خاص المعرفة

في الوقت الذي تتصدر فيه كتب تطوير الذات قوائم الكتب الأكثر مبيعًا في أمريكا والعالم، يظهر كتاب جديد في أمريكا منبع هذه الصرعة ليشن هجومًا كاسحًا على حركة مساعدة النفس ومروجيها متهمهم بخداع الفرد الأمريكي وإحداث تغيرات سلبية في المجتمع الأمريكي على امتداد العقود الأربعة الماضية.

الكتاب الصادر في عام 2005م الذي يحمل عنوانًا طريفًا كاشفًا SHAM: How the Self-Help Movement Made America Helpless.
«كيف صيرت حركة مساعدة الذات أمريكا عاجزة» من تأليف الكاتب الصحفي المعروف ستيف ساليرنو Steve Salerno هو أحد الكتب التي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة في نقد جوانب مهمة في المجتمع الأمريكي ومنها حركة تطوير الذات التي أغرقت المجتمع الأمريكي فيما كانت تلوح له بقشة النجاة. والكاتب يختصر اسم هذه الحركة Self Help and Self Actualization Movement «حركة مساعدة النفس و تحقيق الذات» تحت مسمى SHAM وكلمة sham الإنجليزية تعني، ويا للمفارقة، الشيء الزائف، فهل هذه الحركة هي في الواقع ليست إلا وهمًا زائفًا خدرت المجنمع الأمريكي مدة من الزمن، وماتزال؟ هذا ما يؤكده مؤلف الكتاب.
وعلى خلاف العديد من ناقدي حركة تطوير الذات الذين تناولوا هذه الحركة وأعلامها بطريقة ساخرة ضاحكة وقد رأوا فيها ضياعًا للمال والوقت من دون أي فائدة تجنى، فإن ساليرنو يرى أن الأمر لا يقتصر على المال والوقت المهدور اللذين كما يعتقد أهون الشرور، بل إن الآثار السلبية لهذه الحركة تتعدى ذلك بكثير، وهو ما يظهر جليًا على المجتمع الأمريكي بعد أربعة عقود من ظهور هذه الحركة. فهو يقول عن هذه الحركة في مقدمة كتابه: «لم أكتب من قبل عن ظاهرة استثمر فيها الأمريكيون رأس مال ضخم بكل ما تعنيه الكلمة - ماديًا، وذهنيًا، وروحيًا، وعصبيًا- معتمدين في ذلك على دليل ضئيل جدًا على فعاليتها، بينما لا يحصلون إلا على عوائد قليلة، هذا إذا وجدت أي عوائد».
فهذه الحركة اليوم دخلت في جميع جوانب المجتمع الأمريكي. إذ ألقت اليوم بظلالها على الطب والقضاء والتعليم والعلاقات والتجارة. فالشركات اليوم تدفع مبالغ هائلة لهؤلاء المتحدثين ليبثوا الحماس في نفوس موظفيها، والمدارس تستدعي أعلامها ليحدثوا طلابها عن القوة والإرادة وتحقيق الأحلام، والمجلات النسائية تستكتب رموزها ليرشدوا النساء في أمور الحب و العلاقات، حتى لو لم يكن المرء من مريديها فلابد أن يصيبه رذاذها.

مجرد تساؤلات
والكاتب يلخص وجهة نظره في سؤال ذكي هو: إذا كانت هذه الكتب تساعد الناس كما يزعم مؤلفوها على الارتقاء والاستغلال الأمثل لطاقاتهم الجسمية والعقلية، وإذا كانت هذه الدورات تأخذ بأيديهم إلى السعادة وتوفر لهم الحلول لمشاكلهم، فلماذا مازالوا يصطفون في طوابير لشراء آخر ما يصدر من كتب تطوير الذات؟ ولماذا يواصلون حضور هذه الدورات؟ أليس من المفترض أنهم قد أفادوا من هذا الكتاب وتعلموا من ذاك المتحدث؟ فلماذا هذا السعي المحموم لالتهام ما تقذف به المطابع من جديد الكتب؟ ألم يحفظوا عن ظهر قلب وصفة النجاح وينتقلوا إلى المحطة التالية، حيث النجاح والسعادة؟
ليس هذا هو الواقع، على الأقل هذا ما تؤكده الأرقام، إذ مازال يضخ سنوياً عدد هائل من الكتب في هذا المجال، ففي عام 2003م فقط صدر ما بين 3500 و4000 كتاب من كتب المساعدة الذاتية، أي أكثر من عشرة كتب يوميًا، أليس هذا عددًا هائلًا من الكتب التي تصدر في فرع واحد؟! بل وفقًا لماركتداتا إنتربرايزيز Marketdata تمثل اليوم حركة تطوير الذات بكل أشكالها تجارة تبلغ 8.56 بليون دولار، وقد كانت لا تزيد عن 5.7 بليون دولار عام 2000م، وتتوقع ماركتداتا أن تبلغ 12 بليون دولار عام 2008م. وهكذا لم يعد من المستغرب أن نجد أتباع هذه الحركة ومريديها يخزنون هذه الكتب في مكتبات المنزل وخزائن المطبخ وحقائب الرياضة حتى في السرير لتضمن لقرائها أحلامًا سعيدة قد يلتقون فيها مع الدكتور فيل أو أنتوني روبينز في مملكة السعادة الأرضية حيث لا هم ولانصب!
ويتبع الكاتب سؤاله الأول بآخر، فنجده يتساءل أيضًا: أليس من المفترض بعد أربعة عقود من بيع روشتات السعادة والنجاح أن ينعكس ذلك على المجتمع الأمريكي، لن أقول أن يصبح مجتمعًا مثاليًا، ولكن يصبح على الأقل أكثر سعادة وأقل مشكلات؟ ولكن الدراسات تقول غير ذلك. إذ من المفارقة أن أمريكا الستينيات، قبل ظهور هذه الحركة، أفضل بكثير من أمريكا اليوم من جميع النواحي. ومرة أخرى هذا ما تثبته الإحصائيات، فمثلاً 45% من أطفال أمريكا اليوم يعيشون في «منازل غير تقليدية»، إذ ينجب طفل من كل ثلاثة أطفال من غير زواج، أما في الستينيات فكان الرقم لا يتجاوز طفلًا من كل عشرين طفلًا. أما الطلاق الذي لم يكن يقع في الستينيات إلا في ربع الزواجات فهو اليوم يقع في نصف الزواجات. بل يلفت الكاتب نظرنا إلى مسألة مهمة جدًا وهو أنه حتى ما يطلق عليها «تغيرات إيجابية» في المجتمع قد لا تكون في الواقع إلا إعادة تعريف «الأمور السيئة» لا تعديلها أو تحسينها.

«احرم الشباب من أحلامهم»
والكتاب تتصدره مقولة جميلة لمارلين فوس سافانت المسجلة في كتاب جينيس للأرقام القياسية كحاصلة على أعلى معدل ذكاء IQ، وهي رد على رسالة أرسلها لها شاب صغير تقول فيها:
«مقارنة بالأشياء الممكنة في هذه الحياة، الأشياء غير الممكنة أكثر بكثير. ما لا أحب أن أسمع الراشدين يقولونه لمن هم في سنكم هو أنكم تستطيعون أن تكونوا رؤساء أو أي شيء ترغبون به، هذا لا يمت للحقيقة بسبب ولو من بعيد. الحقيقة أنكم من الممكن أن ترشحوا أنفسكم رؤساء وهذا كل شيء. في مجتمعنا الحر بشكل رائع، من الممكن أن تحاول أن تكون أي شيء، ولكن فرص نجاحك هي شيء مختلف تمامًا».
وحقيقة لا يملك المرء إلا أن يتوقف أمام مقولتها التي تلخص لنا في كلمات قليلة ما يحدث في هذه الدورات، حيث يروج بين الناس أن بإمكانهم أن يحققوا كل ما يتمنونه بمجرد وجود الرغبة أو كما يقولون Believe it Achieve it آمن به وستحققه. وما لا يعرفه الكثيرون أن زرع هذه المعتقدات داخل النفس له آثاره الوخيمة، فالواقعية مطلوبة بدرجة كبيرة. وما يجب أن يعرفه هؤلاء الشباب، وهذا ما يقوله خبراء الصحة العقلية، هو أن عليك أن تبذل كل ما بوسعك لتحقيق ما تريد، ولكن في الوقت ذاته يجب أن تعرف وتتقبل حقيقة أنه كلما علا طموحك زادت نسبة احتمال وقوع الفشل. وهذه الحقيقة ستكون الدرع الذي يحمي الكثيرين من مشاعر الإحباط والمهانة والذل. وعن هذا يقول أحد الخبراء ضاحكًا: «هناك الكثير من الشباب في حاجة إلى من يسرق منهم أحلامهم».

المسؤولون
الكتاب ينقسم إلى جزأين مهمين. فتحت عنوان المسؤولون The Culprits يخوض المؤلف في تاريخ هذه الحركة ومروجيها، وهو يأخذنا في جولة سريعة إلى بدايات هذه الحركة ومصطلح مساعدة الذات، وسيستغرب القارئ عندما يعرف أنه لما ظهر أولاً لم يكن يعني المفهوم الذي اكتسبه اليوم، بل كان في السابق يعني الكتب القضائية التي تملي على العامة من الناس الخطوات التي يتبعونها عندما ترد لهم مشكلة قضائية بدون الحاجة إلى أن يستعينوا بالمحامين. ومع الأيام اكتسب هذا المصطلح مفهومه النفسي الحديث. و يشير المؤلف إلى أن أول كتاب من هذا النوع ظهر عام 1732 من تأليف بنيامين فرانكلين، وبعد ذلك ظهر العديد من الكتابات التي تتطرق لهذا الموضوع، ولكن يظل كتاب دايل كارنيغي «كيف تكسب الأصدقاء» الذي ظهر في نهاية الثلاثينيات هو العلامة الفارقة، ويستطيع المرء أن يقول إن دايل كارنيغي هو الأب الشرعي لهذه الحركة رغم أن البداية الحقيقية لانتشار هذه الحركة كانت في أواخر الستينيات مع ظهور كتاب توماس هاري I Am OK You Are OK والكتب التي نهجت نهجه.

وجهان لعملة واحدة
القليل يعرفون أن لحركة مساعدة النفس فرعين يمثلان، كما يقول الكاتب، وجهان لعملة واحدة، وهما Victimization و Empowerment وهما كما يظهر من الاسمين مختلفان تمامًا، فالأول يعني أن الإنسان غير مسؤول تمامًا عن تصرفاته، بينما يعني المصطلح الثاني أننا نتحمل كامل المسؤولية عن تصرفاتنا. ولكن رغم الاختلاف الظاهري إلا أنهما في النهاية يكمل بعضهما بعضًا، بل ليس من المستغرب أن يراوح زعماء الفرعين بينهما فيستخدمون أحدهما أو الآخر ليحققوا أغراضهم.

لا تثريب عليك، فأنت مجرد ضحية
مصطلح Victimizationمأخوذ من كلمة Victim التي تعني ضحية, وهو يزرع في الناس الاعتقاد بأنهم ليسوا إلا ضحايا لمجتمعهم. ورغم أن مفهوم Victimizationسابق لمفهوم Empowerment التعزيز، إلا أنه ليس بشهرة الآخر وذيوعه. ولكن هذا لا يعني أنه أقل تأثيرًا من مفهوم Empowerment. وقد راق مفهوم Victimization للكثير من الناس, فكلنا نعرف جيدًا ميل الإنسان لرثاء نفسه وتحميل غيره مسؤولية فشله، وهكذا جعل مفهوم Victimization من إلقاء اللوم على الآخرين حقًا مشروعًا، وقد كان ذلك من قبل يعد عيبًا خطيرًا في شخصية المرء. فأصبح كل شخص ينقب في ماضيه عن أحداث، قد أضحت في كثير من الأحيان نسيًا منسيًا، فيخرجها وينفض التراب عنها بعد أن أصبح لها دور مهم، إذ أضحت الشماعة التي نعلق عليها أخطاءنا، ولا يخفى على أحدكم أن هذا الإحساس مريح. فالفشل لم يعد ينسب للشخص أبدًا بل هو بسبب الماضي الذي يأبى أن ينفك عنا. وفلان من الناس لم يخفق في حياته لأنه شخص فاشل أو متخاذل، بل بسبب ما عاناه في طفولته من ظلم وضيم. وهكذا أصبح فجأة لكل شخص أب مدمن وأم متسلطة وعم متحرش جنسيًا ومعلم قاسٍ لعبوا كلهم دورًا في تحطيم حياته. و بذلك أضحى الماضي بشخوصه وأحداثه قوة كبرى مسيطرة، بل مسيرة للإنسان لا يستطيع عنها فكاكًا.
وقد أثر مروجو هذا المفهوم على المجتمع الأمريكي كثيرًا بطريقة مباشرة وأحيانًا غير مباشرة، والكاتب يدلل على ذلك بتلك القضايا الغريبة التي تشهدها المحاكم الأمريكية باستمرار. فبعد تلك القضية الشهيرة التي رفعتها إحدى زبائن ماكدونالدز بعد أن انسكبت عليها القهوة التي ابتاعتها من المطعم الشهير بينما كانت تقود سيارة ابنها الرياضية متهمة المطعم بأن قهوته ساخنة جدًا. تأتي في عام 2000 قضية أغرب رفعتها سيدة أرادت الانتحار فألقت نفسها أمام القطار. ولكن القطار ارتكب في حقها جريمة كبرى عندما لم يقتلها دهسًا تحت عجلاته. فرفعت قضية في المحكمة حصلت منها على مبلغ 9.9 ملايين دولار بعد أن اشتكت من أن القطار بدلاً من أن يقتلها تسبب في بتر ذراعها اليمنى وعدد من الإصابات! لا أجد وصفًا لمثل هذه القضايا أبلغ من ذلك الذي كتبه أحد الكتاب الأمريكيين واصفًا تلك القضايا بأنها دليل على «موت العقل». ويعلق الكاتب قائلاً إنه في الستينيات لم يكن أحد يفكر على الإطلاق برفع مثل هذه القضايا، حتى لو قام بذلك فلن يجد من يستمع له. فمالذي حدث؟ أليس هذا أثرًا من آثار نظرية Victimization التي تجعل الإنسان غير مسؤول عن تصرفاته تمامًا؟
ثم إن هذا المفهوم أدى إلى تمييع معايير الصح والخطأ، فما كان يعد في الماضي ذنبًا كبيراً أصبح يعتبر اليوم نتيجة حتمية للظروف والبيئة التي أفرزت الإنسان. ونتيجة لذلك تحولت تلك الأمور التي كانت تعد في الماضي عيوبًا أخلاقية إلى أمراض. فإدمان الكحول، مثلاً، الذي كان في الماضي صفة تدل على انحلال خلقي، أصبح اليوم مرضًا يستوجب العلاج، بل وتلزم الشركات بمعالجة موظفيها من المدمنين. وقد تغرم مبالغ كبيرة تصل أحيانًا إلى سبعة أرقام إذا فصلت أحد هؤلاء الموظفين رغم كل المشاكل التي يسببونها لشركاتهم. وهكذا أصبح الكذب والسرقة والهوس الجنسي أمراضًا لا يستطيع المرء، كما تزعم هذه الحركة، السيطرة عليها مما يعني أن الإنسان لا يتحمل مسؤولية تصرفاته. وامتد أثر هذه الحركة إلى أروقة المحاكم، وهو ما ظهر جليًا في الأحكام القضائية المخففة التي تصدر بحق أعتى المجرمين بناء على قصة محبكة تحكي طفولة تعيسة عاشها هذا المجرم أو ذاك. وتحول المجرم في كثير من الأحيان إلى ضحية يستحق الشفقة والرحمة لا السجن والعقاب.

منقول