المطلب الثاني : تقرير مذهب المالكية :
قال صاحب الفواكه الدواني من المالكية : ثم شرع في الكلام على بعض ما يختص بالرجل بقوله : (ويؤجل المعترض سنة) بعد الصحة من يوم الحكم وإن مرض ، والعبد نصفها . والمعنى : أن الزوج إذا وجدته المرأة معترضا -وهو المسمى عند العامة مربوطا .أي : له آلة ، لكن لا تنتشر عند الوطء : إما بسحر ، أو مرض - , فإنه يضرب له أجل يتحيل فيه على إزالة اعتراضه ، وقدره سنة إن كان الزوج حرا , ونصفها إن كان عبدا , ... . ( فإن وطئ ) الزوج في تلك المدة ...( وإلا ) .. ( فرق بينها ) بطلقة بائنة ...( تنبيهات ) الأول : كلام المصنف في المعترض الذي لم يتقدم منه وطء قبل اعتراضه كما قدمناه , ولا فرق حينئذ بين كون اعتراضه سابقا على العقد ، أو متأخرا عنه , وأما لو وطئها سليما ثم حصل له الاعتراض بعد وطئه فلا خيار للمرأة ; لأنها مصيبة نزلت بها ... اللهم إلا أن تخشى على نفسها الزنا فلها التطليق ؛ لأن للمرأة التطليق بالضرر الثابت ولو بقرائن الأحوال....أهـ.(12)
وقال في التاج والإكليل : القسم الرابع من الكتاب في موجبات الخيار . وأسباب الخيار ثلاثة : العيب والغرور والعتق ..التلقين : العيوب التي تختص بالزوج أربعة عيوب : الخصاء والجب والعنة والاعتراض . فالمجبوب هو المقطوع ذكره وأنثياه. والخصي هو المقطوع أحدهما , والعنين هو الذي له ذكر لا يتأتى الجماع بمثله للطافته وامتناع تأتي إيلاجه , والمعترض هو الذي لا يقدر على الوطء لعارض ، وهو بصفة من يمكنه , وربما كان بعد وطء قد تقدم منه وربما كان عن امرأة دون أخرى ...من المدونة : من تزوج امرأة بكرا ، أو ثيبا فوطئها مرة ثم حدث له من أمر الله ما منعه من الوطء وعلم أنه لم يترك ذلك ، وهو يقدر عليه ولا يمين عليه فلا يفرق بينهما أبدا . أبو عمر : وكذلك إذا كبر الرجل وضعف عن الوطء لم يفرق بينه وبين امرأته..أ.هـ. (13)
وفي شرح مياره : والمعترض بصفة المتمكن ولا يقدر ، وربما كان بعد وطء ، وربما كان في امرأة دون أخرى ، وقد يفسر العنين بالمعترض . ( التوضيح ) ويقال للمعترض : المربوط .ويقال إن سببه السحر. وقوله : وقد يفسر العنين بالمعترض. أي : وقد يطلق الأصحاب لفظ العنين ويكون مرادهم به المعترض ...أ.هـ. (14)
كما ذكرها الخرشي في حاشيته من العيوب في الرجل وكذلك صاحب مواهب الجلـيل.(15)
وفي حاشية الجمل قال : ... إذا حكم القاضي عليه بالعنة ، أو منع عنها بالسحر والاسم منه العنة ... وفي المصباح وسمي الرجل عنينا؛ لأن ذكره يعن عن قبل المرأة ليمين وشمال. أي يعترض إذا أراد إيلاجه ، ويسمى عنان اللجام من ذلك ؛ لأنه يعن أي يعترض الفم فلا يلجه .أ.هـ. (16)
وبنحوه قال الدسوقي في حاشيته وصاحب بلغة السالك (17) .
المطلب الثالث : تقرير مذهب الشافعية :
في حاشية الشرواني ورد قولهم : والصرع نوع من الجنون كما قاله بعض العلماء ... أي فيثبت به الخيار .. ينبغي أن منه ، أو في معناه الصرع ويحتمل أن كون أحدهما مسحورا كذلك. أي :كالجنون ويحتمل أن يلحق بالإغماء .أ.هـ. (18)
فقد أثبتوا الخيار في حال العنة ، وهي في معنى الاعتراض ، كما أثبتوا الخيار في حال الجنون ، ولافرق إن كان من المس ، أو غيره (19) .
المطلب الرابع : تقرير مذهب الحنابلة :
والحنابلة مثل الشافعية في إثبات الخيار للمرأة بعيب العنة (بمعنى الاعتراض ) ، أو الجنون (20) .
أما إذا حصل له السحر بعد الزواج وبعد وطء صحيح فلا خيار لها كما سبق ، ومحل البحث حينها في حصول الفراق من قبله بالطلاق
المبحث الخامس :تقرير دخول الجان في بدن الإنسان : وفيه مطالب :
من عقائد أهل السنة والجماعة دخول الجان في بدن الإنسان ، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة ، واتفق عليه علماء أهل السنة ، وشهد به الواقع، وهو عند أهل الخبرة لايقبل الجدل؛ ولذا ترى الجان يتكلم بلغة لايعرفها الممسوس كالإنجليزية والفرنسية والهندية وغيرها، وتفصيل الأدلة كما يلي:
المطلب الأول : من الكتاب :
1.قوله تعالى : } (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ{.[البقرة :275]. أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان ، والخبط الضرب بغير استواء ، كخبط العشواء وهو المصروع ، والمس الجنون ، والأمس المجنون .قاله الشوكاني ثم قال : وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن الصرع لا يكون من جهة الجن ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وقال : إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه : من أن الشيطان يصرع الإنسان ، وليس بصحيح. وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ، ولا يكون منه مس ، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان كما أخرجه النسائي (21) ، وغيره.أ.هـ. (22) والمراد أنه أصابه جنون بسبب الشيطان ، والمس الجنون.(23)
2.وقد استدل بعضهم بقوله تعالى : } مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) } ، ورأوا أن ( في ) تفيد الظرفية ، فالوسوسة تكون من داخل صدور الناس(24) .
3.قوله تعالى : {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97){.[المؤمنون :97]أي أعتصم بك من نزعات الشياطين التي يصرع بها الرجل. (25) ويتضح هذا مع الحديث الآتي .
المطلب الثاني : من السنة :
1.حديث صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار ، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلكما. إنما هي صفية بنت حيي. فقالا : سبحان الله يا رسول الله ، وكبر عليهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ".متفق عليه.وفي لفظ : مجرى الدم.وفي آخر : كمجرى الدم. (26)
قال النووي : قال القاضي وغيره قيل هو على ظاهره ، وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان مجاري دمه. أ.هـ. (27)
قال ابن تيمية : وقال صلى الله عليه وسلم : "الصوم جنة" (28) .وقال :" إن الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم (29) فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم" (30) . أ.هـ.(31)
وقال :... ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب وإذا أكل ، أو شرب اتسعت مجاري الشياطين ; ولهذا قال : " فضيقوا مجاريه بالجوع " (32) .
وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعا . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين " (33) فإن مجاري الشياطين -الذي هو الدم -ضاقت ، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة ، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار ، وصفدت الشياطين ، فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره .ولم يقل إنهم قتلوا ولا ماتوا، بل قال : " صفدت " والمصفد من الشياطين قد يؤذي ، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان ، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه ، فمن كان صومه كاملا دفع الشيطان دفعا لا يدفعه دفع الصوم الناقص ، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب .والحكم ثابت على وفقه ، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف ، وتأثيره وهذا المنع منتف في الحقنة والكحل وغير ذلك.أ.هـ. (34)
قال ابن تيمية : وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته ، وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض ، فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من أهل الجهل والضلال ; ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ، ولم ينكروا وجود الجن ؛ إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا ، وإن كانوا مخطئين في ذلك . ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون : إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قــال تعالى : } (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ{.[البقرة :275]. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي . فقال : يا بني ، يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه . وهذا مبسوط في موضعه. أ.هـ.
وسئل رحمه الله هل الشرع المطهر ينكر ما تفعله الشياطين الجانة من مسها وتخبيطها وجولان بوارقها على بني آدم واعتراضها ؟ فهل لذلك معالجة بالمخرقات والأحراز والعزائم والأقسام والرقى والتعوذات والتمائم ؟ وأن بعض الناس قال : لا يحكم عليهم ; لأن الجن يرجعون إلى الحقائق عند عامرة الأجساد بالبوار ، وأن هذه الخواتم المتخذة مع كل إنسان من سرياني وعبراني وعجمي وعربي ليس لها برهان ، وأنها من مختلق الأقاويل وخرافات الأباطيل وأنه ليس لأحد من بني آدم من القوة ، ولا من القبض بحيث يفعل ما ذكرنا من متولي هذا الشأن على ممر الدهور والأوقات؟
فأجاب : الحمد لله , وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها . وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة .قال الله تعالى : } (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ{.[البقرة :275]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " (36) . وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن أقواما يقولون : إن الجني لا يدخل في بدن المصروع فقال : يا بني يكذبون هذا يتكلم على لسانه . وهذا الذي قاله أمر مشهور ، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه.
ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما . والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ، ولا بالكلام الذي يقوله ، وقد يجر المصروع وغير المصروع ، ويجر البساط الذي يجلس عليه ، ويحول آلات ، وينقل من مكان إلى مكان ، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان . وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره ، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك ، فقد كذب على الشرع ، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك.أ.هـ .
وقال : ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها مثل : من يدخل النار بحال شيطاني ، أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين ، وتتكلم على لسانه كلاما لا يعلم وربما لا يفقه. وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه ، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع ، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك، بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس ولبسه وتكلم على لسانه ، فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال .ولهذا قد يضرب المصروع ، وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي ، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء ؛ لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه.أ.هـ.
وقال : النوع الثاني : وهم أعظم : عندهم أحوال شيطانية تعتريهم عند السماع الشيطاني فتنزل الشياطين عليهم ، كما تدخل في بدن المصروع ، ويزيد أحدهم كما يزيد المصروع ، وحينئذ يباشر النار والحيات والعقارب ، ويكون الشيطان هو الذي يفعل ذلك ، كما يفعل ذلك من تقترن بهم الشياطين من إخوانهم الذين هم شر الخلق عند الناس من الطائفة التي تطلبهم الناس لعلاج المصروع ، وهم من شر الخلق عند الناس ، فإذا طلبوا تحلوا بحلية المقاتلة ، ويدخل فيهم الجن فيحارب مثل الجن الداخل في المصروع ، ويسمع الناس أصواتا ، ويرون حجارة يرمى بها ، ولا يرون من يفعل ذلك ، ويرى الإنسي واقفا على رأس الرمح الطويل . وإنما الواقف هو الشيطان ويري الناس نارا تحمى . ويضع فيها الفؤوس والمساحي ، ثم إن الإنسي يلحسها بلسانه ، وإنما يفعل ذلك الشيطان الذي دخل فيه ، ويرى الناس هؤلاء يباشرون الحيات والأفاعي وغير ذلك .أ.هـ
المفضلات