بعد أربع سنوات كاملة قابلت بالصدفة صديقاً قديما -حين رآني-قال مازحاً
(أبشرك:صرت لبلب في الفرنسي) .. لم أفهم قصده في البداية حتى عاد بنا الحديث
إلى أيام المدرسة السابقة حين اقترحت عليه تعلم لغة جديدة تمنحه سبباً
للاستمرار' ودافعاً للافتخار ' !!
ففي ذلك الوقت أصيب بحالة اكتئاب وملل مفاجئ -من مهنة التدريس- فحضر إليّ
طالباً الاستشارة .. حينها اقترحت عليه 'تبني هواية جديدة ' أو 'تعلم مهارة
مختلفة' كأفضل علاج للملل والاكتئاب واستعادة الثقة بالنفس .. وأذكر أنني قلت
له بالحرف الواحد : أنت معلم لغة إنجليزية وتعرف أفضل من غيرك أهمية تعلم لغة
جديدة ,فلماذا لا تتعلم الفرنسية أيضا !؟ ..
غير أن اقتراحي لم يرق له حينها
وقال بابتسامة ساخرة : ( أي لغة جديدة !؟ وأي فرنسية في هذا البلد !؟ أنت عارف كم عمري الآن !؟
وقبل أن أنجح في إقناعه 'ضرب جرس المدرسة' فذهب هو لأداء حصته وذهبت أنا لتقديم
استقالتي من التعليم برمته .. وحين قابلته بالصدفة في أحد البنوك وما أكثر من
نقابلهم في البنوك هذه الأيام- أخبرني أنه أعاد التفكير في كلامي وقرر تجربة
نصيحتي وأصبح يغرد بلغة فرنسية سليمة) ..... أو هكذا حاول إقناعي) ليس هذا
فحسب; بل أخبرني كيف تأثر بالمثل الذي ضربته عن جبل ايفرست ولماذا يحرص البعض
على تسلقه في أسبوع أو أسبوعين ثم لا يبقى فوقه إلا لدقيقة أو دقيقتين !!
فقد حاولت حينها إقناعه بأن المهم ليس التربع على 'قمة الجبل' ذاتها بل 'رحلة
الصعود' باتجاهها.... فمجرد السعي نحو القمة يعطي المرء احتراما لذاته وثقة
بامكاناته ويتيح له فرصة النظر لمسافة أبعد من غيره.... وحين اقترحت عليه تعلم
مهارة مختلفة أو تبني هواية جديدة لم أقصد الفرنسية بحد ذاتها 'وإن رأيتها
مناسبة لتخصصه' بل قصدت إعادة اكتشافه لذاته وإثراء حياته من خلال هدف جديد ..
فمن خلال تجاربي المتواضعة اكتشفت أن رحلتنا نحو القمة - أو حتى التحضير لها
يملأ حياتنا بالسعادة والنشاط أكثر من البقاء فوقها 'حيث سرعان ما نصاب بالملل والإحباط.....'
وهذه المفارقة الغريبة تتضح من خلال التجربة والمرور بمواقف
شخصية نعرفها كلنا ؛ فكثيراً ما يكون الاستعداد للإجازة الصيفية - أو التحضير
للسفرة السنوية - أجمل من الرحلة ذاتها.... وكثيراً ما يكون جمع المال 'لشراء
سيارة الأحلام' أكثر متعة من السيارة نفسها.... أما أهل العريس فسرعان ما يكتشف
أن التحضير لحفل الزفاف 'طوال عام كامل' كان أكثر متعة من ليلة مرهقة تمر سريعا؛
ولو حدث وسألت أي 'رجل عصامي' سيخبرك كيف أن رحلته نحو الثراء والشهرة كانت
أكثر إمتاعا ونشاطاً من الوصول إليها والثبات عندها !!
فمن خلال مواقف كهذه نكتشف بالتدريج 'وربما بعد فوات الأوان' أن مجرد السعي
للتفوق قد يكون أكثر جمالاً وإرضاء للذات من التفوق نفسه.... وحين يصاب المرء
بالملل من حياته - والإحباط في عمله - يكون الوقت قد حان لوضع هدف جديد وتسلق
قمة مختلفة.....
المفارقة هنــا أن قليلاً منا يملك الشجاعة على تغيير وضعه الحالي .... وقياس
على ذلك فهم مغزى وجود 'القمة' ذاتها.
المفضلات