عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 29
النظر لأبعد من خطوتين
حين ترمي قطعة نقدية إلى الأعلى لايمكن لأي جهة في العالم معرفة على أي وجه ستقع.. فهذه الحركة على بساطتها تتحكم بها عوامل معقدة ومتقاطعة لدرجة يصعب حسابها وتوقع نتيجتها
يكفي القول ان كل رمية إلى الأعلى تعتمد على مهارة الرامي، وكثافة الهواء الذي ترمى فيه، ونوع المعدن الذي تصنع منه، والسطح الذي ستقع عليه.. وهذا السلوك الذي يستحيل حسابه أو التنبؤ به يدعى: السلوك الفوضوي.. ويمكن مشاهدته في مظاهر طبيعية وحياتية كثيرة حولنا
**********
من المستحيل مثلا التنبؤ بالاتجاه الذي سيتخذه دخان السيجارة أو متى سينفجر إطار السيارة أو على أي جهة سيستقر مربع الزهر - أو حتى في أي اتجاه ستنطلق الحمامة أو تنحرف السمكة
والغريب ؛ أن ما نسميه سلوك الفوضى - أو المصادفة - هو في الحقيقة أبعد مايكون عن الفوضى أو المصادفة.. فرغم وجود علم وصفي يدعى: فيزياء الفوضى.. إلا أنه يهتم بتحليل النتائج بعد وقوعها ولا يرقى لمستوى التنبؤ بالنتيجة أو ماسيحدث فعلا.. بل يمكن القول ان جهلنا بالتصرفات الفوضوية هو ما يجعلنا نلتف حولها وننعتها بالصدفة أو الفوضى أو النتيجة الاعتباطية
فحين تقع قطعة النقد - أو مربع الزهر مثلا - على وجه معين نفسرها كصدفة وضربة حظ، وحين تهبط بورصات العالم بلا مقدمات ندعوها فوضى واضطراباً اقتصادياً، وحين نقابل صديقا قديما في أحد المصاعد نبتسم ونقول: صدفة خير من ألف ميعاد.. ولكن الحقيقة أن كل هذه الأحداث وقعت نتيجة اجتماع عوامل متداخلة يصعب التنبؤ بها أو تعمد تكرارها مستقبلا
**********
ووصفنا لحدوث شيء بأنه: صدفة.. هو تفسير ساذج وجاهز يستعمل حتى في المجالات العلمية الرصينة كالأحياء والفلك والطب.. فحسب نظرية داروين مثلا ظهرت بوادر الحياة الأولى: بالصدفة.. حين اتحدت بعض الخلايا الكربونية في أحد المستنقعات الدافئة.. واستعمال كلمة الصدفة هنا يراد به تجاوز عقبة كبيرة وغير مفهومة بخصوص كيفية ظهور الحياة من العدم
أيضا يتم تفسير ظهور الكون من نقطة صغيرة منفجرة.. اعتمادا على فكرة الصدفة التي تختصر قسما كبيرا من عجزنا عن فهم كيفية بدء الكون
وحين تعجز كافة التحاليل والفحوصات عن كشف علة المريض يضعها الطبيب تحت مسمى: غير معروف أو
Idiopathic
كإقرار مبطن بتداخل عوامل كثيرة يصعب تحديدها أو فك طلاسمها
**********
وتعقيد السلوك الفوضوي يثبت في المقابل بساطة الأمور التي يمكن لعقولنا الصغيرة إدراكها؛ فنحن في الغالب لا نستطيع تحليل الأحداث لأكثر من خطوتين أو ثلاثة.. تصبح الأمور بعدها في علم الغيب والمجهول
فحين تلعب الشطرنج مثلا مع صديقك قد تستطيع تخمين حركته الأولى بنسبة 10% أو 20% أو حتى 50%.. ولكن يستحيل عليك تخمين حركته الثانية كونها تعتمد على حركته الأولى التي لم تحدث أصلا
وعلى نفس السياق؛ قد ينجح محلل ما في التنبؤ بالإتجاه التالي للبورصة.. وأقول: قد ينجح.. ولكنه حتى في حالة نجاحه يستحيل عليه النظر لأبعد من ذلك بسبب تفرع ملايين الاحتمالات من أول احتمال.. لم يصدق بعد
**********
باختصار.. إن وصفنا لما حدث على أنه: صدفة و: ضربة حظ.. لا يدل سوى على فشلنا في التنبؤ بنتائج الأحداث المركبة وعجز عقولنا عن النظر لأبعد من خطوة أو خطوتين.. وأمر كهذا سيمنعنا مستقبلا من التنبؤ بتقلبات الطقس، ونتائج البورصات، وانتشار الأوبئة، وتأثير التلوث مهما بلغ بنا الذكاء والتطور
المفضلات