يقترن مجال التربية بالتساؤل المستمر، لذلك فهو يستحضر بالضرورة الفلسفة كمجال للمساءلة والتفكير. الفلسفة تتألف من مفاهيم، كما يقول جيل دولوز وغاتاري، واللحظة الفلسفية الحاسمة هي عندما يتحوّل السرد الفلسفي إلى مفاهيم. ولكي نُسائل فلسفياً الفعل التربوي، لا بد لنا من الانفتاح والتحرر من الأحكام القبلية من أجل زحزحة الكائن وتوليد ما يجب أن يكون نظرياً وعملياً. فمملكة التربية، مثلها مثل الفلسفة، هي الحرية بامتياز.



إن النقاش حول موضوع الحرية والتربية، هو إثارة لجدل يشمل العديد من المجالات كالأيديولوجيا، والعنف الرمزي، ومؤسسات المجتمع بألوانها كافة، والأجهزة الأيديولوجية للدولة. ونتيجة لهذه المقدمة، يمكن لنا حصر العلاقة منهجياً بين التربية والحرية التي تظل قائمة ومفروضة، بل تطرح العديد من التساؤلات المهمة: ما طبيعة الترابط الذي من الممكن أن يجمع التربية والحرية مفهوماً وممارسة؟ هل الحرية وسيلة أم غاية في الفعل التربوي؟ وما هو موقع الحرية في مواقفنا التربوية؟ هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها من خلال ملامسة التداخل القائم بين حرية التربية والتربية على الحرية.



في مفهوم التربية



تستدعي علاقة التربية بالحرية الانطلاق أولاً من تحديد مفاهيم هذه العلاقة ودلالاتها، من أجل فك روابطها التي تسعفنا في الإجابة عن معضلات الفعل التربوي. فالمفاهيم تمثل جوهر المعرفة الإنسانية، وتشكل حجر الزاوية في عمليه بناء المعرفة العلمية التي تسعى إلى درجه عالية من الدقة والوضوح.



وإذا انطلقنا من دلالة التربية عند اليونان، لا بد من أن نتطرق إلى مفهوم التربية الحرة. ولقد اعتبرت هذه التربية حرة نظراً للتوزيع المتوازن الذي ألحقته بالعقل والجسم. ويتمثل الهدف الأساسي لهذا النوع من التربية عند الإغريق، في إعداد الفرد في إطار طبيعته الخاصة ليكون مواطناً للدولة، وقد أصر أرسطو على أن يمتد العمل التربوي من الولادة حتى بلوغ 21 عاماً. بالمقابل، لم يعرف الرومان مفهوم التربية الحرة التي تميزت بها الحضارة اليونانية، لذلك ركزوا اهتمامهم على التربية البدنية التي كانت بمثابة العمود الفقري للتربية اليونانية . وغرض الرومان في هذا المسعى التربوي هو صناعة الخطيب الذي يجب أن يلم بالفلسفة والقانون والأدب، باعتباره رجلاً مثقفاً ومجيداً لصناعة الكلام.



الانتقال من دلالة التربية عند اليونان إلى المعنى الذي نحته أحد رواد المذهب الحسي، وأحد كبار ممثلي النزعة التجريبية في إنكلترا، الفيلسوف جان لوك الذي يسطر معنى مغايراً، إذ يركز على عقل الطفل الذي يصفه مثل صفحة بيضاء تنطبع عليها التجارب، فتحدد مصير الطفل ومستقبل حياته برمتها. لوك أولى عملية انتقاء التجربة المفيدة للطفل أهمية بالغة في حياته.



واختلف مفهوم التربية عند روسو مع فهم لوك، إذ أكد أن التربية يجب أن تتلاءم مع حاجات الأبناء وقدراتهم بدلاً من أن تكون استجابة لنزوات الراشد واستطالة لمعتقداته الخاطئة عن طبيعة الفعل والحياة. فدعوة أحد مؤسسي التنوير جان جاك روسو التربوية تقوم على الخبرة التي يجب أن تكون الحجر الأساس في التربية.



أما دلالة القواميس، فتحدد معنى التربية على مستويين اثنين: الأول عام ويعرف التربية بمثابة تلك الصيرورة التي من داخلها تتطور وظيفة معينة، وعلى سبيل المثال تربية الحواس. أما المستوى الثاني فيخص دلالة التربية في سياقها البيداغوجي، التي تعتمد أساساً على الطفل. “إنها عبارة عن مجموعة من السلوكات التي تطور منهجياً قدرات الطفل” (Cuvilier,1967: 62). وفي هذا الصدد، تتعدد دلالات التربية بتعدد المدارس الفلسفية التي من الممكن حصرها في ثلاثة توجهات أساسية:



> الفلسفة الطبيعية: ويمثلها الفيلسوف جان جاك روسو الذي يقر بأن الطبيعة تحكمها قوانين عدة، والإنسان أيضاً تحكمه قوانين طبيعية. وفي هذا السياق، يدافع روسو عن فكرة مفادها أنه من الأفضل أن نترك الطبيعة كما هي، وكذلك يترك الإنسان على طبيعته التي ولد عليها. ووفقاً لهذا التحديد، تتناسل العديد من التساؤلات المهمة وعلى رأسها: كيف نعلم الطفل؟ ما هو دور المعلم؟ وما هي وظيفة المنهج التربوي؟

> الفلسفة البرجماتية: ويدافع أصحابها عن أنه لا يوجد لدى الإنسان قيم سابقة، بل يكتسب داخل مجتمعه مجموعة من القيم؛ أي أن القيم هي ما قامت عليه تجربته وثبت نفعها. ولهذا الأمر، تصير التربية خاضعة دوماً للتجريب، لأن ميزات القيمة هي التجربة، باعتبار أن ما يتناسب مع مجتمع ما، قد لا يمكن أن ينسجم مع ثقافة مجتمع آخر، كما أن التناسب يخضع بدورة لتغير الأزمنة والمجتمعات والعصور.

> وهكذا، تشكل التربية رابطاً أساسياً بين الكبار والصغار، فهي كما يقول إيميل دوركهايم تمثل العمل الذي تحدثه الأجيال الراشدة في الأجيال النامية لمساعدتها في الحياة الاجتماعية. هذا التعريف، وإضافة إلى التحديدات السابقة، يمدنا بعناصر أولية لفهم مجال اشتغال التربية كمنظومة من السلوكات الساعية لتنظيم العلاقة بين الأفراد والمجموعات، بما يخدم مصالح وأهدافاً اجتماعية معينة، متفقاً أو متعارضاً عليها، تبعاً للفترة الزمنية وتتابع الأجيال والصراعات المجتمعية في كل حقبة تاريخية. فكل فرد وجماعة يضيف من خلال خبرته وممارسته اليومية مبادئ جديدة في التربية إلى الجيل الآخر، مساهماً بذلك في إلغاء بعض تلك المبادئ والسلوكات وتعويضها بأخرى.



في مفهوم الحرية



يشكل مفهوم الحرية واحداً من أكثر المفاهيم انتشاراً واستخداماً، ويتغلغل هذا المفهوم في صميم النسيج الثقافي والمعرفي لكل المجتمعات، لكنه في الوقت نفسه يعد من أعقد المفاهيم، والحديث عنه يتطلب الانتباه إلى تعدد دلالاته وتشعبها وارتباطها بمجالات عديدة: الفرد، المجتمع، الطبيعة الإنسانية ... .



وقراءة بسيطة لبعض القواميس المتخصصة بمختلف أنواعها، يتضح لنا الكم الهائل من التعاريف. فعلى سبيل المثال لا الحصر، معجم لاروس الفرنسي الذي يحصر دلالات مفهوم الحرية في ستة عشر تعريفاً. الفلسفة كمجال للتفكير وضعت دلالة عامة ممكنة لمفهوم الحرية، وتتلخص في كون «الحرية هي امتلاك للذات» (Ibid: 107). لكن هذا الامتلاك لا يفهم بعيداً عن علاقة الفرد بذاته أولاً، وفي علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه ثانياً. فكيف يمكن أن نتحدث عن الحرية في علاقتها بالأنا وبالأنا الأعلى أو الضمير الجمعي للمجتمع بالمعنى الذي تقدمه مدرسة التحليل النفسي؟



هناك ثلاثة أنواع أساسية من الحرية: حرية طبيعية وأخرى مدنية وسياسية. لذلك، فالحرية لا يمكن تصورها دون حدود، وإلا تحولت الحرية المطلقة إلى مجرد أسطورة تسكن الذات والفكر. لذلك، ثمّة تساؤل مهم: هل تعني الحرية الإقرار بأنه يمكن للإنسان أن يفعل ما يشاء، وله أن يتصرف بما تملي عليه إرادته، دون أن يكون لأفراد المجتمع أدنى تدخل أو تأثير، سلباً أو إيجاباً؟ يقول الفيلسوف الهندي جيدو كريشنامورتي: «إن الحرية عند أغلب الناس عبارة عن فكرة وليست واقعاً. عندما نتحدث عن الحرية فالأمر يتعلق بالحرية الخارجية» (Krishnamti, 1988: 8). الحرية ليست شيئاً ينبثق من الذات الإنسانية. فرائد الفلسفة الفينومينولوجية موريس ميرلوبونتي الذي دعا إلى تحقيق الرجوع إلى عالم الحياة الأصلي؛ أي في "العودة إلى الأشياء ذاتها"، يعتبر أن الحرية ذات جذور ومرتبطة بوضعية ملموسة معينة.



دلالة مفهوم الحرية مرتبطة بشكل وثيق بمفاهيم الطبيعة الإنسانية وإشكالية الهوية وعلاقتها بجدلية الفطري والمكتسب عند الإنسان.1 ومجرد ملامسة موضوع الحرية في سياق عصر التنوير تتضح أمامنا معالم تصورات مفكرين أمثال جون لوك الذي أخذ بمعادلة الإرادة العامة والتوازن بين السلطات، فأصبح الشعب صاحب السيادة. أما الفيلسوف الفرنسي فولتير كأحد أوائل من أسسوا حركة التنوير الفكري، فقد عرف بدفاعه عن جعل الذات الإنسانية تتسع وتتعلم معنى الحرية. وصرخة فولتير معروفة التي قال فيها: "لا طائل من الفلسفة إذا لم يتمكن الفيلسوف من التأثير في أعراف الحي الذي يعيش وسطه". ومع مونتسكيو تربعت الحرية في معناها المدني على عرش الحرية الطبيعية التي خسرها الفرد في العقد الاجتماعي. وقد اهتم مونتسكيو بتوضيح الخط الذي يفصل الحرية بكامل معانيها عن الحق بكامل جوانبه، وبالتالي تكون الحرية في نظره هي "الحق في فعل كل ما تسمح به القوانين"، وفي حالة الاعتداء أو اغتصاب هذا الحق، فلا حرية مكفولة، ولا حقوق مصانة. ثم جاء كانط بسؤاله المعروف: "ما هو عصر الأنوار؟". هذا السؤال الفلسفي هو الذي أخرج كانط الإنسان من قصوره، وعجزه عن استعمال عقله، ليغدو سيد نفسه مبادراً جريئاً ومسؤولاً؛ فبالحرية يعلو شأن الفكر، وتصير السياسة ذات روح إنسانية، وتنتشر المعرفة بين الناس. وحسب تصور كانط، ما أن تُحرر الطبيعة، من تحت قشرتها الصلبة، بذرة الميل والتأهب للفكر الحر حتى تحدوها بعطفها وتجعل منها ذلك النزوع الذي سيؤثر تدريجياً وبمفعول رجعي على مشاعر الشعب. ومن خلال هذه المشاعر يزيد الشعب شيئاً فشيئاً من الاستعداد للسلوك بكل حرية. هذه الأخيرة، تمنحنا الشجاعة على استخدام فكرنا بأنفسنا.



إشكالية تعريف الحرية كانت كذلك موضوعاً للتداول الكلامي الفلسفي عند المسلمين من خلال ما أطلق عليه بإشكالية الجبر والاختيار الإنساني. فالإنسان يعد فاعلاً وحراً عند المعتزلة لأنه يمتلك العقل، بالمقابل اعتبر عند الجبريين مقيداً بالجبر الإلهي. دلالة الجبر والاختيار عند الفلاسفة المسلمين تقدم معنى مغايراً ومثيراً للجدل. فابن رشد في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، يرى أن المعتزلة والجبرية قد أخطأوا في القول بجانب واحد دون الآخر، فالإنسان حسب فيلسوف قرطبة مجبر فيما لا يعلم، ومخير فيما يعلم. هذه الإشكالية نعثر على آثارها الكبرى عند فلاسفة ما قبل عهد سقراط. ويجمع المؤرخون على أن الذي بدأ طرحها هو الفيلسوف والعالم الرياضي طاليس. ونحن نستطيع الوصول إلى علامات هذا الطرح الفلسفي من خلال فكرتي الضرورة والقدرة كما تجسدت في المأساة اليونانية قبل طاليس، كما أن فكرة الضرورة نفسها تفترض الحرية. ويمكن القول إنه لا وجود للضرورة التي لا يقابلها شعور واضح بالحرية.



ولا بد من الإشارة إلى أنه ليست المطالبة بالحرية مرتبطة فقط بثنائية الالتزام والإلزام، بل وجب علينا أن نضيف أن الإنسان يشعر بأنه حر عند ممارسته لإرادته في اختيار أحد الخيارات المتاحة له دون إكراه أو ضغط، لذلك يصعب إقناع الإنسان بأنه غير حر، لأنه يحس ويشعر أنه حر، والأحاسيس يصعب تكذيبها.


بواسطة: عمران المرابط
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/ara...e.thtml?id=417