طالما ان للتفكر أسباباً ومقدمات وان للإنسان طاقات وادراكات محدودة فإنه ينتج عن ذلك وقوعه في الوهم والظلال مثلما قد يصيب بحدود مايدرك ويعّقل نسبة الصواب إن تمسك المتفكر بمقدمات المسموح وتنبه للممنوع حفاظاً على سلامة وصوابيه نتائجه الفكرية. تماشياً مع نسبية إدراكه وتعقله في طاقاته المحدودة من الخوض في متاهات مافوق الحس والادراك وإن كان بدافع وجداني وارتباط روحي .
لقد لمسنا في بحث هذه المسألة حاجة معرفية تجمع بين الإيضاح والدقة تجنباً للغموض والخلط والإلتباس وكأننا عند ذلك وقعنا فيما نبهنا عنه وبحثّنا من أجله فكان لزاماً علينا الإستعانة بالأحاديث الشريفة بعد كلام الله عز وجل وبعدها بآراء العلماء المتمكنين في هذه المسألة مع نماء وإحياء الفكرة من خلال هذه المصادر الجليلة. فكان المنهج ملزماً لنا بها في كل فقرة لأن موضوع البحث هذا لايتقبل الآراء الكيفية والشروحات الذوقية كاسترسال كلام وسلاسةالفاظ . بل هو مفاهيم فلسفية تنشد الحذر والدقة. فحسبنا الله ومنه التوفيق .


ماهية التفكر
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في أحد أحاديثه الحكميَّة (ولاعلم كالتفكر)(1) . يؤكد لنا قول أمير المؤمنين لاعلم أفضل من التفكر لأنه علم إستخلص من الإدراك والوجدان إستدلالاً لأمر تفكر به صاحبه بصدق وتدبر. لامن مسائل طارئة أو محض تجارب عملية منتهية فائدتها عاجلاً أم آجلاً . لاينبني عليها علماً يبني الإنسان بناءً فكرياً وعقائدياً فيصلح باطنه ويفتح بصيرته للحق والحقيقية دون مشاغل آنبات الدنيا ووهميات المطامع والأهواء .
(كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول ! (( نبه بالتفكر قلبك وجافِ عن الليل جنبك واتق الله ربك)) – ((كان يقول)) يختلف عن ((قال)) أو ((يقول)) من حيث الدلالة ، لأنه يفيد الاستمرار والدوام،وهذا يعني أن الإمام عليه السلام كان يكرر هذا الكلام. ((والتنبيه)) هو الإخراج من الغفلة والإيقاظ من النوم. وكلا المعينين مناسب هنا . فالقلوب قبل التفكر غافلة، وقبل الإيقاظ نائمة والتنبيه يخرجها من الغفلة، ويوقظها من النوم . والنوم واليقظة، والغفلة والقطنة. لكل من مُلك الجسد وملكوت النفس. مختلفان ، فقد تكون العين الظاهرة يقظة وجانب المُلك واعياً ، ولكن عين الباطل والبصيرة تغط في نوم ثقيل . وجانب ملكوت النفس في غفلة ومن دون وعي ) (2) .
قول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المقطع ((نبه بالتفكر قلبك)) وهو بمثابة الدليل العملي المبني على الفائدة العظيمة المستخلصة من التفكر كنتيجة بأعتبار التفكر الإيماني الصائب يعطي نتائج صائبة مادام يسبب الصحوة والإيقاظ في عالم الوهميات والغفلات . والتي كثيراً ماتشغل فكر الإنسان فيخسر عمره ونفسه. وقول أمير المؤمنين عليه السلام هو استنباطاً من كلام الله عز وجل والذي جاء في أكثر من آية قرآنية مطالبة الإنسان بالتفكر مادامت الاء الخلق لاتنتهي مقدماتها من أجل الوصول الى نتائج فكرية وعلمية عظيمة تدل على الوحدانية الإلهية وأحقية الخلق اللاعبث وتدل بما لايمكن حصره من الاستدلال اليقين على عظمة الله وحكمته وتقديره ولطفه ورحمته .
و ((التفكر)) إعمال الفكر، وهو ترتيب الأمور المعلومة للوصول الى النتائج المجهولة فهو أعم من التفكر الذي يعد من مقامات السالكين . لأن الخواجة الأنصاري يعرفه بقوله ((إعلم أن التفكر تلمس البصيرة لاستدراك البُغّية)) ومعلوم أن مطلوبات القلب هي المعارف، ولهذا فإن المراد بالتفكر في هذا الحديث الشريف هو المعنى الخاص الذي يعود الى القلوب وحياتها)(3) .
يبين لنا الإمام الخميني في هذا المقطع التفكر الذي يتخذ مقاماً خاصاً بصاحبه والذي خصه بالوصول الى نتائج مجهولة)) بما يعني غير معروفة للمتفكر فأخذه هذه الخصوصية أي لم يكن هذا التفكر قد توصل له صاحبه عن طريق غيره من الناس. لأن التفكر مفتوح لكل إنسان عاقل دارك يعي مايريد أن يصل اليه في تفكره . وهو ليس صنعه يتعلمها على ماهية عليه من سابقيه . ولهذا أعتبره الإمام الخميني بالأعن من التفكر الذي يعد مقام السالكين . وهذه السعة للتفكر هي لا محدودية آفاق الوجود ودلائله المتنوعة كلها آفاق للتفكر مادام الإنسان الموجود عاقلاً ودارك .
(الآيات الحاثة على التفكر، الآيات الواردة في الحث على التأمل والتفكر، تهدف الى بيان الطرق والوسائل التي توقظ عقل الإنسان وفطرته، ويتنبه بها الى الحقائق والمعارف التي يتساءل عنها، ويتطلب جوابها . وهذه الآيات تدعو الإنسان الى التفكر في ظواهر الخلق والكون المحيطة به، التي قسمها القرآن الى قسمين : آيات آفاقية : وهي تعم كل مايحيط بالإنسان من مظاهر الوجود،إن في الأرض أو في السماء وآيات أنفسية : وهي المتجلية في خلقه الإنسان العجيبة ، على جميع الأصعدة : بدنه ، وجسمه ، وروحه ، ومعنوياته )(4) .
نفهم من هذا أن للتفكر أساسيين تفكر في آفاق الخلق والوجود الكوني بما فيه من دلائل توحي لنا بذلك وتعطينا نتائج يقينّية على أحقية ذلك الخلق بأجمعه. وتفكر في التكوين والنشأة الإنسانية الدقيقة.وهذا لسعة مضامينه ودقتها قامت علوم خاصة به ومازالت مستمرة من حيث بواطن ودوافع وتنظيم سلوك الإنسان وأفعاله . والآيات الكريمة أعطتنا مجالات مفتوحة مفتوحة وواسعة من أجل التفكر في هذين الأساسيين .
قال الله تعالى : (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق) والآيات الآمرة بالتفكر ،والحاثة عليه ، كثيرة ، نذكر منها :أقوله تعالى (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض.)أ. ففي هذه الآية ، يأمر الله نبيَّه بأن يُنذر الناس بقوله:انظروا ماذا في السماوات والأرض من المخلوقات المختلفة المتنوعة البديعة، وما يسودها من نظم وانضباط عجيبين والتي تشكل كلّ واحدة منها، فضلاً عن مجموعها المنسجم المتناسق ، آية تدعو إلى الإيمان يالصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته :
وقوله تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم ،ماخلق الله السَّماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مُسمَّى)ب . وقوله في أنفسهم) إما ظرف ، والمعنى هو : أولم يتفكروا في حال الخلوة ، لأن في تلك الحال يتمكن الإنسان من نفسه. ويحضره ذهنه ويستجمع طاقاته الفكرية .أو متعلق التفكر، فيكون المعنى:أولم يتفكروا في أمر أنفسهم كيف هي مخلوقة وما فيها من الدقة والإحكام في البنيان والانسجام بين أعضاء البدن وخلاياه وأنسجته، التي لما تزل أسرارها تتجلى مع تقدم العلوم وتطورها)(5) .
لما للتفكر من أثر فعّال ومهم في بناء عقيدة وفكر الإنسان وإيقاضه من الغفوات والغفلات الدنيوية خاطبنا الله عز وجل في كتابه المجيد وحثنا على التفكر من أجل هدايتنا ورحمتنا. وبهذا يثبت لنا أن طاقات الإنسان الكامنة أودعها الله تعالى لمنفعة الإنسان نفسه وجعل له الآيات والآفاق والاء الخلق برهاناً وسبيلاً الى ذلك . وعندما يجمع الإنسان تلك الطاقات الذهنية الاستدلالية ويتوجه بها نحو على خلقه ووجوده وماالضرورة الى ذلك فإنه عندها يحصل على نتائج عدة مترابطة بأحقية الخلق وحكمة وعظمة ووحدانية الخالق. وبما إن القلب وعاء ومستودع لطاقات خيرة عديدة تفوق متاهات الولع في اهواء الدنيا وشهوات النفس . والتفكر هو إستنهاض تلك الطاقات والمكامن من أجل تدبر نتائج التفكر في القلب والتمسك بها حباً ويقيناً . ونحن لايمكن أن نتصور أن التفكر يبدأ بالعقل وينتهي به وحده دون أثره في القلب والروح. بما يعني أن التفكر عمل إدراكي محض لاينعكس على الوجدان. فيعطل أصل غاية وتقع التفكر وكأن الإنسان آلياً يخاطب بتوجيه ويستجيب إستجابة آلية محضة يؤدي حركاته وإستجابة في حينها. بل التفكر إستجابة باطنية بين مايشغل الذهن من تصورات ومصاديق وبين القلب وبصيرته ومافيها من قبول وإقرار للحيويات والرسوخ والتمسك باليقين إن حصل الاستدلال إليه ومعرفته. فلا يعني إحتمالاً أن بواطن الإنسان الفعَّالة في هذه الوسائل وتركيز النتائج مستقلة بما جعلها الله تعالى بواطن حيوية مؤثرة في عقائد وسلوك الإنسان والتي ينتج منها التفكر من خلال الإدراك والتدبر والوجدان حتى يتكامل الجهد الواعي لدى الإنسان بما يعبر إدراكياً على المعقولات ووجدانياً عن الاقرار والقبول والتمسك ونحن لدينا إشارات قرآنية توحي لنا بهذا الترابط والتكامل الباطني منها الآية الكريمة (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)(6).
بيان هذه الآية المباركة دليلاً على أهمية التدبر لكون مودعات القلب مهمة وخطيرة فإن طبعت على القلوب بما تلهو في مغريات ومحبوبيات الدنيا وأهوائها هو ذلك العمى الحقيقي عن إدراك آلاء الخلق فهو العمى الذي وصفه الله عز وجل (بعمى القلوب التي في الصدور).
قوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبَت والى الأرض كيف سُطحت) ج. فها إنك تلاحظ في هذه الآيات الحث الأكيد على النظر والتأمل في العلامات والظواهر التي ذكرتها ، لما فيها من الدلالة على ربوبية الله تعالى وتدبيره لهذا الكون، المقتضي للزوم اتخاذه رّباً وعبادته وحده، ومن المعلوم إن مجرد المشاهدة ليس هو المطلوب ،وإنما المطلوب مشاهدة تفكر وتدبر تتعقبها معرفة كونية بمنشيء هذه الظواهر ومدبرها.وهو مايسمى عند الفلاسفة الإسلاميين بـ (الإستدلال الآبوي ) وهو الاستدلال بالآية على ذيها . وبالأثر على مؤثره)(7) .
فالتفكر هو عملية إمعان وتدقيق باطني تتفاعل له كل مسميات الإدراك والوجدان من الحس والمشاهدة والإمعان والاستدلال والتدبر والتصور وإيجاد المصاديق لإحداث علم له نتائج متدبرة من حيث الدلالة والإرتباط من حيث الماهية والكيفية وصولاً الى اليقين والإيمان. ولهذا التفكر بمضامينه يختلف عن التفكير فهذا الأخير هو ماينشغل به الإتيان في مصالحة وهمومه الدنيوية عامة على تنوع حيثياتها ومايرجوه من مطالب نفسية أو مصالح دنيوية محدودة .
فالتفكر أعمم وأوسع بما فيه من فوائد وجدانية وروحية محظة مترفعة عما يخوض فيه الإنسان في التفكير من آتيان ومصالح دنيوية .
يعتقد البعض أن التفكر مجرد من أثر القلب بل هو من أعمال ووضائف العقل فقط. ونحن نعتقد مافائدة التفكر ومايفضي من نتائج دون الإيمان والتمسك بها. وهذا الرأي موافق لرأي المتصوفة الذين إدعوا العشق من خلال توضيب بواطن القلب للمعشوق.وكأن العقل مجرد من مؤثرات القلب والعكس كذلك . ونحن نشعر مامن حب أو عشق إلا على معرفة تمييز فما نفع عشق إعمى بمعنى على غير ومعرفة وتخصيص وتدقيق حتى يكون إرتباط وتعلق القلب به راسخاً لايتغير. إذاً فالتفكر بألآء الخلق وعظمة الخالق مرتبط بالإيمان وإن لم يقضي الى الإيمان فإنه تفكر أعمى كما هو حال العشق الأعمى والذي قد يتغير ويتلاشا .
(فالمطلوب إذن، للحكم بإيمان المرء ونيله الثواب الأخروي، أن يصدق بالمعارف الأصولية،تصديقاً لايعتر به شك، ويطمئن بها إطمئنان لايشوبه ريب، وهذا الاطمئنان يتعذر حصوله - في الغالب- من غير طريق البرهنة والاستدلال . نعم ليس مطلوباً من المرء إتقان القواعد الفلسفية والغوض في البراهين العقلية الدقيقة.إن مثل هذا غير مطلوب من عامة الناس أبداً.بل بل تكفي أبسط الأدلة المقنعة التي يلتفت إليها كل إنسان مهما كان ساذجاً وبسيطاً، وكثيراً ماسلك القرآن هذا الطريق في إثياته تلك المعارف الأصولية)(8) .
الملاحظ من هذا النص هو ترابط وضائف العقل والقلب وإلا ماهو تفسير إنعقاد الإيمان الناتج عن تصديق المعارف الإصولية. نحن نستطيع أن نقول التصديق من المفظي للإيمان من واجب وعمل القلب ولكن تصور وتميز المعارف من واجب العقل وعليه مثلما الإيمان يحتاج إلا تصديق كذلك التفكر حتى يكون إيماناً راسخاً أو مستقراً منعكساً على توجه وسلوك صاحبه.ورب قائل يقول الإنسان المؤمن أصلاً لايعني إنه لايحتاج للتفكر بعد بإعتباره قد عقد عنده الإيمان وقد أنهى مرحلة أو حاجة أيمانه للتفكر.فهل هذا جائز ونحن نعلم أئمتنا الإطهار يحثوننا على التفكر وقالوا فيه أقوال عظيمة من حيث القيمة والأثر ("أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته")(9) .
و ("تفكر ساعة خير من قيام ليلة") (10) . بل الدوام على التفكر يعَّود القلب التخشع والاستمرار بالإيمان والصبر على متطلباته أزاء المحن والمصائب والفتن والغرور والإنشغال للحق دون غيره. طالما القلوب تطمئن بذكر الله تعالى . والتفكر باب واسع من أبواب الذكر والتذكر مادام هو الصحوة من الغفلة والتنبيه للقلب من اللهو كما مر بنا قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في أول البحث .
فالتفكر هو إيجاد المصاديق لمشاهدة الآفاق وكذلك المصاديق للحب والعشق في مفهوم أهل التصوف والعرفان أي الذوبان في معرفة الله عز وجل .