الكفاح من أجل الحياة
" لي ماينارد"
نزلت من الطائرة وأسرعت الخطى وسط نداوة المطر وقطعت الشوارع الكالحة في طريقي إلى المستشفى، والآن أجلس بجانب فراش أمي في الغرفة البيضاء الواسعة، ويبدو شعرها الرمادي مصففاً. وعيناها مغمضتان، تتحركان من حين لآخر حركة بسيطة كما لو أن هناك أسراراً تدور في ذهنها. أخذت أراقبها وهي تتنفس بهدوء وبوهن. وتساءلت: ترى هل تعلم بوجودي جوارها، ترى هل تعلم أمي أنني ابنها؟

كان هناك الكثير لقوله ولكن لم يكن هناك أحد للتحدث معه. انتظرت طويلاً، وهأنذا أنتظر مرة أخرى.
انتفض كتفها وأمسكت بيديها، ووضعت وجهي على ذراعها وتنفست عبيرها الذي يثبت أنها أمي، حتى بعد مرور كل هذه السنوات، وبين يدي شعرت بحركة أصابعها.

ثم تحسستُ صدارة الستر الفرائية ولمست الزر العتيق البني المسطح والمحيك من الداخل فوق قلبي تماماً؛ هذا الزر محيك بداخل كل سترة فرائية أمتكلها. إنني أرى اليوم الذي اشتريت فيه الزر وكأنه أمس.
كنا نعيش بمنطقة " أبالاشيا" أسرة صغيرة تكافح لتبقى على قيد الحياة. هكذا، يعمل والدي في وظيفتين مما يتطلب منه السفر إلى البلدة المجاورة.

وكنت طفلاً لديه القليل من المعرفة ويتمتع بخيال خصب، وكنت أشعر أنني لا أنتمي إلى هنا. فكنت أهرب عند كل فرصة، ولكن لم يكن هناك مكان أهرب إليه _ فقط التلال الواسعة أو نحو مجرى النهر الموحل، ولكن هذا لم يوقفني، وهربت مرة أخرى.

هذه المرة، جريت نحو الغابات نظراً لما تراءى لي. وكانت غريزتي وفطرتي السليمة والصارمة نحو الصواب والخطأ هي ما دفعني للقيام بذلك، وكنت أرغب أن أثبت لوالدتي أمراً ما، أردتها أن تشعر بالأسف. ولكنني الآن أشعر بالبرد والجوع هكذا، خرجت من الغابة منهاراً؛ ثم جريت متعثراً على ضوء المساء البارد نحو البيوت الخشبية الآيلة للسقوط والموجودة على ضفة النهر _ وعندما عدت للمنزل رحلت.

من المفترض أن تتواجد الأمهات بالمنزل.
تحركت سريعاً خلال الغرف الصغيرة. ولم يكن هناك نار في الموقد، وكان المنزل قارس البرودة. لذا، جريت إلى الخارج، وأخذت أدور حول المنزل، وكنت أضرب بقدمي الطمي المتصلب، واصطدم وجهي بالأشواك الصغيرة المتصلبة للشجيرات في أثناء توجهي إلى ضفة النهر نحو منزل أحد الجيران والذي يبعد حوالي ربع ميل.
" لا، يا بني، و الذتك ليست هنا. مرت علينا في أثناء النهار وتركت أختك هنا. وقالت ... حسناً لم تقل الكثير ولا أستطيع تذكر ما قالت. فقط تركت أختك هنا. وهربت على عجالة من أمرها" .

هربت؟ لماذا؟ كيف يمكنها أن تفعل ذلك معي؟
ربما أرادت أن تهرب منذ زمن طويل. ماذا تفعل في قبيلتنا على أية حال؟ وماذا تفعل خارج هذا المكان حيث لا يوجد بيانو للعزف عليه؛ حيث لا يوجد أحد يغني ولا يوجد أحد ليستمع إلى شدو صوتها؟ ولماذا تركتني بمفردي هنا؟
وبالعودة هائماً إلى النهر، جلست على الضفة وأخذت أرمي كتلاً من الطمي نحو المياه وأشجار الصفصاف، ثم رأيت معطف أمي الممزق يتدلى من إحدى أشجار الصفصاف.
وأسرعت نحو فروع الشجر في طريقي إلى المعطف. هكذا، خطرت لي فكرة خاطفة كالبرق: لقد هربت. ومرت على النهر متوجه إلى ولاية " كنتاكي" .

وأزلت فروع أشجار جانباً منطلقاً نحو النهر صارخاً " أمي!" حتى بُحَّ صوتي. تسلقت الضفة الموحلة شاعراً بالإعياء لأجد المعطف مرة أخرى _ ممزقاً يقف كشاهد على هجرها، وشرعت في تمزيقه إرباً ليسقط على الأغصان ويُسحق على الأرض. وسقط في يدي زر كبير بني ومسطح. وأخيراً، قذفت بالمعطف نحو النهر.
لا أريد أن أدخل المنزل، ثم وجدت بطانية ممزقة خشنة في مخبأ، جلست وتغطيت بها طالباً المأوى من البرد والرطوبة والظلام _ ومحاولاً إذابة الثلج الذي تراكم على قلبي.

ظللت أنتظر هناك حتى الصباح حينما تكاثف ضوء الصباح القارس فوق سلسلة التلال ليغمر الوادي، وفي ذلك الحين عادت والدتي من الطريق الموحل القذر متجهة نحو المنزل. كانت تسير يملؤها الفخر بأنه ليس هناك أحد منا يتمتع بما لديها من شعر أحمر لامع، ويلتف حول كتفيها شال.

وعندما رأتني، لم تتفوه بشيء. وتوقعت أن تكون غاضبة مني لأنني هربت بالأمس.
وبعد أن أشعلنا الموقد وتم تدفئة المنزل، تسللت خفية إلى المطبخ وجلست على صندوق خشبي في زاوية من المطبخ. تحدثت، كما لو كانت تتحدث إلى نفسها، ولكنني كنت أعلم أنها تتحدث إلى؛ فقالت: " كانت هناك سيدة مريضة في منطقة خلف النهر" . وذهبت لمد يد العون لها.

" ولكنني رأيت معطفك عند ضفة النهر" .
" رأيت معطفي. لقد أعطيته بالفعل لفتاة جارتنا. فأنا لدى شال، أما هي فلم يكن معها معطف. أنت تعلم أنها ليس لديها واحد ... أليس كذلك؟. وكنت أتوقع ألا تعيده إلى المنزل" .
كانت أمي تنظر إليَّ وتعلم ما كنت أفكر فيه: أنها هربت.
ثم قالت: " الأقوياء لا يفرون من مواجهة الحياة، وليس بهذا الأسلوب تعيش حياتك: فالأقوياء يستطيعون لا يفرون من مواجهة الحياة، وليس بهذا الأسلوب تعيش حياتك فالأقوياء يستطيعون الفرار إلى ما هو أفضل وليس هرباً، إن كانت هناك ما هو أفضل" .

أعدت لي الإفطار: بسكويت ولحم مقدد وزبد، وعلمت أنها سامحتني. ولم أخبرها عما فعلت في معطفعها مطلقاً.
ومرت السنون والأعوام، وهأنذا أجلس في الغرفة البيضاء الواسعة، ممسكاً بيد أمي ومستشعراً الزر العتيق المسطح بداخل السترة الفرائية. كنت دوماً اتحسس الزر في آلاف المرات التي أردت فيها الهروب خلال حياتي؛ وبمجرد قيامي بذلك كنت أغير رأيي. لقد غيرت وجهتي.


التحلي بالإيجابية
اعتصرت الزر، وأدركت أنه أينما فررت فإنها تفر نحو ما هو أفضل...
إن التحلي بالإيجابية هو ما يشجعنا على عدم الهروب من مخاوفنا، ولكن بدلاً من ذلك يشجعنا على الفرار نحو " ما هو أفضل" ، ويشمل ذلك " الأفضل" أحلامنا ومبادئنا التي ندافع عنها.

تعد الثقة بالنفس أحد أشكال الشجاعة الأكثر كياسة على الرغم مما تمثله من تحدٍ. في حقيقة الأمر، يشن الكثير من الناس حروباً داخلية مع النفس محاولين الشعور بالفخر بما هم عليه (بأنفسهم). وقد خاضت نجمة الموسيقى والغناء " ريبا ماكنتير" مثل هذه المعركة حتى انتهجت أسلوباً خاصاً بها.