عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
الأمراض غير المعدية السيطرة عليها أصعب من الأمراض الأخرى
ربما ينبغي أن يحسب في سجل التاريخ البشرى أن من ضمن أشكال النجاح اكتشاف أن الإفراط، سواء أكان إفراطا في الطعام أو الشراب أو المتعة أو الترفيه، قد أصبح أكبر خطر على الصحة في عالم اليوم! ففي جميع الأزمنة باستثناء الفترات الزمنية الأخيرة، كان الناس يموتون نتيجة أمور مثل البرد والمجاعة والولادة والعنف والحوادث والميكروبات التي كانت تصيب كل عضو في الجسم بالعدوى.
وبطبيعة الحال، لا يزال كثير من الناس يموتون بالطرق القديمة. ولكن الأسباب الرئيسية للموت الآن هي مجموعة مختلفة من الأعداء، التي تزحف في فوج رتيب تحت راية واحدة تحمل اسم «الأمراض غير المعدية».
وأهم هذه الأمراض أمراض القلب والأوعية الدموية (النوبات القلبية والسكتة الدماغية في الغالب)، والسرطان، والأمراض الرئوية المزمنة مثل انتفاخ الرئة، ومرض السكري. وهناك العديد من الأمراض الأخرى التي لا تقل عنها أهمية، مثل الفشل الكلوي وتليف الكبد، والتهاب المفاصل.
أمراض غير معدية
ونتيجة لعدد من العادات السلوكية السيئة السائدة، مثل السمنة والتدخين والخمول، تحصد هذه الأمراض أعدادا كبيرة في جميع أنحاء العالم، سواء في الدول الفقيرة أو الغنية.
و«الأمراض غير المعدية» هي الأمراض التي سيتعرض لها جسم الإنسان إذا ما امتد عمره بما يكفي، وهذا هو ما يجعل هذه الأمراض هدفا صعبا، فهي ليست مثل الجدري (تم القضاء عليه) أو شلل الأطفال (على وشك التخلص منه نهائيا) أو الملاريا (تم القضاء عليها في أوروبا وأميركا الشمالية)، لأنها ستظل دائما معنا.
إلا أنه يمكن منعها وتأخيرها وعلاج آثارها، وقد أصبح الآن واضحا أنه من دون تضافر الجهود لتحقيق ذلك، سيواجه العالم مشكلة كبيرة. هذه هي الرسالة التي أبلغها خبراء الصحة العامة، وعلماء الأوبئة، والنشطاء لزعماء العالم المجتمعين في الأمم المتحدة أثناء دورتها الأخيرة.
وتشكل الأمراض غير المعدية الآن السبب لـ63 في المائة من الوفيات على مستوى العالم، حيث تشكل السبب الرئيسي للوفاة في أغلب دول العالم عدا قارة أفريقيا، حيث لا تزال العدوى، وسوء التغذية، والوفيات المرتبطة بالولادة، هي المهيمنة.
والعديد من عوامل الخطر المرتبطة بها هي بالفعل أكثر شيوعا في البلدان الفقيرة عن البلدان الغنية، أو آخذة في الارتفاع بسرعة. فارتفاع ضغط الدم، على سبيل المثال، أكثر شيوعا في البلدان ذات الدخل المنخفض مثل زامبيا وبورما، وكذلك في البلدان المتوسطة الدخل، مثل إندونيسيا والأرجنتين، مما هو عليه في الولايات المتحدة.
ولكن اعتلال الصحة والوفاة المبكرة ليست سوى جزء من المشكلة، حيث باتت الأمراض غير المعدية تشكل، على نحو متزايد، تهديدا للرخاء. فهي تستهلك الثروة الشخصية، وتخفض إنتاجية العمل وتحتاج إلى كميات كبيرة من الإنفاق على الرعاية الصحية.
وتنفق الأسرة المتوسطة الفقيرة في نيبال 10 في المائة من دخلها على السجائر. وفي روسيا يغيب العامل المتوسط 10 أيام عن العمل سنويا بسبب المرض المزمن أو الإصابة.
وتبلغ التكلفة الشهرية للأدوية الأربعة التي ينبغي أن يأخذها الشخص بعد إصابته بأزمة قلبية أجر خمسة أيام عمل من أيام العامل الحكومي الأدنى أجرا في البرازيل.
وفي البلدان الكبرى مثل الهند والصين، حيث يتغير نمط الحياة ويتسارع النمو الاقتصادي جنبا إلى جنب، يبدو المستقبل أكثر إثارة للقلق. ففي عام 2004 خسر الهنود 7.1 مليون شخص بسبب الوفاة قبل سن الـ 60 الناجمة عن النوبات القلبية، ومن المتوقع أن تبلغ الحصيلة السنوية للوفاة المبكرة 17.9 مليون شخص في عام 2030.
ويتوقع أن تفقد الصين في الفترة بين عامي 2006 و2015 ما يزيد قليلا على نصف تريليون دولار من الدخل القومي بسبب أمراض القلب والسكتة الدماغية والسكري.
التحدي الأكبر
إذن، ماذا بإمكاننا تغييره من هذا الحاضر لتجنب المشكلات في المستقبل؟ الجواب هو أنه مقدار لا بأس به، أو على الأقل هذا هو ما تقوله البحوث العلمية، والأحداث التي وقعت مصادفة في التاريخ الحديث وآراء الخبراء.
إلا أن استراتيجيات الوقاية أكثر تعقيدا وإثارة للجدل، كما أنها أيضا أكثر عددا وتنوعا، من تلك التي أثبتت نجاحا كبيرا في مكافحة الوفيات الناجمة عن العدوى أو وفيات الأمهات والأطفال أثناء الولادة أو بعدها مباشرة.
وتتطلب الوقاية من الأمراض المعدية وغير المعدية على السواء نوعين من التدخلات، حيث تستهدف الأولى الأفراد ويتم تقديمها من قبل الأطباء والممرضات، بينما يكون الهدف الثاني هو المواطنون ككل، وفيه تقدم الخدمة بواسطة الحكومة أو الجوانب التي يمكن أن تسيطر عليها الحكومة.
وتعتبر اللقاحات أمثلة تقليدية للنوع الأول من التدخل، التي أسهمت في القضاء على أمراض الجدري والحصبة وتسببت في ندرة وجود عوامل مسببة للمرض مثل إنفلونزا المستديمة من النوع «بي»Haemophilus influenzae type B.
وكانت أهم مزاياها أنه لم تكن هناك حاجة لإعطائها للمريض سوى مرات قليلة - في بعض الأحيان مرة واحدة فقط - لكي تقوم بعملها. ويعتبر ضخ المياه المعالجة بالكلور في الأنابيب مثالا للنوع الثاني من التدخل، حيث لم ينقذ أي إجراء حكومي مشابه في القرنين الأخيرين مثل هذا العدد الكبير من الأرواح. كما أنه إجراء أفضل من عملية التطعيم، حيث إن كل ما هو مطلوب لجني الفوائد هو مجرد فتح الصنبور.
الوقاية الصعبة
الوقاية من الأمراض غير المعدية أكثر صعوبة، فليس هناك لقاح لمنع التدخين (على الرغم من سعي العلماء لإيجاد لقاح)، وليس هناك حبوب لحمل الناس على زيادة ممارستهم للرياضة، أو الإقلال من تناولهم الطعام. وأدوية التحكم في ضغط الدم أو ارتفاع نسبة الكولسترول ينبغي تناولها بصورة يومية.
والعقبات التي تحول دون التدخل في حياة مجتمعات بأكملها هي عقبات أكبر حجما، حيث من الممكن أن تعارض الشركات المصنعة والمطاعم جهود تغيير محتوى الطعام من الدهون والملح.
وتتطلب قوانين أماكن العمل الخالية من التدخين اتخاذ إجراءات من قبل المشرعين وإجبار الناس على تغيير سلوكهم، مما يجعلها لا تحظى بشعبية في بعض الأوساط.
كثيرا ما تلقى «الضرائب على الرذائل» على التبغ والمشروبات الكحولية والغازية التي تضع عبئا أثقل على كاهل الفقراء، معارضة أيضا من المصالح التجارية القوية.
لهذه الأسباب، تطلبت مكافحة الأمراض غير المعدية منذ زمن بعيد توجيه الرسائل للأفراد، حيث كان أبقراط يقدم المشورة الغذائية، ومنذ سبعين عاما قامت شركة «نيويورك لايف» للتأمين بنشر إعلانات في المجلات تقدم نصائح لإنقاص الوزن للرجال الذين لاحظوا زيادة في أجسامهم.
واليوم يطلب من أطباء الرعاية الأولية التحدث في زيارات ميدانية، لا تتجاوز مدتها 30 دقيقة، عن التدخين، وممارسة الرياضة، والدهون والملح (بالإضافة إلى الحديث عن أحزمة المقاعد، والجنس الآمن، والنوم، والكثير من الأشياء الأخرى).
وفي أعقاب صدور تقرير الجراح العام للولايات المتحدة بشأن التدخين والصحة، الذي أدى إلى صدور حزمة من التحذيرات في العام التالي، وسلسلة من القوانين والحملات في فترة لاحقة ساهمت في تخفيض عدد المدخنين في الولايات المتحدة إلى النصف، اتضح مدى أهمية التدخل على مستوى السكان ككل.
وقالت أورسولا باور، مديرة الوقاية من الأمراض المزمنة وتعزيز الصحة في مراكز مراقبة الأمراض والوقاية: «لقد أدركنا في أواخر الثمانينات والتسعينات أن الناس لا يمكنهم إجراء تغيير في سلوكهم الفردي ما لم تدعم البيئة المحيطة هذا التغيير وتجعل من ممارسة السلوك المثالي شيئا سهلا ومريحا».
أوضاع سابقة ولاحقة أمضى الباحثون كثيرا من الوقت في محاولة إثبات أن التدخل على مستوى السكان ككل يمكن أن يؤدى إلى تحسين الصحة (راجع القصة المرفقة). ولكن أفضل الأدلة تأتي في الواقع من «التجارب الطبيعية» التي تخلق فيها الأحداث التاريخية أوضاعا «سابقة» و«لاحقة» يمكن مقارنتها.
ففي يونيو (حزيران) من عام 2002 فرضت سانت هيلانا، عاصمة ولاية مونتانا الأميركية، حظر تدخين عامًّا، إلا أنه علق بقرار من محكمة في ديسمبر (كانون الأول).
وخلال تلك الفترة، التي امتدت لستة أشهر، انخفض معدل الأشخاص المصابين بنوبات قلبية الذين تم إدخالهم في المستشفي الوحيد في هيلانا الذي يأخذ مثل هذه الحالات، بنسبة 40 في المائة.
ثم عاد هذا المعدل إلى مستواه السابق. ولم تظهر معدلات النوبات القلبية في المناطق القريبة من ولاية مونتانا مثل هذا التراجع، مما يشير إلى أن حظر التدخين الذي فرضته مدينة هيلانا، على الرغم من أنه استمر لفترة قصيرة، فإنه كان له أثر صحي ملموس.
كما شهدت بولندا بين عامي 1991 و1994 انخفاضا بنسبة 25 في المائة في معدلات الوفاة بالنوبات القلبية، بعد أن ظلت المعدلات ترتفع باطراد على مدى العقود الثلاثة السابقة.
ولم تتغير معدلات التدخين ولا نسبة الكولسترول في الدم - وهما من عوامل الخطر الرئيسية للأزمات القلبية - خلال هذه السنوات الثلاث، ولكن النظام الغذائي تغير..
فمع نهاية الحكم الشيوعي في عام 1989، تضاعف استهلاك الفاكهة والخضراوات، وتم وضع حد لإعانات المستهلكين للحوم، وحدث تحول كبير من استهلاك الدهون الحيوانية إلى استهلاك الدهون النباتية، وانخفض استهلاك البيض والحليب.
وقد اعتقد الباحثون الذين حللوا تراجع معدلات الوفاة بالنوبات القلبية في بولندا أن سبب هذا التراجع هو انخفاض في نسبة الدهون المشبعة وغير المشبعة، التي تزيد بشكل ملحوظ من مخاطر تعرض الأفراد للأزمات القلبية، خاصة إذا كان لديهم بالفعل تصلب كبير في الشرايين.
وقد كان هذا التأثير للدهون غير المشبعة السبب في ملاحقة مدينة نيويورك لها في عام 2005، حيث قامت دائرة صحة المدينة في البداية بإرسال معلومات للمستهلكين وموردي السلع الغذائية و30000 مطعم تحثها على استبدال زيوت أقل خطورة بالدهون غير المشبعة.
ولكن بعد مرور عام كامل لم يتغير شيء، لذلك تم تعديل القانون الصحي للمدينة لينص على هذا الاستبدال. وبحلول عام 2008، انخفضت النسبة المئوية من المطاعم التي تستخدم الدهون غير المشبعة في إعداد الطعام من 50 إلى 1.6 في المائة.
وفي حين عارضت صناعة المواد الغذائية القانون، لم تكن هناك آثار اقتصادية واضحة، وفقا للباحثين الذين كتبوا في مجلة «حوليات الطب الباطني» في عام 2009، حيث كتبوا: «لقد أصبح التقييد المفروض على الدهون غير المشبعة الآن شيئا غير ملحوظ إلى حد كبير في الحياة في مدينة نيويورك».
المخ ساحة حرب لسوء الحظ، لن تكون معظم التغييرات الأخرى، التي سينبغي على الناس والسكان ككل القيام بها للحد من عبء الأمراض غير المعدية، سهلة.
وربما كانت لدى الأغذية والمشروبات الكحولية والتبغ القدرة على تغيير الطريقة التي نشعر بها وجعلنا بحاجة إلى الشعور بهذه الطريقة مرة أخرى، إلا أن تحقيق هذا الأثر يستنزف مسارات عصبية في الدماغ استغرق ضبطها ملايين السنين من التطور.
فالخلايا العصبية التي تنتج السيروتونين والدوبامين والأستيل عندما نستهلك الملح والسكر والدهون والنيكوتين والكحول، هي نفسها الخلايا التي تساعدنا على التعلم والتذكر وتحفيز أنفسنا والبقاء منتبهين.
وهذه مشكلة كبيرة، كما يقول ديفيد إيه كيسلر، مؤلف كتاب «نهاية الإفراط في الطعام»، وكان رئيسا لإدارة الغذاء والدواء لمدة سبع سنوات في ظل الرئيسين الجمهوري (جورج بوش الأب)، والديمقراطي (بيل كلينتون).
وقد كان من الإنجازات الرئيسية في فترة ولايته التغييرات في العلامات الغذائية والحملة التي وصفت السجائر بأنها وسائل لنقل المخدرات. وهو لا يعتقد أننا سنكون قادرين على عرقلة هذه المسارات العصبية دون الإضرار بالصفات البشرية.
وقال كيسلر في مقابلة أجريت معه مؤخرا: «تلك الدوائر العصبية ليست قاصرة على الغذاء، فأنا أستطيع أن أعطيكم دواء من شأنه أن يؤثر على الشهية ويهدئها، ولكنة في المقابل سيوثر على نسبة الذكاء»، وقال إنه لا يتحدث بشكل خطابي.
وهو يعتقد بدلا من ذلك أن الأمر سيتطلب استخدام أجزاء أخرى من الدماغ - أجزاء التفكير الواعي - لحمل الناس على تناول كميات أقل من الطعام، وتناول الطعام بشكل أفضل.
وهو ما حدث مع التدخين. ولكن لن تفلح شيطنة شركات التبغ ونبذ المدخنين، التي كانت ضرورية لتلك الحملة، مع الغذاء، الذي يعتبر من أساسيات الحياة.
ومع ذلك، يعتقد كيسلر أن بإمكاننا أن نتعلم وأن نفكر بطريقة مختلفة - بشأن بعض الأطعمة، وأحجام الوجبات، وبشأن الأكل في كل مكان وزمان - وأن الحكومة لديها أدوات لمساعدتنا في هذا؛ إذ يعتقد مفوض إدارة الأغذية والعقاقير السابق، الذي يعترف في كتابه أن الدهون والسكر والملح «كان لها تأثير ملحوظ على سلوكه» لفترة كبيرة من حياته، أن تنظيم الدعاية الخاصة بأغذية للأطفال هو أحد هذه الأدوات، وقال: «لا ينبغي إعطاء وزن الخطاب الإعلامي الحقيقي نفسه للخطاب المرتبط بتعزيز المحفزات، الذي لا يعدو كونه مجرد إشارة في سياق عملية الإدمان».
والتعديل الأول للدستور لا يحمى من يصيح قائلا: «حريق!» في مسرح مزدحم عندما لا يكون هناك حريق بالفعل، فهل ينبغي عليه أن يحمي إعلانا عن حبوب سكرية إذا كانت كلمات الإعلان ستؤدي إلى هوس غير صحي بالحلويات؟ الجواب أن كيسلر يعتقد أنها مسألة تستحق التفكير.
هل ستتغير الأمور؟ هناك عنصر آخر مفيد في تعديل منحنى الاتجاهات الخطرة، وهو التأييد شعبي للتغيير، وهو نوع من العمل الاجتماعي أثبت فعاليته في مكافحة الإيدز.
ولكن هل من الممكن أن يحدث هذا عندما تكون نتائج عادات هذه الأيام - مثل: «دعونا ننتهي من تناول هذا الكيس من رقائق البطاطا» و«أعتقد أنني لن أذهب إلى الصالة الرياضية اليوم» - مختلفة تماما عن الآلام والمعاناة التي غالبا ما توجد في نهاية الطريق؟ وهل سيعمل الناس على جعل أنفسهم أكثر صحة ويطالبون حكوماتهم بمساعدتهم في هذا الأمر؟ الإجابة هي أن بعض الناس يعتقدون ذلك.
وقال السير جورج ألان، وهو طبيب كان يشغل في السابق منصب رئيس منظمة الصحة لعموم أميركا: «أنا متفائل جدا بشأن إنشاء حركة اجتماعية، والأدلة واضحة على أنه يمكن القيام بذلك».
ولكن إذا ما كان هذا سيحدث بالفعل أم لا – وهل سيمكن تحويل مد الأمراض غير المعدية دون حدوث ذلك - هو أمر لا أحد يستطيع معرفته حتى الآن.
المفضلات