الطـريـــق الـى الحـــريـة

يقول الدكتور جان فانييه*

"الطريق الى الحرية يتصل كثيراً بالنبذ، فالنبذ هو الطريقة التي نرفض بها وننحّي أشخاصاً ينتمون الى هذه المجموعة أو تلك.إنه واقع ذاتي صرف.فبعض الاشخاص يفتنوننا لانّهم يحثّوننا ويسعون الى إرضائنا، وآخرون ينفّروننا لأنهم يخيفوننا، وربما لأننا نخيفهم.

نحن نثير بيننا مشاعر منافسة فننغلق وراء الحواجز،لانه يتراءى لنا أننا إذا انفتحنا على هؤلاء الاشخاص قد نخسر شيئاً أو ننجرح او نهاجم.

نحن ننجذب الى الاشخاص الذين يشعروننا بالأمان والذين يشاركوننا القيم نفسها، فحياتنا خاضعة نوعاً ما لما يعجبنا وما لا يعجبنا، للغرائز والرغبات الراسخة فينا... فنحن لسنا احراراً.

الحيوانات منقادة بغريزتها وهي تستشعر الخطر مباشرة من خلال رائحة أو صوت أو حركة غصن. ونحن ايضاً لدينا غرائز تساعدنا على استشعار الخطر أو الخروج من أوضاع صعبة أو إيجاد ما نحتاج اليه للبقاء على قيد الحياة.

ومن الناحية النفسية الصرفة، فنحن بحاجة ماسة الى صورة ايجابية عن أنفسنا. لهذا نسعى الى تقدير ورضى من يحيطون بنا، نحن بحاجة الى الشعور باننا محبوبون.
نحن نختار اصدقائنا لاننا نعلم بشيء من الوعي ان صداقة كهذه ستخفف غمّنا، وستساعدناعلى الشعور بأننا مقدرون وعلى التقدم في الحياة، وعلى العكس نهرب بتلقائية كتلقائية التنفس ممن يثيرون فينا مشاعر العجز والغمّ واللاقيمة، ومن يشعروننا بأننا "لاشيء"."

حــريـــــة الإختـيـــــــــار

يتناول د. جان فانييه عنواناً أخر في الطريق الى الحرية "حرية الاختيار" حيث يعتبر أن التغير الذي نريد يأتي من خلال امتلاكنا لحرية الاختيار لما نريد، وأن الاحساس العالي بحرية الاختيار يجعلنا قادرين على إحداث تغيير ولو على المستوى الشخصي فقط، دون ان نلتف الى مصالحنا التي يمكن لها أن تتأذى من جراء ايماننا بأن ما نفعله هو الحق وأنه بداية الخطوة الاولى في التغيير.

يقول الكاتب " إن مفهوم النجاح مختلف عند كل واحد منّا، فالنجاح المادي بالنسبة الى بعضنا هو الاهم، فهم يريدون صعود سلم المراتب الاجتماعية وكسب المزيد من المال ونيل إعتراف الاخرين، والمزيد من الامتيازات.

إلا أن النجاح بالنسبة الى اخرين يعني أن يؤسسوا أسرة سعيدة وأن يحاطوا بأصدقاء ، وآخرون يعني النجاح لهم القدرة على الابداع، واشخاص يعني النجاح لهم ان يكونوا منحرفين انحرافا كاملاً، أحد المسجونوين في السجون الامريكية قال لأحد أصدقائي :" أنا افضل سارق للسيارات في كليفلاند وأنا فخور بذلك".!!!

ويستطرد الكاتب قائلاً " الحرية هي جعل العدالة والحق والخدمة فوق مصالحنا الشخصية واحتياجاتنا، الى ان ُيعتَرف بنا، وحين نتعلق بالسلطة والنجاح بأي ثمن، وحين نخاف فقدان مكانتنا الاجتماعية، ننكر إنسانيتنا، ونصبح عبيد احتياجتنا ومصالحنا.

ويروي لنا الكاتب قصة تاخذنا الى معنى أن يكون الانسان قادراً على الاختيار وراضياً بالتغيير دون أن يلتف الى ما سيخسر جراء ايمانه بالحق والعدل فيقول:

" في السنة 1944 في مرزوبوتو، وهي مدينة صغيرة بالقرب من إقليم بولونيا بإيطاليا، ذبحت القوات النازية الفي مدني رداً على عمل تخريبي قامت به المقاومة الايطالية، ورفض أحد الجنود الالمان الطاعة والمشاركة في هذه المذبحة، فرمي بالرصاص مباشرة. كانت الحقيقة والعدالة بالنسبة الى هذا الرجل أهمّ من الطاعة لرؤسائه ورغبته في الحياة، لقد رفض ارتكاب الشر وضحّى بحياته حباً للعدالة والحق".

ويأتي د. جان فانييه ليكمل لنل مفهوم حرية الاختيار وكيف أن الإنسان منّا تدفعه دوافع غامضة إلى السير في طريق الحرية، فيقول:

"نعلم انه قد يكون لاعمالنا الخيّرة دوافع غامضة، كالرغبة في التقدير، والحصول على صورة إيجابية عن الذات، وممارسة السلطة على الآخرين.

وقد تمنحنا هذه الاحتياجات الطاقة الضرورية لنفتح حياتنا على الآخرين ونخدمهم. لكنها قد تزيّف أيضاً دوافعنا العميقة وتجعل هذه الأعمال السخيّة على حسابنا من اجل مجدنا.

وبالتالي على الحاجة إلى النجاح أن تتنقّى كي تصبح أعمالنا تخدم مصالحنا الشخصية، فحين لا تسيطر علينا هذه الحاجات، نصبح أحراراً حقاً."

ويسرد د.جان فانييه قصة تروي لنا التوجهات المختلفة التي يحملها أخوين تربّيا في نفس البيت وتحت كنف نفس الأب ومع هذا كان لكل منهم أفكار وتوجهات تختلف عن الآخر، نبعت من دوافع غامضة لدى كل منهما وسيّرّته في رحلته التي اختارها، فيروي قائلاً: " ذات يوم، طلب الابن الأصغر من أبيه نصيبه في الميراث، وذهب إلى بلاد بعيدة بذر فيها جميع أمواله.وإذ وجد نفسه وحيداً من دون مال وفي حال فقر مدقع قرر العودة إلى أبيه وطلب الصفح منه. وقال في نفسه:"لعّل أبي يقبل عودتي".

أما الأب الذي تحطم قلبه من رحيل ابنه، كان ينتظر عودته كل يوم دون ملل أو كلل، وحين عاد الابن البعيد أسرع إلى لقائه ونادى على خدمه إن البسوه أحلى الثياب وأقيموا وليمة عظيمة احتفالاً بعودته.

فما كان من الابن الأكبر إلا أن غضب وصرخ في أبيه قائلاً:تقيم حفلاً لأخي الذي عاش حياة فساد وبذّر مالك، ولم تفعل هذا قط لأجلي!!

فأجابه الأب ببساطة" لقد كان ابني ضالاً فوُجِد".

ويتابع د. جان " هناك قوة دفعت الابن الأصغر كي يترك الأسرة، لقد غامر في الرحيل والعيش وحيداً والبحث عن شيء جديد.والابن الأكبر بقي عند أبيه. والحق أن الصغير لم يؤمن بأنه محبوب، والبكر لم يدرك أن أباه أراد له أن ينمو في المحبة.

الابن الأصغر رحل من بيته لأنه كان يفتش عن هويته، وكان الابن الأكبر يفتش عن التماثل، كل من الرجلين دفعته طاقة واعية نوعاً ما.

ومن هنا يمكن لنا القول أن المهم هو الوصول تدريجياً إلى الإقرار بدوافعنا العميقة لنختار بحرية كاملة الطريق الذي نرغب سلوكه ولنؤكد قناعاتنا، لا بدافع الحاجة إلى المعارضة أو التماثل، بل لنكون كما نحن وكما نريد.

* د.جان فانييه: مؤسس جماعة الارش " الشبكة الدولية لمجتمعات الاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة".