أفهم المعرفة العلمية بوصفها اعتقاداً مبرراً وصادقاً، حول العالم. ولما كان العلماء يسعون إلى اعتقادات صادقة من أجل بلوغ معرفة، فإن الصدق يشكل مفتاح الأهداف المعرفية للعلم. ديفيد ب. رزنبيك



الكتاب* يضم بين دفتيه 274 صفحة، ويحتوي على سبعة فصول تقارب العملية التعليمية من مختلف جوانبها. ويبين المؤلفان في الفصل الأول الذي جاء تحت عنوان "تعلم اللغة في سياق القص والتخييل والتعبير ومساءلة الواقع"، مقاربة القص كسياق تفاعلي إنساني، فالأشكال القصصية وسائل جوهرية لتنظيم مادي للسلوك الإنساني يلعب دوراً أساسياً في نمو اللغة وتطورها. وقد حاول المؤلفان تحليل قصص من الكتب المدرسية الجديدة واستقراءها من ناحية وقصص أخرى من خارجها من ناحية أخرى، مقدمين لنا تصوراً لقراءة مغايرة غير تلك المألوفة لنا من خلال مقاربات في السياق التربوي آخذين بالاعتبار:



Ø أن لكل نص قصصي ممكناته ومحتملاته وتفضيلاته وأدوات تحليله.

Ø استبطان النصوص من داخلها.

Ø النظر إلى النص على أنه يتضمن مستويات مختلفة من التأويل،1 ما يساعد المتلقي على بناء موقف تتمشكل حوله الأفكار والانفعالات والأحاسيس، فيعيد النص إنتاج علاقاتها تأويلاً ومشاعر وانفعالات.



يفضي هذا الأمر بنا إلى صورة أخرى رأى فيها المؤلفان أن اللغة مادة الخطاب لا تنفصل عن السياق الاجتماعي الذي تعمل فيه. والمقصود هنا محاولة المؤلفين اكتشاف أنماط علائقية مستمدة من التنظيم الاجتماعي والمدرسي، وتعيين المتغيرات التي تؤثر في العلاقة داخل البيئة التربوية، والتي تساعد أو تعرقل التطور الفردي للكائن الفرد (التلميذ) في مجاله الاجتماعي وفي شبكة الاتصالات الشعورية واللاشعورية2 من خلال التطرق إلى القصة كمجال للدرس والتحليل، فالقصة تمتلك إمكانات وطاقات تعليمية وتعلميّة، تنعكس على قدرات الطلاب في مجالات تنمية المهارات النصية والخطابية والتنمية لأبعاد العمل الذهني والإدراكي والتفكيري والتواصل الإنساني الحواري بين المعلمين والمتعلمين.



وهذا الأمر يفضي بنا إلى صورة أخرى قدم فيها المؤلفان لروابط علائقية بين الفلسفة وتعليم اللغة من خلال تصورين: أولهما تعليم اللغة في ضوء الاتجاهات الصورية والبلاغية القديمة، وفيه خضعت الدراسات اللغوية لسلطة كل من النحو والبلاغة التقليديين، ثم حدثت إحدى النقلات النوعية في النظر إلى اللغة على يد البنيوية، التي نظرت للغة على أنها نسق اجتماعي مؤسسي وبنية نحوية صورية ترتكز على عدد من الأعراف الضرورية التي تسمح بممارسة القدرة على استعمال هذه اللغة، إلا أنها اقتصرت في مقاربتها لعملية دراسة اللغة على نحو الكلمة والجملة وعلاقات الدال والمدلول والدليل والمرجع، بشكل أبقاها خارج السياقات الاجتماعية والثقافية والسيرورات التاريخية، فهذا التصور للغة ينعكس على شكل آثار تربوية وأساليب تدريسية. علاوة على ذلك، فإن هذا التصور يجعل من اللغة وسيلة لإعادة الإنتاج، إنتاج العلائق والبنى المجتمعية التقليدية، وذلك انسجاماً مع كل من "بورديو" و"باسرون"، الأمر الذي يحيل اللغة إلى:



Ø مدخل لفصل التعليم عن سياقه الاجتماعي والثقافي.

Ø الاعتماد على مبدأ التحليل والتبسيط في مقاربة النصوص وتحويلها إلى عناصر وأجزاء ووحدات بسيطة بشكل يخل بنسقية اللغة ويعطل حيويتها ويجعل منها أداة للنقل.



وثانيهما، ينطلق من تعليم اللغة في ضوء اللسانيات النصية والنظرية (الثقافة - الاجتماعية) التي ترى أن تعلم الكلام وفهم اللغة يخرجان عن نطاق المعجم والبنيات النحوية.



وقد ساعد هذا التصور على تطوير نظريات تربوية، وأساليب تدريسية جديدة. ثم عرض المؤلفان تصور كل من "فيجوتسكي" و"جان بياجيه" للنمو اللغوي عند المتعلم، فقد اعتقد بياجية أن التطور اللغوي عند المتعلم ينتقل من الكلام الفردي المتمركز حول الذات3 إلى الكلام الاجتماعي "المتكيف اجتماعياً"، في حين يتبنى فيجوتسكي تصوراً معاكساً لعملية النمو اللغوي والتفكيري، حيث إن النمو اللغوي يمضي من الاجتماعي إلى الفردي. ثم أبرز الكاتبان المفهوم الباختيني للغة القائم على أن أفضل أنماط التعليم اللغوي هي تلك التي تبنى وتؤسس على الجوهر الحواري للغة القصصية والروائية. ثم انتقل المؤلفان لمناقشة الاتجاهات الأدبية والنقدية:



Ø الاتجاه السردي السيميائي يستند إلى فرضية أن التحول الذي يطرأ على أحداث الحكاية لا يتم عن طريق الصدفة، وإنما يخضع لقانون ينظمه ويتحكم فيه، وقد طبقا ذلك من خلال النموذج العاملي لدى جريماس، القائل "بالانطلاق من الحكاية للكشف عن القانون الداخلي والبيئة العميقة التي تحكمها وتحكم تحليلها وفهمها".

Ø الاتجاه الآخر سردي حكائي في تحليل الخطاب، حيث يتبنى الخطاب كموضوع للدرس والتحليل باعتبار أن أحداث القصة يمكن أن تقال وتصاغ بملايين الأشكال والخطابات.



يتضمن الفصل الثاني تحليلاً لنص قصصي من كتاب المطالعة والنصوص للصف الثامن الأساسي بعنوان "أسرة فقيرة" للقاص الإيطالي (جوزيف سزار أبّا)، انطلق التحليل من رؤية تناقضية وأخرى حوارية. الرؤيا الأولى تقارب المعرفة كظاهرة تنطوي على متضادات، أما الثانية فتقارب عملية المعرفة كوسيط تعلمي موضوعي قابل للنقد والحوار.



وتعمقت الدراسة في مفهوم الخطاب والقصة، الخطاب السردي عنصراه البنيويان هما: السارد والمخاطب، والعنصر الثالث أحداث الحكاية ليس كما حدثت في الواقع، بل ما سرده الراوي في حكايته.



ورأى المؤلفان أن التحليل لم يعد يقتصر على موضوعات القصة ودلالات الحوادث، وإنما تجاوز ذلك ليشمل التشكيلات البنائية وتقنيات السرد. تحليل الخطاب هو نوع من التوسيع في علم المعاني المعروف في العربية، والمدرسة السيميائية ترى في الجملة الفعلية قصة صغيرة، (الجملة في التحليل السيميائي قصة صغيرة، والقصة في التحليل الخطابي، جملة طويلة). وكأمثلة على هذه التحليلات ما استعان الباحثان بعدد من الدلالات السردية في القصة وقدماها على شكل جدول يمكن أن يكون دليلاً مساعداً للمدرسين، وبعد ذلك تطرقا إلى أنماط السرد بالأمثلة التطبيقية، مقترحين أنشطة وأوراق عمل بلغ تعدادها أحد عشر نشاطاً، علاوة على خمس أوراق عمل أرى أنها ضرورية كي تعمق الإدراك "المعرفة" لدى التلاميذ، وتتجاوز الصلة التقليدية للمعلم مع المؤسسة التربوية، التي تتجلى من خلال محافظته على المعرفة ونشرها ومراقبتها لتصل إلى إشراكه في بنائها وصناعتها مستبدلاً التلقين بالحوار.



وفي الفصل الثالث وعنوانه "الحكاية الشفاهية وآليات عمل المخيال الشعبي"، في حكاية عبد الله البرّي وعبد الله البحرّي، قدم الباحثان دراسة، منطلقين من كونها حكاية خرافية شعبية شفاهية حلّلا عناصر الخطاب السردي، وعرضا في جدول العتبات النصية ودلالاتها الوظيفية، علاوة على ذلك تعرضا لبنية الحكاية، مقدمين تعريفاً لها على أنها متتالية سردية، تبدأ بحادث ما يكسر عادية الواقع الحكائي ويتسبب بمجموعة من الأفعال أو الوظائف، للعمل على رفع المظالم، ومكافأة من ساعد، ومعاقبة من أساء.



كما بينا أن الفهم الكلي للحكاية يتطلب القراءة الرمزية لمكوناتها واستكشاف دلالاتها من خلال القراءة السيميائية لرموزها، ثم تعرضا لإشكالية التقديم لهذه الحكاية، كما وردت في كتاب المطالعة والنصوص للصف الثامن الأساسي، الأمر الذي انعكس على السياق النصي وهويته، وكذلك فهمه وتأويله، وسوف أشير هنا إلى أن المؤلفين قد تطرقا إلى طريقة المعالجة التعليمية في الكتاب المدرسي، وذلك من خلال أسئلة الفهم والاستيعاب وأسئلة التحليل، كونها أغفلت البنية الحكائية، وتجاهلت خصائصها وسياقها وخطابها السردي، ورأيا أن الحكاية يجب أن تدرس كشكل حكائي له ميزاته وخصائصه، ما يساعد الطالب على استكشاف المضامين المختلفة للحكاية بطريقة مغايرة، وقدم البحث رؤية تحليلية مختلفة للحكاية، وذلك من خلال تسعة أنشطة وخمس أوراق عمل مساندة للرؤية البديلة.



وكان الفصل الرابع بعنوان "النص التعليمي بين المنظور الأدبي والمنظور الأيديولوجي" في حكاية "بائعة الكبريت" لـ "جان كريستيان أندرسون"، وعرضا فيه قراءة نقدية لأيديولوجيا السرد. إن سلاسة القص ينسجم مع طبيعة المعرفة في حين أن صلابة الخطاب تتوافق أكثر مع رغبات الأيديولوجيا والإنسان في سعيه المعرفي يبقى أسيراً للرغبة في التسريد أو التحبيك (بناء الحبكة)، بيّن المؤلفان قيمة هذه المقاربة تعليماً من خلال مقاربات تدريسية مفتوحة، تقوم على فتح المجال التعليمي لإحداث تفاعل بين النص والطالب- الهدف منه الكشف عن المضامين الأيديولوجية للنص- منطلقين من النظر لكل منهما على اعتباره بنية معرفية دينامية وهيئة لفظية ومجتمعية. فهما كما بيّن علماء اجتماع التربية باستحالة عزل الصلات بين المعلمين والتلاميذ عن البنية الكلية للنظام التربوي ووظائفه الاجتماعية وروابطه مع المجتمع بكامله. على كل حال، سعى المؤلفان إلى توظيف ذلك في عمليات التعليم والتعلم لبناء السياق المعرفي الحواري الذي يتجاوز شكل الدرس التقليدي، مردفين ذلك بمجموعة من الأنشطة بلغت ثلاثة عشر نشاطاً وست أوراق عمل تضمنت مناقشة حوارية مفتوحة، وواجبات كتابة مسرحية، وتحويل النصوص إلى مشاهد مسرحية تستكشف البنية المعرفية للطالب.



وفي الفصل الخامس بعنوان "سيميائية الحكاية وبلاغة الخطاب" في حكاية الحذاء الأحمر لـ "بنكولا كلاريسا" أجرت الدراسة تحليلاً للبناء القصصي للقصة بالاعتماد على المنهج السيميائي ومنهج تحليل الخطاب من خلال تقسيم الحكاية إلى وحدات صغيرة، قام بتحليليها وإعطائها معاني في جدول تضمن اقتباسات سردية من الحكاية، موضحين أبعادها الدلالية التأويلية، حيث إن جوهر القصة وبنيتها ونهايتها مرتبطة، كما يرى المؤلفان، بالصراع الداخلي بين ثنائية القسر والحرية والإبداع. وفي هذا المجال، اقتراح الناقدان مجموعة من النشاطات التطبيقية وأوراق العمل تساعد على استكشاف المعاني وتأويل المعطيات بشكل عمَّق الاستقصاء والبحث، موظفين عدداً من الأنشطة والوسائل والأدوات مثل الرسم كمجال للتعبير والتعلم، أو بالكتابة والكلام والتمثيل بلغت في مجموعها سبعة أنشطة وخمس أوراق عمل.



ثم تناول المؤلفان في الفصل السادس الشخصية والحدث وبنية السرد من خلال قصة "الحفلة المسروقة" لـ"ليليان هيكر"، استخدما في التحليل مناهج مختلفة منها السيميائي والسردي والتحليل النفسي- الاجتماعي، ونموذج غريماس، لتحليل البنية النصية والمتأسس أصلاً على التضاد في الواقع الذي تشيده، والآخر السيكولوجي لشخصياتها وسلوكياتها، ودلالاتها الرمزية، في هذا كله قدما القصة كسياق تطبيقي من خلال مجموعة من النشاطات وأوراق العمل بلغت ثلاثة عشر نشاطاً واثنتي عشرة ورقة عمل متضمنة نماذج متعددة، القراءة والمناقشة ورسم الخرائط الذهنية، والمجموعات الحوارية، وتوزيع الأدوار، والدراما، وإعادة كتابة النصوص، والمذكرات والرسم الحر والتصوير والسرد. والواقع أن لكل واحدة من نماذج العرض قيمتها التعلمية كمقاربات إبداعية.



أما الفصل الأخير، فكان بعنوان "استكشاف القصة وتعدد المنظورات" في قصة "طفلة الغابة" لـ"ريتشارد إدواردز". قدمت القصة في سياق درامي تعليمي من خلال خطة تدريسية شاملة للأسئلة التحليلية، والأنشطة والأدوار والمهمات وتوظيف المصادر وتقييمها. وفي هذه المحاولة، مقترح لتوظيف الدراما، تقدم القصة في سياق تعلمي من خلال ثماني عشرة مقاربة بينا فيها دور المعلم والتلميذ والهدف والسياق والإضاءات، من خلال فعاليات متنوعة كالقراءة والرسم، والكتابة، والتعبير الشفوي، والموازنة، والتصنيف والربط، والتركيب... يمكن أن يكون دليلاً لمساعدة المعلمين على توظيف الدراما في العملية التعليمية.



ملاحظات مستنتجة



الملاحظة الأولى: استخدم المؤلفان لغة غاية في التجريد تضمنت حشداً كبيراً من المفاهيم المنغلقة على غير المختصين، وذوي القاعدة المعرفية التي لا تتوفر لجميع القرّاء، في حين كان من المفضل تبسيط النصوص والشروحات والتعليقات لتحصل الفائدة الأكبر منه.

الملاحظة الثانية: استخدم الناقدان مفاهيم سيكولوجية لها دلالاتها في علم النفس ومنها التالية: الاستدخال الذهني، التكيف الاجتماعي، التمثيل الرمزي، التمثيل الذهني، التأويل، السياق النفسي- الاجتماعي، التذويت، النزعات اللاواعية، التمركز حول الذات، الشعور، اللاشعور، الإيحاء، العصاب، الكبت، البنية النفسية، الانفعالات اللاشعورية، وكان من المفضل تقديم شرح لها في الهامش أو على شكل ملحق معجمي.

الملاحظة الثالثة: يستنتج من النصوص الدعوة إلى عدم فصل التعليم عن عملياته، فالمعرفة تبنى ولا تنقل، وهذا صحيح من الناحية النظرية، ولكن يحول دونه واقع أن العملية التعليمية نشاط توجيهي في جوهره، حيث المتعلم (التلميذ) غير قادر على المبادرة والاختيار بنفسه، نظراً لأن النظام التربوي، يمنح حرية الاختيار للمعلم وليس للتلميذ.

الملاحظة الرابعة: أحسن المؤلفان تحليل قصص وحكايات من الكتب المدرسية وأخرى من خارجها واستقراءها من رؤية حداثية وقراءة جديدة للنصوص.

الملاحظة الخامسة: نجح المؤلفان في اكتشاف أنماط جديدة من العلاقات مستمدة من التنظيم الاجتماعي والمدرسي.



يضاف لإيجابيات الكتاب الفهرس المرفق، المتضمن جداول لأوراق العمل والأنشطة والأشكال وقائمة بالمراجع والمصادر، راجياً أن لا تناقص الملاحظات والتقييمات من قيمة الجهد الإبداعي المبذول في المؤلف.



د. كامل كتلو

أستاذ مساعد - جامعة الخليل

الهوامش

* هذا الكتاب الذي ألفه وسيم الكردي ومالك الريماوي صدر، مؤخراً، عن مركز القطان للبحث والتطوير التربوي، الطبعة الأولى 2005.



1. التأويل: عملية إعطاء معانٍ للأشياء الغريبة والمجهولة، ويتوقف على الحالة النفسية والمزاجية، الدائمة والمؤقتة، والشعورية واللاشعورية للفرد (بالمفهوم السيكولوجي لها).

2. اللاشعور: مجموعة العوامل والعمليات والدوافع التي تؤثر في سلوك الفرد وتفكيره ومشاعره دون أن يكون شاعراً بها أو بكيفية تأثيرها.

3. التمركز حول الذات (Egocentrism): حالة ذهنية تتسم بعدم قدرة صاحبها على التمييز بين الذات والموضوع، وبين الأنا والآخر، أو بين الأنا والأشياء الموجودة.

بواسطة: عمران المرابط
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/ara...e.thtml?id=412