(المبادئ والقيم هي الشمس المشرقة على جوانب النفس كلها، فتنفذ).

ألبرت أينشتاين.


تشير تلك المقولة الهامة إلى ركن مهم من أركان النجاح القيادي وهو ضرورة أن ينبع سلوك القائد مع أتباعه من القيم التي يتبناها حقيقة، فهذا هو أكبر ضمان لكي يستطيع أن يكون قائدًا ملتزمًا بوعوده وأفعاله في مؤسسته، كما يقول ستيفن كوفي: (إن القيم في غاية الأهمية، فقيمنا تحدد اختياراتنا وأفعالنا)[الأهم أولا، ستيفن كوفي، ص28]
وإذا كان القائد بهذا الالتزام، فإن ذلك يكسبه في النهاية حب الجميع واحترامهم، وقبل ذلك يكسبه احترام وتقدير الذات، كما يقول جون ماكسويل: (لقد أقصتني قيادتي القائمة على قيمي الشخصية عن الآخرين في بعض الفترات، ولكنها لم تشعرني بالغربة عن نفسي).[لليوم أهميته، جون ماكسويل، ص(260)].
لكن مجرد تبني القائد للقيم السليمة وحده لا يكفي، ما لم يتبع ذلك ببناء التبني المشترك لتلك القيم بينه وبين أتباعه، فإن (النجاح الحقيقي, ليس مجرد إعلان شكلي للقيم, إنما معايشة يومية لها, التواصل معها, وخلق المحيط الآمن لاستمرارها وبقائها. والتوجه عبر القيم, والتي اتفق الجميع حولها, لاينتهي بمجرد توصيفها أو تحديدها, بل يحتاج إلى تغيير العادات, ونماذج السلوك, والممارسة والمواقف. فليست المنظمات أو المؤسسات, هي من يحيل الإدارة بالقيم الى واقع عملي, إنما هم الناس: العاملون, هؤلاء الناس العاديون, الذين يتوجهون عبر القيم المشتركة, ويبتغون أهدفا مشتركة, هؤلاء هم من يمكنهم تحقيق النتائج غير العادية)[الإدارة بالقيم، د.كينيث بلانكارد، مايكل أوكونور]
فاتفاق القائد مع أتباعه على جملة من القيم المشتركة من أهم العوامل التي تساعد القائد في توجيه أتباعه، وتسييرهم نحو الهدف المنشود، فهي تجعل من القائد وأتباعه لحمة واحدة، تمامًا كما كان النبي r وأصحابه، فالكل على قلب رجل واحد، له رسالة واحدة، ويتحرك من أجل رؤية واحدة، ولما نجح النبي r في بناء هذه القيم المشتركة، رأينا صحابته رضوان الله عليهم قد امتزجت رسالة الإسلام بأجسادهم، وسرت كالدماء في عروقهم.
ولنا في موقف ربعي بن عامر t دليل دامغ على الأثر العظيم الذي يتركه بناء القيم المشتركة عند الاتباع، حينما وقف t أمام رستم قائد جيوش فارس يوم القادسية، فسأله رستم: (ما جاء بكم؟)، فرد عليه ربعي t قائلًا: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)[ البداية والنهاية، ابن كثير، (7/47)] .
فقد لخص t رسالة الإسلام في تلك الكلمات الموجزة؛ لأنه تربى في مدرسة القائد الأعظم محمد r، والذي رباهم فيها على تلك القيم المشتركة.
ولعل بناء هذه القيم المشتركة كانت من أهم أسباب نجاح عملاق من عمالقة شركات الكمبيوتر ألا وهي شركة Hewlett-Packard، حيث يقول "مارسيلوبولارا" مدير العمليات الدولية بجناح الكمبيوتر الشخصي بها: (إن القيم الجوهرية التي آمنتُ بها أنا ومجموعتي وشعرنا بأهميتها؛ هي المشاركة، وجماعية العمل، والاتصال، والمرونة، والاتصالات الإنسانية، ولقد تمت مناقشة هذا النسق القيمي من خلال مجموعة كبيرة من البشر لتحديد آرائهم في هذه القيم الخمسة، وفي النهاية ازداد يقيني بأنه من الأكثر أهمية وإيجابية مناقشة القيم الجوهرية التي ينبغي الإيمان بها).
خارطة الطريق:
وإليك أيها القائد بعض الخطوات الهامة التي من خلالها تستطيع أن تبني تلك القيم المشتركة بينك وبين أتباعك:
1. تحديد القيم:
فإن أول واجباتك كقائد من أجل بناء هذه القيم المشتركة، أن تحدد تلك القيم بشكل واضح جلي؛ فكما يقول أشرف صديق من شركة "أوركل" العالمية: (يجب أن تؤمن بالشيء أولًا قبل محاولة جعل الآخرين يؤمنون به).
ونعني بتحديد القيم وضوحها بشكل جلي في ذهنك، ثم تحول هذا الوضوح إلى سلوك مستمر مطرد، فمثلًا إن كانت قيمة الانضباط إحدى القيم التي تصوغ شكل قيادتك؛ فيجب أن تظهر تلك القيمة في كل وقت مهما كانت الظروف التي تعانيها، أو الضغوطات التي تتعرض لها، ( فالقيم والمبادئ ليست كلمات نتجمل بها أمام الناس ونخالفها في خلواتنا، القيم والمبادئ تحيا وتموت بها الأمم، فهي التي تعمر الإنسان وتجعل له قيمة في الحياة، والأمة عندما تتخلى عن مبادئها وقيمها شيئا فشيئا تنهار على المدى البعيد، وعندما نعيش لمبدأ تبدو الحياة طويلة وذات معنى)[صناعة النجاح، طارق السويدان، وفيصل باشراحيل، ص(87)].
(وإليك تجربة "ليلاس براون" في كيفية صياغة وتحديد قيمها القيادية، فقد شغلت منصب مدير برامج العمل والقيادة في جامعة "ساسكتشوان" وكان لها حياة عملية ناجحة كمدير ناجح لتنمية الموارد البشرية في إحدى شركات تجارة الجملة.
وكان البرنامج الأول الذي كانت بصدد تنفيذه هو برنامج التنمية الإدارية الخاص بالرؤساء، وقد تعرضت في بداية العمل لكثير من حملات الإحباط والتقليل من شأنها ومن قدرتها على إنجاح هذه البرامج، حتى وصل الأمر إلى النيل من سمعتها، ولكن ما زادها ذلك إلا تمسكًا بهدفها، وباتت كل يوم تكتب المذكرات التي تظهر قيمتها، فكانت تكتب كل يوم عند وقت النوم وتجيب ثلاثة أسئلة:
ما الذي فعلته وأظهر قيمي بصورة واضحة؟
ما الذي فعلته ولم يكن يمثل قيمة بالنسبة إلي؟
ما الذي يجب أن أفعله أكثر وأكثر لكي أعبر عن قيمي بصورة كاملة؟
ولقد استطاعت "ليلاس" بهذه الطريقة أن تتغلب على محاولات التشكيك وعوائق النجاح ومعرقلات التفوق، ونجحت في نهاية الأمر في المهمة المسندة إليها).
2. عبِّر عن تلك القيم:
فلا يكفي القائد أن يحدد تلك القيم ثم يجعلها حبيسة ضلوعه، أو يكتفي فقط بأن يرى أتباعه أثر تلك القيم دون أن يجليها لهم، ويعبر لهم عنها بكل طرق التعبير، بالقول كما بالفعل، في وقت النصر والنجاح، كما في وقت الهزيمة والفشل.
واسمع إلى أول كلمات تفوه بها خليفة رسول الله r، حين وقف أبو بكر t على المنبر يخطب في جموع المسلمين خطبة البيعة؛ فقال: (أما بعد أيها الناس؛ فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن اسأت فقوموني.
الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله).[ البداية والنهاية، ابن كثير، (5/269).]
إنه إيجاز من أبي بكر لتلك القيم المشتركة التي ستكون نبراس خلافته، ودرب قيادته، فكان لابد من أن تكون واضحة محددة، يفهمها كل الأتباع فهمًا صحيحًا واضحًا لا لبس فيه.
وإليك ما قام به "تود شانون" مدير إدارة بشركة "يونيليفر" العالمية ليوضح قيمه لفريق عمله، حين كتب لفريق المبيعات بالشركة؛ فقال:
(إلى: فريق المبيعات.
الموضوع: رحلتنا من أجل النجاح.
في غيابي أرجو منكم أن تعملوا نحو تحقيق غايتنا، اتفقوا حول نفس الأفكار والآراء والمبادئ، وأعطوا الأولوية لما يجب عمله، وأنجزوا الأهم فالمهم، وتذكروا أننا في سفينة واحدة ننجح معًا ونفشل معًا، وصفقوا لزملائكم عند النجاح وشجعوهم عند الفشل، تفاعلوا دائمًا وتصرفوا بأمانة وتفانٍ واقتناع، وانظروا خلف ما ترونه وحاولوا رؤية ما يتبعه)[ القيادة تحد، كوزوس وبوزنر، ص(97).] .
3. مشاركة الأتباع في إنجاز بعض الأعمال:
ولنا في النبي r القدوة والأسوة الحسنة، فكما أورد ابن القيم في كتابه زاد المعاد فيما رواه عن الزهري وهو يسرد قصة بناء مسجد النبي r بالمدينة المنورة، فيقول: (وجعل رسول الله r يبني معهم وينقل اللبن والحجارة بنفسه ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة)، وكان يقول: (هذا الحمال لا حمال خيبر، هذا أبر ربنا وأطهر)، وجعلوا يرتجزون وهم ينقلون اللبن، ويقول بعضهم في رجزه: لئن قعدنا والرسول يعمل؛ لذاك منا العمل المضلل)[ زاد المعاد، ابن القيم، (3/55).].
فتأمل فعل النبي r، فليست الطريقة الوحيدة لتحفيزه أصحابه هي الحديث معهم على أهمية قيمة المشاركة في بناء المسجد وهو عصب هذه الرسالة المحمدية، ولكن المشاركة كانت كفيلة بأن يتعلم الصحابة y، ونتعلم من بعدهم أهمية ذلك الأمر ومكانة تلك القيمة.
فالقائد لا يُسَيِّر أتباعه نحو الهدف المنشود بخطب عصماء، أو شعارات جوفاء، أو أوامر تستلزم طاعة عمياء، بل القائد في مقدمة الركب، يتحمل في سبيل نجاح الهدف التعب والنصب.
4. استغلال المواقف والأحداث:
فالقائد الماهر هو الذي يستطيع أن يوظف كل المواقف والأحداث التي تمر عليه وعلى أتباعه، فيوظف النجاح في إعلاء قيمة الثقة بالنفس في نفوس أتباعه، ويستغل الإخفاق في الاستفادة من الأخطاء، ويرى في المشاكل التي تحيق به وبأتباعه فرصة لتربيتهم على معاني الصبر والتحمل، ويستنبط من ثنايا التحديات فرصة لإذكاء جذوة المثابرة والإصرار.
وانظر إلى موقف النبي r في غزوة بني المصطلق بينما المسلمون على ماء المريسيع وقد انقطعت الحرب، تنازع رجل من الأنصار مع رجل من المهاجرين على الماء، فنادى الأنصاري: (يا للأنصار)، ونادى المهاجري: (يا للمهاجرين).
فأقبل جمع من الحيين، وشهروا السلاح حتى كادت أن تكون فتنة عظيمة، فخرج رسول الله r فقال: (ما هذا، دعوى أهل الجاهلية؟!)، وفي رواية قال: (دعوها فإنها منتنة) ، فأُخبِر بالحال فقال: (لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينهه؛ فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره).[رواه مسلم، 6747]
فتأمل كيف استطاع القائد الأعظم محمد r أن يحول هذا الموقف العصيب الذي كادت تسيل فيه الدماء، حوله r إلى فرصة يتعلم فيها الصحابة ومن بعدهم قيمة، مفادها أن ذلك التحزب والتفرق ليس من قيم هذا الرسالة السمحة.
وماذا بعد الكلام؟
1. اقرأ في سير القادة العظام الذي أثروا في تلك البشرية، وأضافوا إلى تقدمها ورقيها، وتخير منها تلك القيم التي ستكون لك بمثابة النبراس تهتدي به في طريق قيادتك.
2. اجعل لك مفكرة تطلق عليها مفكرة القيم، وسجل فيها تلك القيم.
3. أكثر من لقاءاتك مع أتباعك، وركز دائمًا على المبادئ والأسس التي ينبني عليها أسلوبك وطريقتك في قيادتهم نحو هدفك، واحرص على أن تكون تلك اللقاءات في صورة حوارات يشاركونك فيها بإبداء آرائهم.
4. اكتب مبادئك القيادية، وقم بصياغتها في عبارات موجزة وشعارات، وقم بتعليقها في مكان يراه أتباعك، أو أكثر من تكرار تلك العبارات حتى تترسخ تلك القيم في أذهانهم.
5. قم بجمع القصص والمواقف التي تؤكد على تلك القيم، واصنع منها مرجعًا يعينك على توصيل المعنى من تلك القيم في صورة قصص؛ فإن القصة تكون أكثر تأثيرًا، وأقرب إلى قلوب أتباعك.
6. استخدم الأسئلة: بأن تسأل أتباعك عن مدى فهمهم لتلك القيم، ومدى تمسكهم بها.