حين تقصدُ الجنوب ، وتتجهُ الى الشمال حوار في بناء الذات

تقصدُ الجنوب وتتجهُ الشمال حوار

ذكاؤه متوقّد، وحسّه مرهف، وذهنه يشبه فهرساً منظّماً قسّم الأشياء حسب عواملها المشتركة، أمّا ذاكرته فكانت قادرة على حفظ ما تحويه بطون الكتب دون مشقّة أو عَنَت، وقد آتاه الله ملكة الحس اللُّغوي، فاحتفظ في عقله بمفردة تقابل كلّ معنى، وكانت لديه قدرة عجيبة على تطويع العبارات لتلائم المقاصد ، أقرانه كانوا يحسدونه، وأساتذته كانوا يعجبون به، أمّا أهله فقد بنت أحلامهم له مستقبلاً متميّزاً وعظيماً.
كبُرَ وكبُرت أحلامه ورنا إلى أشياء بعيدة، حسِب أن مَلَكاته ستوصله إليها لا محالة، فطفِق يثابر ويتعب لأجل بلوغها.

مضت سنوات ولم يبلغ مراده، ولا بلغ المطامح الّتي رمى إليها، فمسّه من الإحباط أشدّهُ، وألمّت به كلّ أوجاع داء الكآبة.

بدأ يمشي وحيداً في أرضٍ فضاء، وقد ضاقت في عينيه الدّنيا أكثر ممّا ضاق صدره، وفجأة صرخ بأعلى صوته: « لم أكن أفتقر إلى القدرات، ولا أنا بخلت بوقتي وجهدي فلماذا لم أبلغ ما كنت أرنو إليه ؟ «
ردّ عليه صوت خفيض جاء من بعيد كأنّه الصّدى: "لأنّك كنت تسير باتّجاه الشّمال بينما كان مرادك يقع في الجنوب".

فقال مستغربا: وماذا أفعل كي أميّز الشّمال من الجنوب ؟
ردّ عليه الصّوت نفسه: عليك بالبوصلة فإنّها تحدّد الإتّجاهات .
فأجاب قائلاً: عندي ساعة تشبه عقاربها عقارب البوصلة، ألا تنفع ؟
جاء الصّوت الخفيض مرّة أخرى ليقول: لا تُغني السّاعة عن البوصلة لأنّ عقاربها مؤشِّرٌ موضوعه الزمان ، أمّا البوصلة فمؤشِّرها موضوعه المكان ، عليك بالبوصلة . « .
وقرّر صاحبنا أن يبحث عن بوصلة، ويقتنيها ولو كلّفَته كلّ ما يملك. وهكذا فعل، اشترى بوصلة ووضعها في جيْبه، وراح يركض من جديد، لعلّه يصل غايته ، ويبلغ مرماه الّذي قصّر عن بلوغه من قبل.
مضت سنوات أخرى لم يوفّر فيها صاحبنا جهداً ولا وقتاً، لكنّه أفاق لحظة، فوجد نفسه ما زال يبتعد عن الهدف الّذي سعى إليه، وعاودته الكآبة وعاوده الإحباط ، وراح يمشي مرّة أخرى في الأرض الفضاء ويصرخ : « اقتنيتُ بوصلة، وبذلت الجهد والوقت لكنّني لم أصل، أنا لا تنقصني كفاءة، ولا تنقصني عزيمة، فلماذا لا أصل الغاية ؟

مرّة أخرى أجابه الصّوت الخفيض الآتي من بعيد: « لأنّك كنت تسير باتّجاه الشمال أماّ غايتك فكان موقعها في الجنوب «.
-» لكنّني اقتنيت بوصلة حسب نصيحتك «.
-» لا يكفي أن تقتنيها أيّها المسكين، يجب أن تستعملها، ألم تلاحظ أنّك وضعتها في جيبك ولم تستعملها ؟ ؟ «.
-» سوف أستعملها، وأُعاودُ السّيرَ من جديد «.
ومضى صاحبنا مرّة ً أخرى ، يبذل الوقت والجهد ، وينظر في البوصلة في كلّ لحظة، وانقضت سنوات أيضاً، وعاد يراجع نفسه، إنّه يبتعدُ أكثر فأكثر عن مبتغاه، وتزداد كآبته وإحباطاته، لا بدّ وأن يعود لحالة السّير في الأرض الفضاء والصّراخ من جديد :
-» كنت أستخدم البوصلة في كلّ لحظة، أيّها الصّوت البعيد الخفيض، أخذت بما نصحتني به، لكنّني لم أبلغ المراد . . . «
-» أكرّر لك القول إنّك كنت تسير باتجاه الشّمال وكان مرادك في الجنوب «
-» والبوصلة ؟ «
-» لم تكن معتاداً على استخدامها، ولم تكتسب خبرةً في ذلك، ولهذا فقد كانت تشير لك إلى الشّمال ، وكنتَ تحسبها تشير إلى الجنوب « .
قال صاحبنا: سأواصل السّير مرّةً أخرى ، وسوف أتعلّم استخدام البوصلة، وسأتعلّم الإتّجاهات.
حاوّل أن يعاودّ المسير، لكنّه أحسّ بقدميه ثقيلتيّن، وأحس بأن شيئاً ما يشدّه إلى الأرض، جلس وشدّ بيده على البوصلة ، فجاءه ملك الموت وقال له :
-انتهى اليوم عمرك .

دفنه أبناء القرية في مكانه وعلّقوا البوصلة على شاهد قبره.
وبعد أن تفرّقوا ، جاء صاحب الصّوت البعيد الخفيض وكتب على شاهد القبر :
-» لأنّه لم يتقن استخدام البوصلة كانت كلّ اتّجاهاته خاطئة ولم تنفعه في ذلك قدراته وملكاته، ولم ينفعه الوقت والجهد اللّذان أضاعهما