد حول غير الكعبة، أو سعى بين جبلين آخرين فهذه بدعة.
قال ابن رجب: (وليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قائمًا في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنّه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقعد ويستظل وأن يتم صومه(46)، فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرهما... مع أنّ الصيام عبادة في مواضع أخرى كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم، فدلّ على أنّه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنّما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها) (47).


4- تغيير الحدود الشرعيّة المقدّرة: بدعة.


الأحكام الشرعية الثابتة المقدرة كأنصبة المواريث، وعقوبات ارتكاب موجبات الحدود جعلها الشارع أحكامًا ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل، فالتغيير فيها ابتداع في الدين، كمن زاد في الصلاة المفروضة، أو نقص منها، أو غير أنصبة الزكاة مثلاً.


5- دلالة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليست نوعًا واحدًا، بل هي أنواع، فمنها ما يدل على الندب فيسنّ التأسي به فيها، ومنها ما يدل على إباحة الفعل فقط.
فأفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يظهر منها قصد التقرّب إلى الله، وليست بيانًا لأمرٍ وارد في القرآن، قد اختلف أهل العلم في دلالتها، فذهب جمهور أهل العلم على أنها تدل على رفع الحرج والإباحة فقط(48). وهذا هو الراجح (فإنّ الصحابة رضوان الله عليهم وهم أعلم الناس بالدين، وأحرص الناس على اتباع الرسول في كل ما يقرب إلى الله تعالى كانوا يشاهدون من النبي صلى الله عليه وسلم أفعالاً، ولما لم يظهر لهم فيها قصد التقرّب لم يتخذوها ديناً يتعبدون به ويدعون الناس إليه) (49).
وعليه فقصد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأفعال ليس مندوبًا ولا مطلوبًا. قال ابن تيمية: (تنازع العلماء فيما إذا فعل صلى الله عليه وسلم فعلاً من المباحات لسبب، وفعلناه نحن تشبّهًا به مع انتفاء ذلك السبب، فمنهم من يستحب ذلك، ومنهم من لا يستحبّه، وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه لأنّها كانت منزله، لم يتحرّ الصلاة فيها لمعنى في البقعة) (50).


6- سنّة النبي صلى الله عليه وسلم فعليّة وتركيّة.


(سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما تكون بالفعل، تكون بالترك، فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في فعله الذي يتقرب به كذلك طالبنا باتباعه في تركه، فيكون الترك سنة، والفعل سنة، وكما لا نتقرّب إلى الله تعالى بترك ما فعل لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فالفاعل لما ترك، كالتارك لما فعل، ولا فرق بينهما) (51).
وكذلك قد يقع الابتداع بالترك كمن يحرّم على نفسه شيئًا، أو يقصد تركه تدينًا، أو يتدين بضد ما شرع الله تعالى؛ لأن هذا معارضة للشارع، والله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" [المائدة:87].
ففي الآية أن تحريم الحلال اعتداء لا يحبه الله تعالى(52).


سادسًا: معاملة المبتدع.


أمر الله تعالى بالعدل مع العدو المخالف، فقال سبحانه: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".[المائدة :8]. وحَرّم الله تعالى إيذاء المؤمنين أو الإساءة إليهم فقال :"والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا" [الأحزاب :58].
فالكلام على الناس, والحكم على أقوالهم وأفعالهم, وتقرير طريقة التعامل معهم, أو الموقف منهم , مبناه العدل, والتزام أُصول وقواعد منهج أهل السنة.
قال ابن تيمية: (ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل , كان كلام أهل الإسلام والسنة مع الكفار وأهل البدع بالعلم والعدل , لا بالظن وما تهوى الأنفس) (53).
وقال: (وأئمة السنّة والجماعة , وأهل العلم والإيمان, فيهم العلم والعدل والرحمة, فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسٌنّة سالمين من البدعة... ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم, لا يقصدون الشر لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبيّنوا خطأهم كان قصدهم بذلك بيان الحق, ورحمة الخلق) (54).


ويمكننا من خلال تلمّس مواقف وأقوال أهل العلم أن نبيّن معالم أساسيّة لطريقة التعامل مع المبتدع والموقف منه:


1- فأول هذه القواعد أن البدع متفاوتة وليست مرتبة واحدة , وهذا سبق بيانه, وأصحاب البدع الذين خالفوا السنة في أصول عظيمة ليسوا كمن خالفها في أمور دقيقة , وبناءً عليه يراعى في التعامل مع أصحاب البدع مدى مخالفة بدعهم للسنة.
قال ابن تيميّة: (وأصحاب ابن كُلاّب كالحارث المحاسبي , والقلانسي ونحوهما خير من الأشعريّة , وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل) (55).
وقال: (متكلّمة أهل الإثبات من الكلابيّة والكراميّة والأشعريّة... فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم. لكن من كان بالحديث من هؤلاء أعلم, كان بمذهب السلف أعلم , وله أتبع , وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها وقلة ابتداعها) (56).


2- إقامة الحجة شرط في التبديع.
فمن أتى ببدعة سواء كانت مكفرة دونها , فإنه لا يحكم عليه بمقتضى هذه البدعة, حتى تقام عليه الحجّة، يقول ابن تيميّة ( إنّي من أعظم الناس نهيًا أن يُنسب معيّن إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة , وفاسقًا أخرى , عاصيًا أُخرى , وإني أقرر أن الله غفر لهذه الأمة خطأها , وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبريّة القوليّة , والمسائل العلميّة , وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية) (57).


3- لا يلزم أن يكون غير المبتدع أفضل منه.
فالتفاوت في درجات العباد , والتفاضل بينهم يكون بحسب تفاضلهم في الأعمال الصالحة , وما يقوم بقلوبهم من إيمان وصدق وإخلاص.
والمبتدع مع أنه قد لا يأثم ببدعته إذا كان متأوّلاً مجتهدًا، أو لم تقم عليه الحجّة، مثلاً.
فإنه لو كان آثماً ببدعته فإن إثمه فيها كسائر المعاصي التي تقع من العباد.
يقول ابن تيميّة: (ليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجّهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته) (58).
فليس مجرد عدم الابتداع معياراً للتفضيل، وإن كان من أسباب الفضل؛ لأن الشخص الواحد قد يجتمع فيه ما يثاب عليه وما يعاقب عليه، والعبرة بالراجح منهما. يقول ابن تيميّة: (إذا اجتمع في شخص واحد خير وشر، وطاعة وفجور، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة) (59).
وهذا باب من العدل والإنصاف عظيم يمتاز به أهل السنة.


4 – لا يلزم من وقوع الشخص في بدعة، ولا من انتسابه لطريقة مبتدعة أن يخرج عن أهل السنة.
إذ ارتكابه للبدعة متى كان عن اجتهاد تأول لا يجعله مبتدعاً آثماً، مع أنه ينكر عليه ويبيّن خطؤه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) (60).
وقد قرّر ابن تيمية أن كثيراً من مجتهدي السلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة لسبب من الأسباب وهذا جعلهم معذورين(61) يشملهم قول الله تعالى: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا". [البقرة:286].
والبدع غير المغلّظة لا يكون مرتكبها خارجا عن أهل السنة وعن الفرقة الناجية، ولو كان آثماً ببدعته قال ابن تيميّة: (وأمّا المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلّظة، بل دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة, وما كانوا يُعَدّون إلا من أهل السنة، حتى تغلّظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلّظة) (62).
ووقع بين برهان الدين ابن العلامة ابن القيّم، وبين ابن كثير رحمهم الله تعالى جميعاً منازعة، فقال له ابن كثير: أنت تكرهني لأنني أشعري. فقال له: لو كان من رأسك إلى قدميك شَعْر ما صَدّقك الناس في قولك أنك أشعري وشيخك ابن تيميّة ! (63).
فمن كان قوله واعتقاده موافقاَ لمنهج أهل السنة فإنه لا يخرج عنه بمجرّد انتسابه لطائفة معينة تخالف أهل السنة. إذ العبرة بالحقائق والمعاني لا بمجرد الانتسابات والألقاب.


5 – مراعاة المصالح والمفاسد.
الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، وهي ترجح خير الخيرين وتدفع شر الشرين.
ولا يسوغ في هذه الشريعة دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع الضرر الخفيف بتحصيل ضرر عظيم.
وهذا الضابط يراعى – مع ما سبق – في طريقة الإنكار والاحتساب، وفي الاجتماع أو الاتفاق على شيء مخصوص، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما، لأن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء بإمام فاجر أو مبتدع(64).
وعلى كل حال فالنظر للمصالح والمفاسد من أصول التعامل مع المبتدع، فينظر في العمل هل مصلحته راجحة بحيث يفضي إلى ضعف الشر، فيكون مشروعاً، أو أنّه يزيد الشر فلا يكون مشروعاً، وهذا بلا شك يتفاوت بتفاوت الأحوال والمصالح.
وبعد، فهنا وقف القلم، وفي كل مسألة مما تقدّم مجال للقائلين، وموضع بسط للمتناولين، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعُنق!.