مما لا يختلف عليه اثنان أن الصبغة المادية قد لونت حياتنا بألوانها المخادعة، وأبدعت في تزييفها من حولنا ، وسادت أدق وأهم الزوايا الأساسية في تكوين المجتمع وصوره المختلفة، والتي من شأنها أن تؤثر في رقي الأمة من عدمه.
فالتعليم الأمثل في جميع أنحاء العالم المتقدم مجاني، وهو حق معلوم وأساسي للمواطن لا يمكن أن ينقص منه أحد ، ولا يمكن أن يخضعه للأهواء والنزعات. والتعليم الحكومي يكون دوما هو الأفضل والأجود والأكثر تطويرا وتميزا، والذي يتسابق عليه الغني قبل الفقير ، بحيث أن من يتجه للتعليم الخاص، لا يكون إلا شاذا في تصرفه.
بينما نجد في مملكتنا الحبية الموضوع بالعكس، فالتعليم الحكومي معاناة ما بعدها معاناة، وتجربة عبثية غير محسوبة النتائج. حتى أن الأكثرية من الشعب يشفقون على أبنائهم من الانتساب للمدارس الحكومية المتهالكة، والغير مهيأة للتعليم، والتي تعاني من فقر في جميع الموارد، وفي نوعية من المعلمين المجبرين على هذه المهنة، وظروف رقابية عاجزة عن القيام بدورها لحماية أبناهم مما يمكن أن يؤثر على نفسياتهم وأخلاقهم وابدانهم.
أضف إلى ذلك الطريقة التي يتم التدريس بها، فأنت فيها وأقع بين نارين عليك الإختيار بينهما. فاما أن تخضع لما فيها من تقليدية وصرامة ، وروتينية ، وتعنت، وإمعيه، وإما أن تجد لك مخرجا للإلتحاق بمدرسة خاصة، حتى ولو كنت تدفع عليها من دم قلبك، وما يعجز ظهرك عن تحمله.
فالرسوم الدراسية أقوى من قدرة الأكثرية من الشعب، وليت أنها تكفيهم شر الدروس الخصوصية التي يحتاج لها الطالب للمواصلة، وكأن ما يدفعه من رسوم، ليست إلا لتسكين الطالب في مبنى مدرسة عصري يحتوى على الراحة والأمان والمتعة.
أما الدراسة ومستواها، فحدث ولا حرج. فيتخرج منها الطالب وهو غير قادر على ضرب سبعة في ستة، ولذلك يندر أن تجد متفوق يتخرج من مدرسة خاصة.
وبالعودة للمدرس الحكومية، فهي أشبه بالإصلاحيات القمعية ، ومبانيها إذا لم تكن مستأجرة فإنها تكون متنافية مع أساسيات السلامة، ويوجد بها نعرات قبلية وعصابات شبابية، وتكتلات ، ولا يمكن للطالب الطبيعي من البقاء فيها لفترة بسيطة دون أن يتعرض للأذى النفسي والجسدي، والتشويه العقلي.
والمدرسين والطاقم الإداري يتعاملون مع الطلبة، وهم يعلمون أنهم مجبرون على البقاء فيها لأنهم غير مقتدرين ماليا. فيزيدون من الشدة المتعنتة والممارسات التي تؤدي بهم إلى الفرار إما للمدارس الخاصة بالتقسيط الممل، أو للشارع وهو أرحم من الاثنتين معا.
وطريقة التدريس المتبعة لا زالت كما كانت منذ عشرات السنين، سبورة وطباشير وعصا، وترديد كالببغاء ، وحفظ دون وعي ، ومدرس غير مؤهل ، وغير متفرغ ، فهو يريد أن ينتهي من المنهاج بأسرع وقت ليلحق مكتب العقار أو سوق الأسهم.
والطالب يجد نفسه بين نوعيات من الطلبة القادمين من مختلف الطبقات، وممن يمثلون مجتمعات متناقضة، بحيث تجد التدخين، والتفحيط، والعنف، والشرور بأنواعها تطغى على تعاملات الطلبة مع بعضهم، ومع مدرسيهم. وهنا يظهر للعيان ضعف دور قسم الإشراف الاجتماعي بالمدارس، والذي من المفترض أن يقوم بتهذيب الجو العام للمدرسة من أي تصرفات غريبة شاذة، وأن يقوم بمعالجتها بالشكل الذي يضعها أولوية قبل تحفيظ الدروس، وحل الواجب. وأن يكون رقيبا على الطلبة منذ تجمعهم خارج أسوار المدرسة، وحتى رحيلهم منها، أخذا في الاعتبار النوعيات والطبقات الاجتماعية المختلفة.
كما يظهر ضعف الرقابة الصارمة على الفصول ، والممرات ، والأحواش، ودورات المياه بأعين المراقبين اليقظين ، أو بالكاميرات الفورية التي تخبر عن أي تجاوزات أخلاقية أو جسدية من أي نوع.
وللأسف الشديد والطامة الكبرى فأغلبية القائمين على التعليم الحكومي لا يتركون أبنائهم أو بناتهم يدرسون في المدارس الحكومية!؟.
وهذا ما يجعلهم يتعاملون مع الوضع وكأنه لا يهمهم. فطالما أن مرتباتهم تصلهم في نهاية الشهر، فإنهم يعتبرون أنفسهم كعساكر مجندين في مهمة ميدانية، يتحملون ما يصيبهم، ويتململون دون رؤية واضحة، ودون هدف تربوي وطني، حتى يرن جرس نهاية اليوم فيخرجون من فصولهم، وكأنهم فارين من سجن.
ولو كان الأمر إلزاميا بحيث يكون ذلك ضرورة يلتزم بها الجميع من وزير التعليم إلى أصغر فراش في المدارس. فإنهم ولا شك سيتنبهون لما يحدث لأبناء العامة، وسيبذلون جهدهم لرفع مستوى التعليم الحكومي، والصرف عليه، ومراقبته، وتطويره، وتجديد مناهجه ودعمها بالجديد والمفيد، وتنقية السلك التعليمي من كل دخيل عليه، و أعطاء الأولوية للتعليم والتهذيب والإصلاح.
مؤشر عدد المدارس الخاصة في ازدياد مضطرد، ورسوم الدراسة تسابق مع ذلك، والتجار وكبار الشخصيات يتسابقون على امتلاك المدارس الخاصة ، والتي ثبت لهم جزيل جدواها الإقتصادية. والعكس بالضبط ما يحدث للتعليم الحكومي المتدحدر إلى الهاوية كجلمود صخر حطه السيل من عل. فهل من نظرة يا وزير التعليم.


د. شاهر النهاري