أين أنت يا خالد؟ متى تخرج يا صلاح؟


اللهم هيئ لهذه الأمة قائدًا ربانيًا ينقاد للحق ويقودها.





هذه أسئلة ونداءات ودعوات طالما ترددت في أذهاننا ونطقت بها ألسنتنا وسمعناها بين جدران المساجد من أفواه الخطباء على أعواد المنابر، ولكنها إنما تعبر تعبيرًا مباشرًا عن الأزمة الشديدة التي وصلت إليها أمة الإسلام في هذه الأيام، إنها أزمة التخلف عن الإمساك بزمام القيادة والسيادة التي أرادها الله جل وعلا لهذه الأمة حينما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110].{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].





وما أبعد الفرق بين الليلة والبارحة ما أبعد الفرق بين يوم وقف فيه ربعي بن عامر كفرد من جيل قيادي مسلم، أمام رستم قائد الفرس، ليشرح له مهمة هذه الأمة القيادية قائلاً: ' إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام'.


وبين يوم نعيشه الآن يقف فيه المسلمون على أعتاب الصليبيين واليهود يستجدوا منهم سلام الذل والخزي والعار، وما زالت الأمة في انتظار ذلك القائد المنتظر الذي يقودها إلى ذرى المجد والتمكين.





وقد غفل القوم عن حقيقة تاريخية هامة تقول بأن القائد مهما كانت براعته لا يمكن أن يصنع شيئًا بمفرده ما لم يسانده جيل قيادي كامل يرفعه ويسانده، وها هو موسى عليه السلام نبي من أولى العزم من الرسل قد توفرت فيه صفات الكفاية القيادية بمستوى فذ، ومع ذلك لم يستطع وحده أن يفتح الأرض المقدسة وهو يقود جيل التيه الذي تربى على الذل والاستخذاء والذي تبدى جليًا في قولهم: 'اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون' لذلك فإن الخطوة الأولى في نهضة هذه الأمة هي صناعة ذلك الجيل القيادي الكامل الذي ينبت في تربته بذور قادة عظام أمثال خالد وصلاح، وإسهامًا منا في صناعة هذا الجيل، نقدم هذه السلسلة الجديدة 'صناعة القادة' نقدمها لكل قائد ورئيس لكل مدير ومتخصص، لكل قدوة وداعية ومربٍِ، لكل طبيب ومهندس، لكل درس ومتخصص، لكل أب وأم، لكل طالب وباحث، بل نقدمها لكل مسلم موحد، نهيب به أن يصنع من نفسه قائدًا في تخصصه حتى يسهم بنصيبه في نهضة هذه الأمة، واستعادتها مرة ثانية لزمام القيادة البشرية الذي فقدته بعد أن بعدت عن كتاب الله تبارك وتعالى وسنة سيد القادة محمد صلى الله عليه وسلم.





تكليف لا تشريف


والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه في بداية الحديث عن فن صناعة القادة: ما هو تعريف القيادة ؟ وأبسط تعريف للقيادة هو أن نقول: 'هي عملية تحريك الناس نحو الهدف'.


ومن هنا نعلم أن القائد مسئول عن أتباعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم 'كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير راع على رعيته ومسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها ومسئولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه' والقيادة في الإسلام معناها الحقيقي تحقيق الخلافة في الأرض من أجل الصلاح والإصلاح، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها ولو كانت في الاجتماع القليل العدد أو المتواضع الهدف، يقول صلى الله عليه وسلم: 'إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم' ولهذا أولى علماء الإسلام موضوع القيادة اهتمامًا كبيرًا، يقول شيخ الإسلام بن تيمية:'يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالإجماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس'.


وما أجمل الحكمة المأثورة التي تصف مسؤولية القائد فتقول: 'إذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي'.





هيئ لرجلك قبل الخطو موضعها:


وقد يختلط هنا مفهوم القيادة بمفهوم الإدارة على القارئ الكريم، وللتميز بينهما نقول: إن الإدارة معناها أن تتولى العناية بأمورك اليومية التي تؤدي إلى تحسين الكفاءة أو الأداء، أو بمعنى آخر كيف تحقق ما تصبو إليه من أهداف أما القيادة فهي أن تحدد أولاً ما هي الأهداف التي تسعى لتحقيقها والإدارة هي: كيف تخطو نحو أهدافك ؟ أما القيادة فهي: أن تهيئ لخطواتك أولاً بتحديد الأهداف التي تريد تحقيقها.



وكلا الأمرين مهم، إذ أنهما معًا يشكلان جناحي الإنجاز والنجاح، فالقيادة بدون إدارة تجعلنا نعيش في عالم المستقبل والعلاقات ونهمل الإنجاز الحاضر الذي بدونه لا يمكن أن نستمر، والإدارة وحدها تجعلنا نبتعد عن الأهداف البعيدة والصورة الكلية والربط بالقيم والمبادئ ونسيان العلاقات الإنسانية في خضم الاهتمام بالإنجاز.





القيادة لماذا؟


وتنصب أمامنا أسباب ثمانية تجعلنا نوقن بمدى أهمية وخطورة موضوع القيادة، وضرورة وجود القائد الفعال وهي:


1ـ أن القيادة لا بد منها في الحياة حتى تترتب ويُقام فيها العدل، ويحال دون أن يأكل القوي الضعيف.


2ـ أنها ضرورية لتوجيه الطاقات والتنسيق بينها بما يضمن عمل العاملين في إطار خطة المنظمة وتصوراتها المستقبلية.


3ـ تدعيم السلوك الإيجابي والتقليل من السلبية في العمل، فالقائد هو ربان السفينة.


4ـ السيطرة على مشكلات العمل ورسم الخطوات اللازمة لحلها.


5ـ مواكبة المتغيرات المحيطة، وتوظيفها لخدمة المنظمة.


6ـ وضع استراتيجية راشدة في عملية تحريك محقرة نحو هدف سام.


7ـ تنمية وتدريب ورعاية الأفراد.


8ـ إعادة التوازن للحياة بعد اعوجاجها من جراء صعود النكرات وتوسيد الأمر إلى غير أهله، كما قال الإمام أحمد: 'إذا رأيتم اليوم شيئًا مستويًا فتعجبوا'.





وبالجملة فلا صلاح للبشر إلا بوجود القيادة كما قال الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي:



لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهمولا سـراة إذا جهالهـم سـادوا




والبيـت لا يبتنـى إلا على عمدولا عمـاد إذا لم تـرس أوتـادُ




فـإن تجمـع أوتـاد وأعمـدةوسـاكن أبلغوا الأمر الذي كادوا









القائد يولد أم يُصنع؟


تساؤل مشهور اختلفت إجابات المتخصصين عليه اختلافًا واسعًا، فمال بعضهم إلى أن القيادة موهبة فطرية تمتلكها فئة معينة قليلة من الناس، يقول وارين بينسي: 'لا تستطيع تعلم القيادة، القيادة شخصية وحكمة وهما شيئان لا يمكنك تعليمهما' ومال آخرون إلى أن القيادة فن يمكن اكتسابه بالتعلم والممارسة والمران، يقول وارن بلاك: 'لم يولد أي إنسان كقائد، القيادة لست مبرمجة في الجينات الراثية ولا يوجد إنسان مركب داخليًا كقائد' ومثله بيتر دركر يقول: 'القيادة يجب أن تتعلمها وباستطاعتك ذلك'.


والذي يتبين لنا أن القيادة تارة تكون فطرية وأخرى تكون مكتسبة، فبعض الناس يرزقهم الله تعالى صفات قيادية فطرية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأشج رضي الله عنه 'إنك فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، فقال الأشج: يا رسول الله: أنا تخلقت بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: بل الله جبلك عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله'.





وفي مقابل ذلك يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى إمكانية اكتساب الصفات القيادة بالممارسة والتعلم فيقول: 'ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وإنما العلم بالتعلم'.


وكلما قويت الصفات القيادية في الإنسان كان وصوله إلى القوة القيادية أسرع، وكان تأثير التدريب والتعلم والممارسة عليه أفضل، أما إذا ضمرت الفطرة القيادية في الشخص فإنه يحتاج إلى تدريب أشق ووقت أطول لكي يستطيع أن يكتسب الشخصية القيادية، ومع ذلك فيبقى التعلم والتدرب هو العامل الأهم في نصاعة القائد، كما يقول أديسون: 'العبقرية 99% عرق وجهد'.





وأما التفاوت بين مستويات القادة فيكون بحسب التكامل بين الجانبين الفطري والمكتسب، ويقرر الإمام الغزالي هذه القاعدة فيقول: 'الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة، وتارة بمشاهد أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم، وهم قرناء الخير، وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع، الشر والخير جميعًا فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعًا واعتيادًا وتعلمًا فهو في غاية الفضيلة، ومن كان رذلاً بالطبع واتفق له قرناء سوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل وبين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صورته وحالته' ويقول دين كيث سايمنتن: 'فالسلوك الإنساني ينظر إليه على أنه دالة لكل من الطبع والتطبع، والسؤال ليس ما إذا كان الطبع أو التطبع هو الذي يحدد السلوك، بل هو كيف يتفاعل كل منهما ؟ وما هي أهميتها النسبية في تشكيل الشخصية الإنسانية وهذا التساؤل ذو أهمية خاصة لفهم الإبداع والقيادة، فبعض الناس يعتقدون أن العبقري يولد، والبعض الآخر يعتقد أن يُصنع ولعل الحقيقة توجد في تركيب معين منهما'.


ويقول الأستاذ الراشد في وصف القيادة المسلمة: 'وتجتمع القوة القيادية من موارد ثلاثة: صفات الطبيعية وفطرية عالية يهبها الله لمن يشاء من ذكاء وشجاعة وكرم، ثم الممارسة الخلقية والعبادية ثم التثقف الكثيف في علوم الإسلام والتاريخ والسياسة.





وخلاقة القول في ذلك أن نقول: إن عملية تعليم القيادة عملية طويلة وتستمر بخطوات كثيرة تشمل:


1- الوراثة وخبرات الطفولة المبكرة: توفر الميل للقيادة.


2- الفنون والعلوم: تصنع الأساس العريض للمعرفة.


3- الخبرة توفر الحكمة: والتي تأتي من تحول المعرفة إلى تطبيق واقعي.


4- التدريب يصقل السلوك: في المجالات المتعلقة بالقيادة مثل فن الاتصال وبناء العلاقات وغيرها من السلوكيات القيادية.