بدأ الناس التفكير بتعلم الراشدين ودراسته والكتابة عنه منذ فترة وجيزة فقط. ومع ذلك فإن هذه الظاهرة قد شغلت الناس لمدة طويلة, إلا أن المتعلم الراشد لم ينل ما يستحقه من عناية واهتمام لسنوات عديدة.

من الجدير ذكره أن الأبحاث في هذا المجال قليلة, ويعود السبب في ذلك إلى وجود العديد من المعلمين الكبار المتخصصين بتعليم الراشدين عوضاً عن الأطفال وذلك منذ قديم الزمان. نذكر من بين هؤلاء المعلمين:
- "كونفيوشس" و"لاوتس" من الصين.
- الأنبياء العبريون والسيد المسيح في الأوقات التوراتية.
- أرسطو وسقراط وأفلاطون في اليونان القديمة.
- "سيسر وإيفيفليد وكوينتيليان" في روما القديمة.
فخبرتهم مع الراشدين جعلتهم قادرين على تطوير مفهوم يخص عملية التعليم في ذلك الوقت بطريقة مختلفة جداً عن مفهوم التعليم الشكلي الذي ظهر فيما بعد.

فقد عدوا عملية التعلم: عملية استكشاف عقلي وليس مجرد تلق سلبي للمعلومات المطروحةٍ. لذلك, أوجد هؤلاء المعلمون تقنيات تسمح للمتعلمين بالاشتراك في عملية الاستكشاف هذه. كما أوجد الصينيون والعبريون القدماء ما نسميه اليوم بطريقة الحالة[w1] : وهي بأن يقوم المعلم أو أحد المتعلمين بسرد موقف ما على شكل حكاية رمزية, يحاول المتعلمون بعدها دراسة خصائصها وإيجاد الحلول المحتملة.

أما اليونانيون: فقد أوجدوا ما يسمى بالحوار السقراطي. تتلخص فكرة هذا الحوار بطرح سؤال أو مشكلة من قبل المعلم أو أحد المتعلمين حيث يحاول بقية المتعلمين تركيز تفكيرهم وخبرتهم لإيجاد الإجابة أو الحل. تميز الرومان بأسلوب المواجهة حيث استخدموا اختبارات تجبر أعضاء المجموعة على ذكر مواقفهم وآرائهم والدفاع عنها. نظمت المدارس في القرن السابع في أوروبا لتعليم الأطفال وخاصة لإعداد الأولاد الصغار لمرحلة الرهبنة. لذلك, أصبحت تلك المدارس تعرف بالمدارس الرهبانية والكاتدرائية.
كانت المهمة الرئيسية لهؤلاء المعلمين تتركز بتلقين الطلاب العقائد والدين وطقوس الكنيسة. كما طوروا مجموعة من افتراضات التعلم واستراتيجيات التعليم, التي تعرف الآن بعلم أصول التدريس (البيداغوجي).

والبيداغوجي اصطلاحاً: هو "فن وعلم تعليم الأطفال." وهي مشتقة من مصدر إغريقي من كلمة بيد[w2] التي تعني "الطفل"والكلمة إغوجس[w3] بمعنى"القائد." وقد استمر اعتبار هذا النموذج التعليمي حتى القرن العشرين كأساس تنظيميي لنظام التعليم. كما ظهرت مجموعة من الأفكار حول الخصائص المميزة للمتعلمين الراشدين في كل من الولايات المتحدة وأوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بفترة وجيزة. إلا أن هذه الأفكار لم تتطور لتشكل إطاراً متكاملاً لتعلم الراشدين إلا في العقود القليلة الماضية. إذ إن تتبع مراحل تطور هذه العملية ضمن هذا البلد أمراً في غاية التشويق.

اتجاهان هامان من البحث
هناك اتجاهان سائدان من البحث ظهرا مع بداية تأسيس الجمعية الأمريكية لتعليم البالغين عام 1926 وقيام شركة" كار ينجي" في نيويورك بتبني مهمة التمويل الضخم للبحث والنشر. ويمكن تصنيف هذين الاتجاهين في:
1-الاتجاه العلمي.
2-الاتجاه الفني أو الحدسي/التأملي.
فالاتجاه العلمي: يسعى إلى اكتشاف المعرفة الجديدة وذلك من خلال الأبحاث الدقيقة التي غالباً ما تكون تجريبية. ترافق هذا الاتجاه مع نشر كتاب "تعلم الراشدين[1]" لمؤلفه "إدوارد إل.ثورندايك" عام 1928. ومن الملاحظ أن عنوان الكتاب مضللاً حيث أن "ثورندايك" لم يكن مهتماً بعملية تعلم الراشدين بل بقدرتهم على التعلم. كانت لأبحاث ثورندايك أهمية كبيرة من حيث أنها قدمت أساساً علمياً للمجال الذي كان يركز سابقاً فقط على الاعتقاد بقدرة الراشدين على التعلم. ظهرت بعد ذلك أبحاث إضافية في هذا الاتجاه في العقد التالي وتضمنت بعضاً من الكتب منها: كتاب "اهتمامات الراشدين[2]" لثورندايك في عام 1935 وكتاب "قدرات الراشدين[3]" لهيربيرت سورنزن في عام 1938.
ومع بداية الحرب العالمية الثانية, تمكن معلمو الراشدين من الحصول على دليل علمي يثبت قدرة الراشدين على التعلم و مدى اختلافهم عن الأطفال من ناحيتي القدرة والاهتمام.

من جهة أخرى, يسعى الاتجاه الفني لاكتشاف المعرفة الجديدة من خلال الحدس وتحليل الخبرات. وقد اهتم هذا الاتجاه بكيفية تعلم الراشدين وتحددت بدايته بنشر كتاب "معنى تعليم الراشدين[4]" عام 1926 لمؤلفه "إدوارد سي.ليندمان". وضع ليندمان أساساً لنظرية منظمة حول تعلم الراشدين إذ كان من الواضح تأثره بفلسفة "جون ديوي" التربوية. ومن الأفكار التي تحدث عنها ليندمان:
إن مدخل تعليم الراشدين يعتمد وبشكل كبير على المواقف بدلاً من المواضيع, الأمر الذي تفتقده أنظمتنا الأكاديمية. فالمعلم ومادة البحث يشكلان نقطة انطلاق رئيسية في تلك الأنظمة, في حين يحتل الطلاب أهمية ثانوية. وهنا يتوجب على الطالب أن يتكيف وفقاً للمنهاج المعتمد في التعليم التقليدي. أما فيما يخص تعليم الراشدين, فيتم وضع المنهاج انطلاقاً من حاجات الطالب واهتماماته. فلكل شخص راشد ما يناسبه في المواقف الخاصة فيما يتعلق بعمله واستجمامه وحياته العائلية ومحيطه الاجتماعي وما إلى هنالك من مواقف تستدعي التغيير. وهنا تأتي مهمة تعليم الراشدين. إذ يتم تقديم مادة البحث ضمن الموقف عند الضرورة . فيقوم المعلم والكتاب بدور جديد وثانوي ضمن هذا النوع من التعليم حيث يتم التركيز الأساسي على المتعلم. (ص 8-9)

وتتجلى قيمة تعليم الراشدين الأساسية بمدى خبرة المتعلم. فإذا كان التعليم هو الحياة فإن الحياة هي التعليم. فالتعلم بمعظم أشكاله يشتمل على بدائل تعويضية لخبرة الشخص ومعرفته. وهذا ما تعلمناه عن طريق علم النفس أن نكتسب خبرتنا مما نقوم به. بالنتيجة, فإن التعليم الحقيقي يضمن كلاً من العمل والتفكير.... أما الخبرة فهي بمثابة الكتاب المدرسي الحي للمتعلم الراشد. (ص9-10)

إذ أنه ما من مكان للتعليم الرسمي أو الاختبارات التي تعيق التفكير الجديد أو الصيغ التربوية الصارمة في تعليم الراشدين. ماذا نجد في مواقف تعليم الراشدين؟ نجد مجموعات صغيرة من الراشدين الذين:
- يسعون للمحافظة على عقولهم مفعمة بالنشاط والحيوية.
- ينطلقون في تعلمهم من مواجهة مواقف ذات صلة وثيقة بالموضوع.
- يستهلكون جميع خبراتهم قبل اللجوء إلى الكتب والحقائق الثانوية.
- يصلون إلى المعرفة بأنفسهم وبدون الاعتماد على الآخرين.
نصل إلى أن عملية تعليم الراشدين: هي السعي الحديث للكشف عن معنى الحياة. إذ إن نظرية تعلم الراشدين تتحدى ما يلي:
- مفاهيم الذكاء الثابتة والمحددة.
- الحدود القياسية للتعليم التقليدي.
- النظرية التي تخصص الوسائل التعليمية للدروس التفكيرية[w4] .
ونرى غالباً أن المدافعين عن الوضع الراهن للتعليم يعتقدون بعدم اكتراث معظم الراشدين بالتعلم لعدم وجود الحافز لهم في التعليم المستمر. إلا أن الوضع مختلف في حال حصول الراشدين على هذه التحفيزات مما سيدفعهم تلقائياً لانتهاز الفرص التعليمية المجانية التي تقدمها الوكالات العمومية. ولابد من التنويه هنا إلى أن هذه المناقشة تؤدي إلى إثارة الشكوك والأخطاء في فهم المشكلة. إذ من الصعب علينا الإلمام بعدد الراشدين الساعيين إلى فهم أنفسهم وكذلك العالم الذي يعيشون به, حيث أن استخدام التعليم لنماذج المطابقة سيحول دون معرفتنا بذلك. فتعليم الراشدين هو محاولة اكتشاف طريقة جديدة وخلق حافز جديد للتعلم. بالتالي: يركز تعليم الراشدين على النوع وليس الكم. أما المتعلمون الراشدون فهم أولئك الأشخاص الذين نجد صعوبة بإثارة طموحاتهم الفكرية من خلال المتطلبات الصارمة لمؤسسات التعلم التقليدية[w5] . (ص 27-28)

فتعليم الراشدين هو عملية زيادة وعي المتعلمين فيما يتعلق بالخبرات حيث ينتج التقويم عن إدراك الأهمية. فكسب الخبرات مهم بالنسبة لنا عند إدراكنا ماذا يحدث وما هي أهمية النشاط التعلمي بالنسبة لشخصياتنا. (ص169)

ولمزيد من التوضيح نقدم فيما يلي اقتباسين آخرين من كتابات ليندمان:

عملية تعليم الراشدين من خلال تقنية جديدة للتعلم حيث أنها تشكل ضرورة لكل من الخريج الجامعي والعامل اليدوي الأمي على حد سواء. حيث يتمثل تعليم الراشدين في إدراك وتقييم خبرته الخاصة. ولا يتحقق ذلك من خلال دراسة "المواضيع" على أما [H6] الاستفادة من هذه المعلومات في يوم من الأيام. على العكس, يبدأ الراشد بالاهتمام بالمواقف التي تعنيه إضافة للمشاكل التي تعيق إنجازه الذاتي. إذ يتم توظيف الحقائق والمعلومات المستمدة من مجالات المعرفة المختلفة في حل المشكلات, لأننا بالنهاية لا نهدف إلى تجميع المعلومات بل إلى الاستفادة منها. بذلك يجد المعلم لنفسه وظيفة جديدة في هذه العملية فهو لم يعد ذلك الشخص الذي يوجه المعلومات والنصائح باعتباره صاحب السلطة. إذاً: المعلم هنا شخص مرشد ومفسرلا يتردد في المشاركة بالتعلم بحسب نشاطه وصلة التعلم بحقائقه وتجاربه.

وإن تعليم الراشدين هو بالنهاية: مغامرة تعاونية في التعلم الغير صارم ورسمي. كما أنه يهدف إلى اكتشاف معنى الخبرة, فهو سعي العقل للغوص عميقاً داخل المفاهيم والأفكار السابقة المسؤولة عن تصرفاتنا. بتعبير آخر, إنه تقنية لتعلم الراشدين تقوم بصهر الحياة والتعلم في بوتقة واحدة مما يرفع من مستوى المعيشة لتصبح نوعاً من التجربة المجازفة. (جيسنر,1956,ص160)

إن ما يميز تعليم الراشدين عن التعليم التقليدي هو اشتراك المعلم في عملية التعلم مما يحسن مستوى المعلم الرديء. ففي داخل صف الراشدين تكون خبرة الطالب على قدر من الأهمية لدرجة أنها تعادل معرفة المعلم بحيث يستفيد كلاهما من معارف وخبرات الآخر. في الحقيقة, قد يحدث أن تعهد نفسك داخل أفضل صفوف الراشدين عاجزاً عن اكتشاف من يتعلم بشكل أكبر, هل هو المعلم أم الطالب؟ ويتضح لنا هذا التعلم الثنائي من خلال السلطة المشتركة. يكيف التلاميذ أنفسهم وفق المناهج المقدمة في التعليم التقليدي, أما في تعليم الراشدين فإن الوضع مختلف حيث يساهم الطلاب في إعداد المناهج.... وبهذا يسود جو من الديمقراطية وتوزع السلطة والإدارة على الجميع. (جيسنر,1956,ص166)

تبدو هذه المقاطع المقتبسة من ليندمان, باعتباره عالماً نظرياً رائداً, كافية لتصوير طريقة جديدة في التفكير حول تعلم الراشدين. ومن الجدير بالذكرأن "ليندمان" (1926) قدم عدة افتراضات رئيسية فيما يتعلق بالمتعلمين الراشدين. يظهر "الجدول 1-4" ملخصاً بهذه الافتراضات. كما ظهرت فيما بعد أبحاث أكدت صحة تلك الافتراضات التي اعتبرت أساساً لنظرية تعلم الراشدين:
1- إن الذي يحفز الراشدين على التعلم مرتبط بمدى تلبية هذا التعلم لحاجاتهم واهتماماتهم. لذلك تعتبر الحاجات والدوافع نقطة انطلاق رئيسية لتنظيم فعاليات تعلم الراشدين.
2- يتمحور تعلم الراشدين حول الحياة مما يجعل من مواقفها وحدات ملائمة لتنظيم تعلم الراشدين بدلاً من مواضيع التعلم.
3- تشكل الخبرة أغنى مصادر تعلم الراشدين مما يجعل الدراسة التحليلية للخبرة بمثابة طريقة منهجية أساسية لتعليمهم.
4- شعور الراشدين بالرغبة القوية في التعلم الذاتي. يجعل وظيفة المعلم مشاركة الطلاب في عملية الاكتشاف بدلاً من مجرد نقل معارفه إليهم ومن ثم اختبار التزامهم بتلك المعلومات.
5- تزداد الفروق الفردية بين الناس مع التقدم بالسن, الأمر الذي يفرض على تعليم الراشدين اتخاذ الإجراءات المثالية مع أخذ تلك الفروقات بعين الاعتبار فيما يتعلق بالأسلوب والوقت والمكان وسرعة التعلم.



بواسطة:الدكتور محمد بدرة
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/arabic/show_article.thtml?id=274