حرية التربية وتربية الحرية



إدا كان ما يميز الإنسان عن الحيوان هو العقل، فإن الإنسان لا يستطيع أن يصبح إنساناً إلا بالتربية كما يقول الفيلسوف كانط. والتربية لا يمكن أن تصنع الإنسان إلا إذا كانت حرة، عندما تتحرر من قيود الآني ويمارس أفراد المجتمع التأمل من أجل ابتكار وسائل ومبادئ جديدة في التعامل التربوي، ما يجعلها أداة ضرورية لخلق الإنسان المتحرر. في هذا الإطار، يصر ممثل ما يوصف بالتيار الفوضوي، الروسي ميخائيل باكونين، في آرائه الفلسفية على أن الناس عادة ما يتبعون الضرورات الاجتماعية في تعاملاتهم حتى في غياب كامل للقوانين وللسلطة. فليس هناك من شيء أحق من الحرية المطلقة. يقول ميخائيل باكونين في مقدمة كتابه: الماركسية، الحرية والدولة: أنا عاشق متعصب للحرية، وأعتبرها الوسط الوحيد حيث يمكن أن يتطور الذكاء والكرامة والسعادة الإنسانية. إنها ليست تلك "الحرية" الرسمية المرخصة، المقاسة والمنظمة من قبل الدولة، هذا الزيف الذي يمثل امتيازات قلة تستمدها من عبودية كل الأشخاص الآخرين، وليست الحرية الشخصية الأنانية اللئيمة الوهمية التي طورتها مدرسة روسو وبقية مدارس الليبرالية البرجوازية التي تعتبر حقوق الأفراد محدودة بحقوق الدولة، وهكذا تؤدي بالضرورة إلى اختزال حقوق الأفراد إلى الصفر.



والتربية الحرة أو الإباحية كما ينعتها البعض عرفها تاريخ الممارسة التربوية. ويعتقد العديد من المتخصصين أن رابلي هو أحد مؤسسيها. فهو يعتقد أن المحرك الأول للتربية بين أفراد المجتمع هو الموقف الإيجابي والحر في فضاء متحرر بأكبر قدر ممكن من الإكراهات. فالأمر يتعلق بمكان تبنى فيه التربية عن طريق الحرية والعكس صحيح. ولهذا الأمر، فكل إشكاليات البيداغوجيا الحرة عامة تأخذ معناها في سياق هذا الجدل. يقول الفيلسوف الهندي جيدو كريشنامورتي: "إن التربية والسلوك يسيران بشكل ثنائي. لكن السلوك هنا بمعنى التعلم وليس ممارسة سلوك معين من أجل هدف تحقيق الحرية. التعلم وحالة الحرية يسيران معاً. الحرية تنتج سلوكها الخاص الذي يفرضه العقل من أجل نتيجة معينة" (Cité:10).



الحرية تفترض مشاركة الفرد بطريقة تدريجية في عملية إنتاج المعارف. فهدف التربية هو مساعدة الطفل ودعمه حتى يقدر على تحقيق مصيره الذي يراه أفضل، وبطريقة يستطيع من خلالها أن يحكم على السلوك الذي اختاره لنفسه. وإذا كانت الحرية هي الدعامة الأساسية لبناء التربية، فإنها تكوّن العقل الذي يجعلنا ننتبه لكل الأسباب الذاتية التي توقعنا في الخلل الناتج عن ملاحظاتنا وحكمنا على أخطائنا.



لا بد من القول، إن رواد التربية الحرة يوجهون النقد لثنائية: معرفة - سلطة في سياقها التربوي. فالمربي بهذا المعنى يجب عليه ألا يمرر معرفته الأكاديمية المؤطرة ببرامج وتوجهات سلطوية، بل يدفع المتعلم إلى إنتاج المعرفة حسب اهتماماته وانشغالاته. التربية الحرة متسائلة باستمرار وغير قطعية. إنها والبيداغوجيا الحرة لا تنتمي إلى أي حزب أو تيار معين. إنها طليقة.



وفي الجانب الآخر من جدلية الحرية والتربية، نستشف كيف تلعب هذه الأخيرة دوراً في بث روح الحرية. فالأمر يتعلق بالدعوة إلى انفتاح المؤسسة التربوية التعليمية على محيط الأطفال والمراهقين والمجتمع. فالتربية هي رافعة ووسيلة مهمة لزرع بذور الحرية. وهكذا، فالانفتاح على ثقافة الحرية هو بمثابة انفتاح على الثقافة الإنسانية، وبخاصة الفلسفية منها، نظراً للارتباط الوثيق والموجود بين محبة الحكمة والحرية. إن الغاية من تربية المواطن عند روسو تظل هي خلق الحرية والفضيلة وتحقيقهما معاً. وللحصول على هاتين الثمرتين، لا بد من البدء من الطفولة، ومتابعة تربيتها حتى يصبح الطفل رجلاً، والرجل هو الإنسان والمواطن في آن واحد.



الحرية حق طبيعي للإنسان عند روسو، لأن الإنسان ولد حراً. وما التربية سوى منظومة من الممارسات والأساليب التي تنقل حرية الطفل من المفهوم إلى الفعل، ومن النظرية إلى التطبيق. ويمكن بهذا المعنى، اعتبار مبادئ فلسفة روسو التربوية بمثابة الشروط العامة التي تجعل الحرية في التربية ممكنة، ودونها ستبقى الحرية مجرد شعار لن يجد طريقة إلى التحقيق. التربية رهان فكري واجتماعي تفترض التطرق إلى المربي الذي يوجه له روسو خطاباً خاصاً عندما يقول: «من يود أن يسود الطفل يجب أن يكون سيد نفسه».



وبمعنى أكثر وضوحاً، إن سيادة الإنسان لنفسه هي حريته التي تسمح له بتلقينها للطفل ولباقي أفراد المجتمع المحيطين به. يجب النظر إلى التربية على الحرية باعتبار الحرية جزءاً من الإنسان، فهي هويته الأساسية التي دون إلزامه والتزامه تتحول إلى حرية دون معنى، لأنها تسقط الإنسان -آنذاك- في العدمية.



على سبيل الاستخلاص



جدلية التربية على الحرية وحرية التربية تأخذ معناها العميق من خلال حركية المجتمع وتفاعلاته ودور الأفراد والجماعات في بنائها من خلال المشاريع المجتمعية العديدة والمختلفة التي تظهر هنا وهناك. فعلاقة الحرية بالتربية تشبه نهر الفيلسوف الإغريقي هيرقليطس الذي لا نستحم فيه إلا مرة واحدة. فالحرية هوية الإنسان وشرط تحققها على أرض الواقع. إنها تولد معه، وهو الذي يحقق اكتمالها. «فنحن جميعاً نحمل معنا إرث ماضينا الحيواني؛ سواء في لعبنا أم في متعتنا أم في حبنا أم في بحثنا ... ويترتب عن ذلك أن الإنسان يستكمل حيوانيته ويعمل على تطويرها» (Morin, 1980: 44- 48).



محمد نبيل

صحافي وباحث مقيم بألمانيا



الهوامش

1 للمزيد من الإطلاع على هذا التقابل الفلسفي حول مفهوم الحرية، نحيل على كتابي كل من جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، وإيميل لجان جاك روسو.



المراجع

< Cuvilier, Armand.(1967). Nouveau vocabulaire philosophiquem, &#201;dition Armand Colin, troisième &#201;dition.

< Krishnamurti, Jiddu (1988). Le vol de l’aigle, traduction de Annette Duché. &#201;dition Delachaux et Niestlé, Dijon, France.

< Morin, Edgar (1980). L’individualité de l’Homme, in Philosopher, les interrogations contemporaines- Fayard.



بواسطة: عمران المرابط
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/ara...ml?id=417&pg=1