~~في هذه الأوراق القليلة عرض وبيان لمسائل متعلّقة بهذا الأصل من أصول الاعتقاد نستعرضها بشكل موجز من خلال ست فقرات أساسية~~:


أوّلاً: تعريف البدعة:


البدعة: اسم هيئة من: بَدَع، وهو ابتداء الشيء وصُنْعُهُ لا عن مثالٍ سابق(5). وفي أسماء الله تعالى: البديع، وهو: الخالق المخترع(6).
والعرب تقول: ابتدع فلانٌ الرَّكيّ، إذا استنبطه(7).
قال تعالى: "ما كنت بدعًا من الرسل" [الأحقاف:9] أي: ما كنت أوّل المرسلين.
والبدعة في الاصطلاح العامّ: خلاف السُّنة(8).
وتطلق على الحدث في الدين بعد الإكمال، وما استحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال(9).
وعلى هذا، فإنّ البدعة قد تكون لغويّة فحسب، فتطلق على كل مستحدث كالمخترعات الحديثة مثلاً، وقد تكون في الاصطلاح العام، فتطلق على كل ما خالف السنة، ولو لم يكن بدعة ضلالة محرّمة، كمن يترك سنّة من سنن الوضوء، فهذا يصح أن يقال عن صفة وضوئه أنّه بدعة بمعنى أنه خلاف السُّنة وإن لم يكن مبتدعًا بالمعنى الاصطلاحي الخاص.
قال ابن الأثير: (وأكثر ما يُستعمل المبتَدَع عرفًا في الذمّ، أي أنّه إذا أطلق لفظ البدعة فإنّه يراد به المذموم شرعًا) (10).


والبدعة بالمعنى الاصطلاحي عُرّفت بعدة تعريفات، منها:


- تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بأنّها ما خالف الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات(11).
- وتعريف الشاطبي بأنها: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعيّة، يقصد من السلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى(12).
ومراده بتضاهي الطريقة الشرعيّة يعني: تشابهها.
- وعَرفّها ابن رجب بأنّها: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه(13).
- وعُرّفت بأنها: كل تعبّد لله على خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قولاً وعملاً واعتقاداً(14).
وبأنها: العبادة التي لم يشرعها الله سبحانه وتعالى(15).
والجامع لكل التعريفات السابقة أن البدعة محدثٌ - لا دليل عليه - مضاف للدين.
سواء كان فعلاً أو قولاً أو اعتقاداً(16).


ثانياً: حكم البدعة :


- البدعة: -بالتعريف المتقدّم– محرمة؛ قال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) [الشورى:21]. فقد أخبر الله تعالى أن المشركين أحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله. فلم يفردوه بالتشريع (وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صَيّر نفسه نظيراً مضاهياً لله , حيث شَرع مع الشارع , ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع) (17).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (18).
وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (19).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (خير الحديث: كتاب الله، وخير الهدي: هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة) (20). وفي رواية: (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) (21).
قال ابن رجب: (فقوله: كل بدعة ضلالة، من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين... فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة) (22).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة) (23).
وقد وردت عن الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة نصوص متكاثرة في النهي عن الابتداع وذم البدع وأهلها، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) (24).
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: اتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن سبقتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، وإن تركتموه يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا(25).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة(26).
وقال أبو إدريس الخولاني: لأن أرى في المسجد نارًا لا أستطيع إطفاءها، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها(27).
فالنصوص المتكاثرة تفيد قاعدة شرعية وتقررها على أتم وجه، وهي أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يرد الدليل الشرعي عليها، فلا يتعبد لله تعالى إلا بعبادة دل الدليل عليها سواء من أصلها أو من جهة عددها أو هيئتها(28).
قال ابن تيمية: (البدع هي مبادئ الكفر، ومظانّ الكفر، كما أنّ السُّنن المشروعة هي مظاهر الإيمان) (29)
ومع أن البدعة محرمة فقد تبلغ بصاحبها للكفر، في البدع المكفرة.
- كاعتقاد بعض المبادئ الكفرية كمقالات الفلاسفة مثلاً، وكالطواف على القبور بقصد التقرّب لأصحابها ونحو ذلك – فليست البدع مع تحريمها على رتبة واحدة(30).
- أما البدعة بالمعنى اللغوي وهو كل مستحدث، وبالمعنى الاصطلاحي العام وهو ما خالف السنة، فهذا قد يكون جائزًا، لا يترتب الإثم عليه، وقد يكون مكروهًا أو محرمًا.
فمن أمثلة الجائز ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن الجمع بين أنواع الأدعية الواردة على صفات متنوعة، وأنّ بعضهم لَفّق لفظ الدعاء الذي عَلّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لما قال له قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً – وفي رواية كثيراً – ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنّك أنت الغفور الرحيم. فقال يستحب أن يقول: كثيراً، كبيراً. قال: (هذا ضعيف؛ فإن هذا ليس بسُنّة، بل خلاف المسنون، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَقُل ذلك جميعه جميعاً، وإنما كان يقول هذا تارةً، وهذا تارةً – إن كان الأمران ثابتين عنه – فالجمع بينهما ليس سنّة، بل بدعة، وإن كان جائزاً) (31).
ومن استعمال المعنى اللغوي للبدعة قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جمع الناس لصلاة التراويح: (نعمت البدعة هذه) (32).
قال ابن رجب: (ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغويّة لا الشرعيّة) (33).
ومن استعمال الاصطلاح العام بمعنى مخالفة السنة قول ابن عمر رضي الله عنهما لما سُئِل عن صلاة الناس الضُّحى، قال: (بدعة) (34).
قال الحافظ ابن حجر: (.. إنما أنكر ابن عمر ملازمتها، وإظهارها في المساجد. وصلاتها جماعة؛ لأنها مخالفة للسُّنّة) (35).
وكذلك قول عمر بن عبد العزيز: إظهار المعازف والمزمار: بدعة في الإسلام(36).
فالحاصل أن البدع كلها محرمة، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: كل بدعة ضلالة، وما سمي بدعة ولم يطلق عليه وصف الذم والتحريم فهو ليس بدعة في الدين.


ثالثًا – دخول البدعة في الاعتقاد والعمل.


الإحداث في دين الله تعالى يكون في الاعتقادات وفي الأعمال.
فالبدعة الاعتقادية: اعتقاد خلاف ما أخبر الله ورسوله(37). فالصحابة قد تلقوا المسائل الاعتقادية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاها عنهم التابعون، حتى صارت جملة المسائل الخبرية محفوظة، فمن خالف اعتقادهم فهو مبتدع.
ومثال ذلك أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، وخالف في ذلك بعض الناس، فأخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، فهذه بدعة اعتقادية.
وأما البدعة العملية فهي التقرب إلى الله تعالى بما لم يشرعه الله ولا رسوله، كتخصيص يوم بعبادة معينة كليلة السابع والعشرين من رجب أو الثاني عشر من ربيع الأول أو نحو ذلك.
والبدعة سواء كانت عملية أو اعتقادية قد تكون في أمر كلي في الدين، وقد تكون دون ذلك وبهذا تخرج من الفرقة الناجية أو لا تخرج فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وستفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) (38).
قال الشاطبي: (هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزيئات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية.. ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا كثر من إنشاء الفروع المخترعة، عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً، وأما الجزئي فبخلاف ذلك، بل يُعد وقوع ذلك من المبتدع كالذلة والفلتة) (39).


رابعاً: ـ انقسام البدعة إلى حقيقية وإضافية.


الإحداث في الدين قد يكون باختراع شيء جديد مطلقاً وإدخاله في الدين، فيكون العمل كله بدعة لا دليل عليها، لا في الجملة ولا في التفصيل، ومثالها: التقرب إلى الله تعالى بالرهبانية، ونحو تحكيم العقل ورفض النصوص في دين الله تعالى، فهذه تسمى: بدعة حقيقية.
وقد يكون للبدعة شائبة من الأدلة، لكن أضيف لها وألصق بها ما ليس عليه دليل، فمن جهة الأصل عليها دليل، ومن جهة ما أضيف إليها -من كيفية أوصفة أو تفاصيل- لا دليل عليها، فهذه تسمى: بدعة إضافية، ومثالها: تخصيص يوم ـ لم يخصه الشارع ـ بصوم، فإن أصل الصوم في ذاته مشروع، وتخصيصه بيوم مخصوص ـ لم يخصه الشارع به ـ بدعة. (فصاحب البدعة الإضافية يتقرب إلى الله تعالى بمشروع وغير مشروع. والتقرب إلى الله يجب أن يكون بمحض المشروع) (40).
قال ابن تيمية: (البدعة لا تكون حقاً محضاً؛ إذ لو كانت كذلك، لكانت مشروعة، ولا تكون مصلحتها راجحة على مفسدتها؛ إذ لو كانت كذلك، لما اشتبهت على أحد، وإنما يكون فيها بعض الحق وبعض الباطل) (41).


خامساً: ـ قواعد في معرفة البدع.


التعرف على البدع أصلٌ للحذر منها، فإن تمييز البدعة وضبطها بضوابط عامة يعين على التعرف على أفراد البدع، ليتأتى الحكم عليها، ويمنع من أن يدخل فيها ما ليس منها، وقد حاول عدد من الباحثين تقصي ضوابط التعرف على البدع، فمقل ومكثر(42)، وقد انتقيت مما ذكره أهل العلم جملة قواعد حسبت أنها أحق ما يحتاج لمعرفته.


1ـ العادة المحضة لا يدخلها الابتداع.


من مقررات اعتقاد أهل السنة اعتقادهم الحكمة في أفعال الله تعالى، فربنا سبحانه حكيم عليم بمصالح خلقه، لا يأمر بشيء إلا لحكمة قد يعرفها العباد وقد يجهلونها.
فالأحكام الشرعية الواضحة العلة والحكمة كالبيع والنكاح ونحوها، تسمى: عادات، أو أمور عادية، وأما المجهولة العلة التي شرعت من أجلها. وإن علمنا شيئاً من مصالحها ـ فهذه هي التعبديات أو الأمور التعبدية. فالعبادات لا إشكال أن الإحداث فيها ابتداع مذموم كما تقدم. وأما العادات فإنها إن تمحضت عادة، ولم يكن فيها شائبة تعبد لم يدخلها الابتداع، وإن كان فيها شائبة تعبد فقد يدخلها الابتداع في هذه الشائبة. ومثال ذلك النكاح، فإنه من العاديات، فإن أحدث في الذي ليس فيه شائبة تعبد منه، لم يكن بدعة مذمومة، مثل إقامة الزواجات في أماكن معينة، وكالتوسع في التكاليف، أو اتخاذ عادة في الاجتماع له ونحو ذلك. وأما إن حصل الإحداث في الذي فيه شائبة التعبد منه، فهو بدعة، كما لو ألغى المهر عن الزوج، وألزمته به المرأة؛ لأن الشرع قيد النكاح بمثل هذا القيد، فلم يكن للمكلف اختيار فيه، بخلاف الأول، فالعادة من حيث هي عادة لا بدعة فيها. ومن حيث التعبد بها أو وضعها وضع التعبد تدخلها البدعة(43).


2ـ كل عبادة وردت مطلقة فتقييدها بدعة.


فالشرع قد حث على عبادات وأطلق وقت أدائها، فصلاة الليل عبادة مشروعة في كل ليلة، وصيام النفل المطلق مندوب إليه كل يوم، فمتى قيدت هذه العبادة، كأن خص القيام بليلة الجمعة مثلاً، أو الصيام بيوم كالجمعة من كل أسبوع، دون معنى يخصه، فإن تخصيصه بذلك بدعة إضافية.
قال أبو شامة: (لا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضّله الشرع، وخصّه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها كصوم يوم عرفة وعاشوراء(44)
وقال ابن تيمية: (من أحدث عملاً في يومٍ كإحداث صوم أول خميس من رجب، والصلاة في ليلة تلك الجمعة.. فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد القلب؛ وذلك لأنه لابد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله، وأن الصوم فيه مستحب استحبابًا زائدًا.. إذ لو لا قيام هذا الاعتقاد في قلبه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة) إلى أن قال: (ومن قال إن الصلاة أو الصوم في هذه الليلة كغيرها، هذا اعتقادي، ومع ذلك فأنا أخصّها، فلابد أن يكون باعثه إما موافقة غيره، وإمّا اتباع العادة، وإما خوف اللوم له، ونحو ذلك، وإلا فهو كاذب... فعلمت أن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاؤوا به عن الله) (45).
أما لو استند التقييد إلى سبب معقول، كجعل قراءة القرآن في وقت معين لكونه أفرغ من الأعمال، أو أهدأ من الأوقات؛ بحيث لو زال هذا السّبب لزال التقييد، فإنه لا بأس به، ولا يكون من تقييد العبادة الذي يجعلها بدعة.