قوة مطلقة
«أن تطلق على الشر اسمًا آخر لا يجعله أقل شرًا».
هذا ما تقوله الدكتورة لورا وهي من أشهر أعداء مفهوم Victimization. وكرد فعل لهذا المفهوم ظهر مفهوم Empowerment ليكون، ظاهريًا، النقيض لحركة Victimization وهكذا بعد أن كان الإنسان عاجزًا تمامًا أمام القوى التي تحيط به أصبح فجأة نصف إله لا يقف في وجهه شيء، وهو، بعكس مفهوم الضحية، مسؤول عن جميع تصرفاته ويستطيع أن يحقق كل ما يتمناه إذا أراد ذلك.
وتحت تأثير هذه الحركة تحول الإنسان إلى شخص أناني، تفكيره منصب على ذاته، لا هم له سوى إرضاء نفسه والوصول بها إلى درجة كبيرة من الإشباع بغض النظر عن الطرق التي سيسلكها من أجل تحقيق أهدافه. فالكل يريد أن يصبح رقم واحد بينما يرفض أن يقدم أي تنازلات.
يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم
«ماذا تقول في دكتورة ليست بدكتورة.... يهودية أرثوذوكسية ليست يهودية أرثوذوكسية...مناضلة ضد الإباحية تنتشر صورها العارية الإغرائية على صفحات الإنترنت.... ناقدة لممارسة الجنس قبل وخارج إطار الزواج ولكنها متورطة في كليهما... بطلة منافحة عن القيم العائلية منفصلة تمامًا عن حياة أمها لدرجة أنها لم تعرف أنها ماتت إلا بعد عدة شهور». هذا مقطع من أحد فصول الكتاب التي يسلط الكاتب الضوء فيه على أعلام هذه الحركة ورموزها البارزين فيعريهم ويكشف لنا الكثير من تناقضاتهم ويشكك في مؤهلاتهم. والمقطع السابق يتحدث عن الدكتورة لورا شلسنجر، صاحبة برنامج الراديو الشهير الذي يحمل اسمها, والذي يوزع على المئات من محطات الإذاعة, وأحد أهم رموز الحركة التي يحاول أن يتصل بها في برنامجها كل أسبوع 250.000 متصل, آملين أن تحل لهم مشاكلهم, بينما يتابع برنامجها حوالي عشرين مليون مستمع. وهذه الدكتورة التي نصبت من نفسها مدافعة عن القيم والأخلاق ليست «الدكتورة» التي يظنها الكثيرون. فهي ليست طبيبة نفسية ولا دكتورة في علم النفس ولا معالجة نفسية بل لقب «الدكتورة» الذي دائمًا يسبق اسمها يعني أنها دكتورة في علم وظائف الأعضاء.
أما جون جراي، الذي نعرفه في عالمنا العربي كمؤلف الكتاب الشهير «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة» فقد حصل على شهادة الدكتوراه بالمراسلة من إحدى الجامعات غير المعترف بها في أمريكا والتي أغلقتها السلطات بعد اتهامها بأنها إحدى الجامعات التي تبيع الشهادات. وهكذا يضع الكاتب تحت المجهر الكثير من الأعلام الذين نقرأ كتبهم باستمرار. وهو يفرد فصلين من فصول الكتاب لكل من الدكتور فيل، صاحب البرنامج الشهير، وأنتوني روبينز باعتبارهما أبرز رموز هذه الحركة في الوقت الحالي.
النتائج:
يتطرق الكاتب في الجزء الثاني من الكتاب الذي يحمل عنوان «النتائج» إلى آثار هذه الحركة على المجتمع الأمريكي من جميع الجوانب، وهي آثار تظهر جلية في كل من الطب حيث ظهر ما يسمى بالطب البديل والعلاقات بين الجنسين والتعليم وفي تغير المعايير الأخلاقية و نظرة الناس لأنفسهم وللآخرين. وسوف أتطرق بشيء من التفصيل هنا إلى الفصل الذي يتناول التعليم وبصورة موجزة إلى ذلك الذي يخص الطب البديل.
انس الأداء- ركز على المشاعر
ليس سرًا اليوم تدني مستوى التعليم في أمريكا، فكل الاختبارات الدولية والمحلية تقول بذلك. ورغم كل ما تقوم به المدارس الأمريكية من أجل توفير جو مثالي للتعليم تزداد معدلات هبوط مستويات الطلاب. وستيف ساليرنو يخصص فصلاً من كتابه للحديث عن هذه الظاهرة التي يعزوها إلى تبني المدارس ما يسمى بتعزيز احترام الذات self esteem بين التلاميذ كأثر مباشر لثقافة تطوير الذات بشقيها التي لونت كل جوانب أمريكا، إذ أصبح الاهتمام بمشاعر التلاميذ أكبر من ذلك الذي يمنح للجوانب الأكاديمية. مما حدا روي بوميستر، وهو برفسور في علم النفس في جامعة كيس ويسترن ريزيرف وناقد لترويج ثقافة احترام الذات إلى أن يقول محذرًا: «في غمرة حرصهم لأن يكونوا حنونين، لأن يغذوا نفوس الأطفال العاطفية، ينسى المعلمون الآن مهمتهم الأساسية، وسوف ندفع الثمن غاليًا لعدة عقود قادمة».
ويذكر المؤلف طريقتين لضمان أداء دراسي مرتفع، الأولى هي أن تتوقع الكثير من الطلاب وأن تتبع سياسات تجبرهم لأن يصلوا إلى هذه التوقعات. ولكن المشكلة هنا أن بعض التلاميذ لن يحققوا المطلوب، وسوف يشعرون بأنهم معزولون أو حتى متخلفون عن الركب، وهذا طبعًا سيجرح مشاعرهم وسيؤثر على حياتهم الاجتماعية وطبعًا، كما يقال لنا، سوف يلقي بظلاله على حياتهم إلى الأبد. وهذا يقود إلى طريقة أخرى لضمان الأداء المرتفع: ببساطة اجعل سقف التوقعات منخفضًا جدًا بحيث لا يفشل أي أحد. واطلب من التلاميذ أن يسعدوا بالنتائج. وهذه هي الطريقة التي شاعت في السنوات الأخيرة في المدارس الأمريكية. فبدل تشجيع الامتياز، قرر المربون أن يلغوا الفشل بأن يحذفوه تمامًا من القاموس، وفي الوقت نفسه يقنعوا تلاميذ أمريكا أوتوماتيكيًا بأنهم مميزون، ورائعون، وأذكياء.
وفي سبيل ذلك أصبحت المدارس الأمريكية تعطي اختبارات لا تصحح، ومنعت جميع الألعاب التنافسية أثناء حصص الرياضة وحتى وقت الفسحة، واستبدلت بمناهج الرياضيات والانجليزية والعلوم الدسمة مناهج مخففة مليئة بالألعاب. حتى إطراء الطلبة المتفوقين على الملأ اختفى من المدارس، إذ من الممكن أن يجعل الطلاب الآخرين يشعرون بالدونية. بل لقد انحدرت التوقعات في بعض المدارس إلى درك سحيق لدرجة أن مجرد الحضور إلى المدرسة يعامل كما لو كان إنجازًا حقيقيًا.
وكمثال لما تقوم به المدارس من أجل تعزيز ما يسمى احترام الذات يذكر المؤلف تلك المدرسة التي علقت على باب الفصل مرآة كتب فوقها «أنت تنظر الآن إلى أحد أكثر الأشخاص تميزا في العالم بأجمعه!».
ونتيجة لهذه السياسات فصلت المدارس شعور الفخر عن الآداء. فالطالب الذي كان في السابق يشعر بالفخر عند إنجازه لشيء ما أصبح اليوم ممتلئًا بالعجب والزهو حتى لو كان أقل الطلاب أداءً.
ويتساءل المؤلف أي فائدة سيجنيها الطلاب من سياسة التدليل؟ فاليوم أمريكا تعاني أكثر من أي وقت مضى مما يسمى بـ«تضخم العلامات»، على غرار تضخم الأموال، فالطلاب يتخرجون بمعدلات عالية لا تعكس على أي حال مستوياتهم الحقيقية. وهذا ما تدلل عليه اختبارات قياس مستوى الأداء السابقة لدخول الكليات. ففي عام 1972 تخرج فقط 28% من الطلاب بمعدلات مرتفعة ومتوسطة. في عام 1993 كانت النسبة هي 83% من الطلاب و لكن في الوقت ذاته انخفضت مستوياتهم في اختبارات SAT بنسبة 35% عنها في السبعينيات. ثم إن هذه السياسات ستجني على المدى البعيد على الطلاب ذاتهم إذ لن يجدوا في بيئة العمل من يبتسم لهم ويربت على ظهورهم عندما يرتكبون أي خطأ. فكيف سيواجهون الحياة الحقيقية وقد نشؤوا من قبل في بيئة خدعتهم عن عيوبهم وزينت لهم نقصهم. وحتى علميًا لا يوجد دليل على أن احترام الذات له أثر حاسم على نجاح الإنسان. فوفقًا لألبرت باندورا، برفسور في علم النفس في ستانفورد، فقد استخلص من دراسة قام بها على مدى أعوام أن احترام الذات ليس له إلا تأثير بسيط وأحيانًا لا تأثير على الإطلاق على الأهداف الشخصية أو الأداء الذي يقوم على المهارة. كما يقول فيتز: «لا يوجد دليل على أن احترام الذات العالي يسبب أو يمنع أي شيء، سواء السيئ أو الجيد. الكثير من الناس يملكون احتراما عاليًا للذات سببوا الكثير من المشاكل للمجتمع».
ويورد المؤلف في كتابه قصة جميلة تثبت أن العودة إلى الأنظمة القديمة التي كانت تعامل الطلاب كطلاب لا قطع زجاج هشة هي الطريقة الأمثل للارتقاء بالتلاميذ. والقصة هي قصة المعلمة ماري دورتي التي وجدت نفسها أمام فصل من طلاب الصف السادس ذوي مستوى متدن جدًا لدرجة أنها شكت في أن البعض منهم مصابون بصعوبات في التعلم. وذات يوم عندما كان مدير المدرسة في الخارج أغارت على مكتبه واطلعت على ملفات التلاميذ التي تحتوي على معدلات ذكائهم وعدد من المعلومات عنهم، وكم فوجئت عندما اكتشفت أن معدلات ذكائهم تتراوح بين 120 و130، وهي معدلات قريبة من العبقرية. عندما عادت السيدة دورتي إلى منزلها بدأت تفكر فيما اكتشفته، وقررت أن الخطأ هو خطؤها لأنها أصابت عقولهم العبقرية بالملل عندما كلفتهم بأعمال ذات مستوى بسيط. وقررت أن تغير من طريقتها، فأصبحت تكلفهم بالأعمال الصعبة، وزادت من الواجبات وأصبحت تعاقبهم على إساءة الأدب. مع نهاية العام حصل تغير 180 درجة، إذ أصبح فصلها واحد من أكثر الفصول تفوقًا وأدبًا. و في نهاية العام سألها المدير المبهور عن السر فاعترفت له بأنها فتشت في الملفات، واكتشفت معدلات ذكائهم العبقرية. فقال لها المدير مبتسمًا: «كل ما ينتهي نهاية جيدة فهو جيد». ولكن بينما كانت تهم بالخروج من مكتب المدير التفت إليها وقال لها: «بالمناسبة، أعتقد أنه من الأفضل أن تعرفي أن الأرقام التي كانت إلى جانب أسمائهم ليست أرقام معدلات ذكائهم بل أرقام صناديقهم!».
وقارئ هذا الفصل لن يملك إلا أن يتعجب من التشابه الشديد بين الوضع في أمريكا والوضع في بعض مدارسنا. ومعلمو المدارس الخاصة يدركون جيدًا ماذا أعني. اسأل أي واحد من هؤلاء المعلمين كم مرة صبت في أذنه مصطلحات من قبيل «احتواء الطالب» و«مراعاة نفسية الطالب» وعبارات أخرى توحي للسامع بأن الطلاب اليوم هم قطع من الزجاج الذي قد يتهشم عند أول نفخة هواء. اسأل أي معلمة في مدرسة خاصة عن عدد المرات التي عقد فيها اجتماع أُنبت فيه المعلمات بسبب شكوى من أم طالبة رأت فيما قامت به المعلمة جرحًا لمشاعر ابنتها. ولا يملك المرء إزاء ذلك إلا أن يترحم على آبائنا الذين كانوا يجلدون ليلاً نهاراً على يد المعلمين ولا من مغيث. أنا لا أقول خذوا الطالب فغلوه وبالسياط اضربوه، ولكن جرعة من الحزم من وقت لآخر ضرورية. وما يحدث في مدارس أمريكا أكبر دليل.
أيها المرضى، عالجوا أنفسكم
وعن الطب البديل يخصص المؤلف فصلاً كاملاً باعتباره أحد آثار حركة مساعدة الذات خاصة في ظل انتشار صرعات مشبوهة تغرس في نفس المرضى أن الشفاء بيدهم وحدهم، وأن كل ما يحتاجونه للتغلب على أمراضهم هو الإرادة والتفكير الإيجابي. وأن علاج كل مرض جسمي يكمن في النفس. أليس هذا هو نفس ما يردده أعلام حركة مساعدة الذات. وهو يذكر قصة دبي بينسون التي توفيت عام 1997م في سن الخامسة والخمسين بعد صراع طويل مع السرطان. ودبي التي رفضت أن تخضع للعلاج الطبي التقليدي وضعت كامل ثقتها بمدعي الطب البديل الذين أكدوا لها أن علاجها بيدها، ورغم أن صحتها كانت تتدهور شيئًا فشيئًا استمر سماسرة الطب البديل يحذرونها من الطب التقليدي. بل حتى عندما وصلت إلى مراحل متأخرة من المرض اتهموها هي، وليس ممارساتهم المشكوكة أو حتى السرطان، بأنها السبب في تدهور حالتها لأنها بدأت تفقد ثقتها و تفكيرها الإيجابي.
هل صحيح أن المجموعة الوحيدة من الناس التي تستطيع أن تثبت لك فائدة كتب تطوير الذات هم كتابها أنفسهم؟ وهل الفرق الوحيد بين قارئ هذه الكتب وكاتبها هو أن الكاتب يستطيع أن يكتب جيدًا بحيث يحصل على عقد كتاب؟ وهل جنت حركة مساعدة الذات على المجتمع أكثر مما خدمته؟ هذا ما يذكره ستيف ساليرنو في كتابه الذي دعمه بالكثير من الدراسات والإحصائيات. و كما يقول في نهاية كتابه: «كلنا نريد أن نؤمن بشدة بالمعجزات، هذا ما يجعلنا ضعيفين، وهذا ما يجعلهم أغنياء».
لابد أن نعترف بأن الموجة قد بدأت تغمرنا. أليس من المفيد أن نتريث قليلاً قبل أن نعتنقها ونفيد من تجارب الأمم الأخرى، أم نحن كالعادة، دائمًا نبدأ من حيث بدأ الآخرون و ليس من حيث انتهوا؟
يتساءل المؤلف أي فائدة سيجنيها الطلاب من سياسة التدليل؟ فاليوم أمريكا تعاني أكثر من أي وقت مضى مما يسمى بـ«تضخم العلامات»، على غرار تضخم الأموال، فالطلاب يتخرجون بمعدلات عالية لا تعكس على أي حال مستوياتهم الحقيقية
ثم إن هذه السياسات ستجني على المدى البعيد على الطلاب ذاتهم إذ لن يجدوا في بيئة العمل من يبتسم لهم ويربت على ظهورهم عندما يرتكبون أي خطأ. فكيف سيواجهون الحياة الحقيقية وقد نشؤوا من قبل في بيئة خدعتهم عن عيوبهم وزينت لهم نقصهم
المصدر مجلة المعرفة العدد 143
المفضلات