( الغريزة ) .. هذه القوة الخارقة التي خص الله بها سبحانه وتعالى الحيوانات على اختلاف أجناسها وتنوع بيئاتها، ذلك المختزن الهائل من الطاقات تكون عند الولادة بحالة ركود وما إن تظهر الظروف الملائمة حتى نراها تنشط للعمل بدقة دون تدريب سابق. ومن العجيب أن لكل كائن حي مجموعة من الغرائز تحدد نشاطه وتقوده لحفظ بقائه وحماية النوع من الاضمحلال وتوجه أعماله وتصرفاته فتميزه عن غيره من الحيوانات ولا يعلم السر في جميع هذه التصرفات سوى الخالق الحكيم: فما سر وقوع بعض أنواع العصافير على فكي التمساح المفتوحتين حتى انفصالهما الواحد عن الآخر بشق الحنك ؟ يأتي هذا العصفور ليتغذى من فضلات الطعام المتراكمة بين شدقي التمساح الجبار الذي يسمح لهذا المخلوق الصغير بتنظيف أسنانه أليس في ذلك سر؟ ليس من شك بأن تصرف التمساح هو تصرف مقدور ولطيف لا يدل على حقيقة خشونته. ويبدو أن الأمر يريحه ولذا فإنه يفتح شدقيه كلما شعر بأن أسنانه بحاجة إلى تنظيف أما العصفور الصغير فإن غريزته تقوده للتفتيش عن غذائه في كل مكان يجد فيه طمأنينة له ولا خطر يداهمه أثناء تناوله طعامه. فالحيوانات إذن تؤمن بقاءها بما تملك من غرائز، أما الإنسان فما القوة التي تكفل له الديمومة والبقاء؟ إنها الوارثة التي أوجدها الله فيه ولا شك .. نعم فالوراثة جلبت انتباه العلماء والباحثين فشبه الأبناء بالآباء من النواحي الفيزيولوجية ومن النواحي النفسية وغير ذلك هو أمر واضح يقود الباحث إلى تساؤلات كثيرة تنتهي كلها بدراسة عميقة لهذه الظاهرة التي يختص بها الإنسان كما يختص الحيوان بالغرائز.



ولذا فإنني سأبدأ بحث الوراثة بقصة غريبة تلقي بعض الضوء على هذه القوة المعجزة التي خص الله بها عباده منذ آدم عليه السلام حتى الآن: كنا نتحدث مع بعض الزملاء عن الوراثة وعن هذه القدرة الهائلة الكامنــة في النطفة عند الإنسان والتي تحدد مستقبل تفكيره، وطراز تصرفاته، ولون بشرته، وعينيه وتقاطيع وجهه وطريقة تفكيره، وذوقه، وميوله، إلى غير ذلك من الصفات الإنسانيــة، فتشعب الحديث، وإذا بأحدنا وهو رجل مثقف كيس، واسع الإطلاع يروي لنا القصة التالية:

ليضيف مثالاً على ما جاء به علماء النفس وعلم الأحياء من الأمثلة في حتمية انتقال الصفات الخاصة بالأهل إلى الفروع مهما بعد الجيل عن الأجداد وقد تقفز هذه الصفات إلى بعض الأحفاد لتستقر أخيراً في مضرب من مضارب العرب إذ جاء المخاض زوجة الأمير فحضرت القابلة "المولدة " وقامت بالإجراءات اللازمة فولدت هذه المرأة طفلاً أسود اللون في حين أنها بيضاء البشرة وزوجها الأمير أبيض البشرة أيضاً، فطار صوابها وأخذت القابلة تفتش لها عن مخرج من هذه الورطة فلو علم الأمير لذبحها ذبح النعاج متهماً إياها بالخيانة بينما هي بريئة كل البراءة من أية خيانة لزوجها.
وكان بالقرب من مضارب العشيرة – قبيلة الغجر- وتعلم القابلة بولادة امرأة من قبيلة الغجر فذهبت إليها بالمولود الأسود ورجتها مبادلته مع ابنها وأغدقت عليها المال حتى قبلت هذه الأم، وعادت القابلة بالمولود الأبيض.

وهكذا فقد أنقذت امرأة الأمير من الفضيحة ومن مضاعفاتها. كبر الولد ولاحظ والده الأمير بأنه يتصرف تصرفات لا تدل على أنه ابن أصل رفيع. ولما كان الوالد قوي الملاحظة ذا ذكاء متقد فقد راعته ألعاب ولده التي تدل على خسة في الطبع ودناءة في السلوك، يلعب كما يلعب أولاد الغجر، وليس لديه أية سمه من سمات أبناء الأمراء ، وامتلأ قلب هذا الأمير غيظاً ولكنه كتم غيظه.

وفي يوم من الأيام راح يروي لأصدقائه قصة غريبة قائلاً حدثني والدي عن جده الذي كان فارساً مقداماً وإنساناً شهماً رغم لون بشرته السوداء مما جعلني أتشوق لولد يتحلى بشجاعة وفروسية جد والدي ولو كان أسود اللون، وكانت زوجته وراء الحاجز الذي يفصل غرفة الرجال عن غرفة النساء تسمع ما يقول زوجها فصرخت من شدة تأثرها تنادي زوجها الأمير، ولما صار أمامها وقعت على رجليه تقبلهما وتطلب منه الأمان إذا باحت بسر قد يؤلمه، فمنحها الأمان وطلب منها الكلام. فقصت عليه حقيقة الأمر فطار عقله فرحاً واستدعى القابلة لتدله على ابنه الأسود. فقادته إلى قبيلة الغجر، وما إن أشرف على القبيلة حتى رأى الولد الأسود يعتلي خيمة ويكلم أولاد القبيلة بلهجة الواثق من نفسه فعلم أن هذا ابنه، قد ورث من جده اللون الأسود، وورث صفات الأمارة من الأسرة المنحدر منها. هذا مثال من أمثلة الوراثة، ومدى انتقال الصفات الخاصة بالسف إلى الخلف مهما بعد العهد بين جيل وجيل.