كتبت صحيفة الشرق الاوسط بتاريخ 27-1-2005

كمال عبد اللطيف

70 مليون أمي في العالم العربي.. واقع أم خيال..؟

توقعت المنظمة العربية للثقافة والعلوم أن عدد الأميين في العالم العربي سيصل إلى سبعين مليون شخص خلال سنة 2005، وقد ورد هذا الرقم في التقرير الذي قدم في اجتماع مجلسها التنفيذي الأخير. وقد أشار التقرير أيضاً إلى أن هذه النسبة تكاد تعادل ضعف المتوسط العالمي للأمية، كما ورد في التقرير أن عدد الإناث في الرقم المذكور يقترب من ضعف عدد الذكور. ومن المعطيات الصادمة في هذه الوثيقة، نذكر أن مصر احتلت المرتبة الأولى بـ17 مليون أمي، يليها السودان ثم الجزائر والمغرب واليمن، في حين احتلت الرتب الأولى في باب نقص الأمية كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر، ثم البحرين والكويت. ومن المعلوم هنا أنه لا سبيل للمقارنة بين النتائج بحكم عدم تناسب الكثافة السكانية، وعدم تناسب الموارد الاقتصادية بين مجموعتي الدول الأولى والثانية..
يواجه العرب إذن في مطلع القرن الواحد والعشرين، قرن التطور المذهل لمجتمع المعرفة نتيجة الطفرات الحاصلة في تكنولوجيا المعلوميات، معضلة انتشار الأمية في المجتمعات العربية ذات الكثافة السكانية المرتفعة. ولا نريد أن يفهم من سياق ما نحن بصدده أننا نمنح مؤشر المعرفة والتعليم امتيازاً محدداً، في باب فهم وتفسير مظاهر التخلف السائدة في مجتمعاتنا، قدر ما يعني عدم إغفال هذا المؤشر، في المساعي الرامية إلى فهم كثير من الظواهر المشخصة للتأخر في أحوالنا التاريخية العامة.
وقد ازدادت في نظرنا أهمية هذا المؤشر في النظريات الاجتماعية الجديدة في مجال التنمية، حيث أصبحت العناية تتجه لإبراز الأدوار الهامة التي تلعبها المعرفة في مجال التنمية الإنسانية الشاملة، كما أصبحت البنيات المعرفية وبنيات التنشئة الثقافية تشكل مداخل أساسية، في باب مقاربة كثير من الظواهر السلبية المهيمنة على المجتمعات المتخلفة.
صحيح أن ظواهر التخلف مركبة ومعقدة، وأنه لا يمكن أن تفسر بعامل واحد مهما عظم وزنه، إلا أن مكانة العوامل المسببة والداعمة تتفاوت حسب المجتمعات وحسب درجات التأخر. نحن نفترض هنا أن هذا العامل بالذات يساعدنا على إدراك أفضل لكثير من مواطن الخلل الاجتماعية والذهنية السائدة في المجتمع العربي.
تبرز أهمية هذا العامل في تركيزه على الإنسان كقيمة عليا في مجال التنمية والتقدم، وقد أصبحت الموارد البشرية المؤهلة، تشكل اليوم دعامة مركزية من دعامات الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي.
تكمن قيمة المعطيات الإحصائية التي تضمنها تقرير «الألكسو»، في عنايتها بتشخيص مكونات أوضاع التعليم والمعرفة في المجتمعات العربية، وهي تلتقي مع كثير من المعطيات المتضمنة في تقرير التنمية الإنسانية الثاني، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 2003 في موضوع: نحو إقامة مجتمع المعرفة. إنهما معاً يضعان الأصبع على مواطن الخلل في أنظمتنا في التربية والتعليم، ويشخصان بكثير من الجهد والجرأة غربة العرب عن مجتمع المعرفة.. إن نتائجهما العامة تدعونا إلى إعادة بناء التحديات الأكثر خطورة في الحاضر والمستقبل العربي، فنحن نتحدث منذ عقود من الزمن عن التحدي التكنولوجي وما يترب عنه من نتائج في مجالات المعرفة والمجتمع والإنتاج في العالم العربي، ونغفل بناء ما يعتبر الأصل في تبلور هذا التحدي. ونقصد بذلك مبدأ تعميم التعليم وتوسيع دائرة المتعلمين أولاً وقبل كل شيء، فلا يمكن أن نتحدث عن تحد تكنولوجي بدون بلوغ مراتب محددة من درجات العمل الهادف إلى القضاء على الأمية المتفشية بصورة مهولة في أوساط ناشئتنا من الإناث والذكور، وبدون أن ننجز الإصلاح المطلوب في الأنظمة التربوية والتكوينية السائدة.
تساعدنا أرقام الأمية الواردة في التقرير، على إدرك فشل سياسات التعليم في كثير من الأقطار العربية، وهو الأمر الذي يؤكد مطلب الإصلاح في مجالات التربية والتعليم المختلفة، إصلاح أنظمة التعليم والمعرفة، ومحاولة الاستفادة من المكاسب والمنجزات التي حققتها الأنظمة التربوية الجديدة، في مجال مقاربة الظواهر التعليمية في مختلف مستوياتها وأبعادها، وهي تساعدنا كذلك على تفسير كثير من مظاهر التقليد المنتشرة في عالمنا، سواء في المجال السياسي أو في مجال العقائد والأفكار، أو في مستوى انتشار آليات ورؤى الفهم الأسطوري للظواهر الطبيعية والإنسانية. ولا يمكن مواجهة كل ما سبق إلا بوضع مخططات في التنمية تعطي لعامل تعميم وتوسيع وتطوير المعرفة داخل المجتمعات العربية، دوراً فاعلاً في مشروع مواجهة ظواهر التطرف التي صنعت كثيراً من البؤس التاريخي المعمم في مجتمعاتنا.. فلا جدال اليوم في الدور الذي تمارسه المعرفة في مجال بلوغ الغايات الإنسانية الكبرى، المتمثلة في الحرية والعدالة والتقدم، ولن نتمكن من ولوج أبواب التحديث السياسي، بدون محاربة آفة الأمية المنتشرة وسط ملايين الشباب في العالم العربي.
إن وضوح الأهداف والمقاصد في المجال السياسي، مرهون بقسط من المعرفة المساعدة على تصور محدد للتاريخ وللإنسان، لهذا تطرح معضلة الإصلاح السياسي في مجتمعاتنا كثيراً من المشاكل المركبة والمعقدة، وتدعونا إلى وضع سلم للأولويات لا يغفل عامل مواجهة الجهل الذي يبسط نفوذه على النساء والرجال، مولداً كثيراً من السلوكات والظواهر المهددة للتوازن القائم في مجتمعاتنا. وتكشف كثير من ردود الفعل المنتشرة في مجتمعنا اليوم، التأثير الكبير الذي تمارسه الأمية على عقول شبابنا، فالتطرف، والانقياذ الأعمى «للشيوخ»، الأموات منهم والأحياء، وتغييب العقل، وسيادة الوثوقية، كلها معطيات لا يمكن التخلص منها إلا بمزيد من نشر ألوية المعرفة في العالم العربي.
وفي هذا السياق تنبغي الإشارة إلى أن المعرفة في تصورنا، ليست مجرد بضاعة قابلة للاستيراد والاستهلاك، إنها ليست مجرد خزانات للكتب وحواسيب يتم رصها بين أربعة جدران، إنها قبل ذلك وبعده، عملية تاريخية مركبة، إنها طريقنا نحو العقل المنتج، العقل الإجرائي المساعد على الابتكار والتجديد، وهي ليست جملة من المعارف والحقائق المغلقة، بل طريق وأداة مساعدة على تطوير المنجزات والمكاسب في أفق من التطور لا حدود له.
ومن المؤكد اليوم أن التعليم يعد من الوسائل المساعدة على ارتفاع الإنتاجية والزيادة في مردودية العمل، فكلما تطورت المعارف والأدوات المعرفية، انعكس ذلك على درجة الإنتاجية وعلى تصور المستقبل بأقصى ما يمكن من الاستشراف المساعد في عمليات تطور المجتمعات البشرية.
تعزز إحصائيات «الألكسو» إذن حاجتنا الملحة لإصلاح بنيات الأنظمة التربوية في واقعنا، وهي تضعنا مباشرة أمام مظهر من مظاهر تخلفنا المكشوف. لهذا لا ينبغي أن نستغرب عندما يتم التغرير بشبيبتنا، ودفعهم لتفجير أرواحهم في الأماكن العمومية «لربح الدارين»، كما لا ينبغي أن نستغرب من الأدوار التي يمارسها بعض الدجالين داخل مجتمعاتنا، فهم يعرفون جيداً غياب عنايتنا بإصلاح سياسات التعليم في أنظمتنا السياسية، ولعلهم أنفسهم من ضحاياها. لهذا السبب نحن نعتبر أن إعلان الأرقام المذكورة يدخل في باب دق ناقوس المخاطر التي ما فتئت تتفاعل في قلب مجتمعاتنا، لعلنا نتمكن من مواجهتها بأقصى ما يمكن من الجرأة والحزم.
إن رقم 70 مليونا يشخص بلغة الأرقام الواضحة والمباشرة ما يعادل نسبة ربع الساكنة العربية، وهو يشخص بالذات مأزق التربية والتكوين والمعرفة في مجتمعاتنا، ويجعلنا نعاين مقدار الخسارة الحاصلة في مواردنا البشرية.
ولا يمكن إخفاء هذه المآزق أو التقليل من قيمته، بهدف تأجيل الإصلاح التربوي الشامل، ومحاصرة النزيف المترتب عن جهل شبابنا ونسائنا، كما أنه لا يمكن التردد في مواجهة ملف الأمية، بفتح سجالات عقيمة في موضوع الأسبقيات والأولويات، فتخلفنا كما لا يخفى على الجميع مركب، ومعاركنا في مواجهته ينبغي أن تكون بدورها مركبة، لعلنا نسهم في فك الحصار المضروب على العقول والأجسام في مجتمعنا، وذلك بفتح نوافذ المعرفة والحرية.