مشرف
- معدل تقييم المستوى
- 34
التمويه البصري والسمعي في الاعلانات التجارية"هام"
الخداع البصري والسمعي..
في الإعلانات التجارية!
ورد في الأثر أن امرأة العزيز كانت من فرط شغفها، ترى يوسف (عليه السلام) في كل شيء حتى في السحاب المسخر بين السماء والأرض. أما ملكة سبأ فظنت أن بصرها خدعها عندما رأت عرشها في مملكة سليمان! وهكذا تتفاوت نماذج خداع البصر حتى في السراب الذي نظنه ماءً وليس بماء!
وكما تعلم الإنسان صناعة الطائرة من حركة الطيور، تعلم صناعة خداع البصر بل وحتى خداع السمع ليخدم مصالحه المشروعة والممنوعة، الجدير بالاهتمام أن جانباً مـــن تقنية الخداع يتم تناولها بجدية كبيرة حــــــيث يــــــتم تطــــــــويرها فـــــــي معامـــــــل "لـــــــوس ألامــوس" (Los Alamos)التــــابعة للحكومة الأمريكية، وفي حين أن هذه التقنية لها تطبيقات واسعة في العمليات العسكرية (Psyops) ، إلا أن هذا المقال سيتناول الجانب الاقتصادي لملامسته اللصيقة بالحياة اليومية للقارئ الكريم.
تكاد الأموال التي تنفقها الشركات العالمية على الدعايـة والإعلان تتجاوز ما تنفقه الدول الصغيرة على مواطنيها، ومع هذا نقول إن هذا من حق الشركات طالما أن وسائل الإعلان مشروعة وتحترم آدمية المستهلك! المثير للجدل هو انتشار بعض الوسائل الإعلانية التي أخذت منعطفاً أثار قلق المشرعين بالدول المتقدمة بل وتجاوز ذلك إلى هيئات الأمم المتحدة. الأمر المزعج هو تقنيات الخداع السمعي والبصري التي طُورت للتأثير على سلوك المستهلك دون إدراكه الواعي لذلك! وليأذن لي القارئ الكريم أن استشهد بمصادر دامغة إبتـداءً من جامعة هارفرد ومروراً بمجلة تايم ووصولاً إلى الكونغرس الأمريكي!
في كتاب "اللاوعي لدى المستهلك" الذي صدر حديثاً عن كلية الأعمال بجامعة هارفرد الأمريكية، يقول البروفيسـور "جيرالد زالتمان" إن 95% من قـرارات الشراء تتخذ دون وعي المستهلك. ذلك لاستخدام وسائل خداع تصـل إلى سـويداء مركز اتخاذ القرار وهو ما يسمى بالعقل الباطن. كدليل على هذا، يستشهد البروفيسور بسلسلة من الأبحاث منها تناقض أقوال المستهلكين بأفعالهم، فبينما يدعي هؤلاء تحكيم العقل والمقارنة حين الشراء، إلا أنهم عند التسوق يندفعون لأخذ المنتج الذي يريدونه كأنهم ينصاعون لتأثير مسبق ترسخ في أعماقهم.
تحليل الدوافع
في زمن الصناعات اليدوية كانت الشركات تركز تنافسها على ميزة الجودة، ولكن التقنية الحـــــديثة استطـــــاعت أن تضبط الجـــودة بتطبيق منهج الإنتــــاج الكلي (mass production) ومعايير الجودة النوعية، وفي حين ما زال البعض يستخدمون ميزة الجودة، إلا أن معظم المعلنين أصبحوا يستخدمون وسائل نفسـية لدفع المستهلكين للشراء، ومن أجل هذا ذهب كثير منهم لعمل أبحاث مستفيضة لمعرفة نقاط ضعف المستهلك الكامنة بداخله والتي تعد أهدافاً سهلة (soft target) لاختـراقها لتعـظيم أربـاح الشركات المعلنة.
يستخدم المعلنون وسيلة "تحليل الدوافع (motivational analysis) "للنفاذ إلى الرغبات البشرية الدفينة. ولقد اكتسبت تلك المناهج دفعة قوية في الخمسينيات الميلادية حيث طورها الباحثان الأمريكيان "لويس تش كن" و"ايرنست دكتر"، تستند هذه المناهج إلى مبدأ تجاوز الوعي والإدراك والوصول مباشرة إلى مستوى العقل الباطن. (subconscious)
وفي عام 1973 قام الباحث "ولسون براين كي" بنشر كتاب "إغراءات ما دون الوعي" الذي أفاض في تطبيق هذه المفاهيم وبحثـها بأسلوب مفصل. فيستنتج "كي": أن شركات الإعـلان ووكالات العلاقات العامة تتحايل على عقول الآخرين وتستغل الجماهير دون وعيهم أو معرفتهم.
خداع البصر
عندما يتأمل الإنسان إعلاناً ما يفصل بين أمرين، يفصل بين المادة الإعلانية التي تتصدر الصورة- مثل صورة الإنسان أو السيارة أو المرطبات الخ- وبين الخلفية للمادة الإعلانية سواء كانت منظراً طبيعياً أو غير ذلك، فالمادة الإعلانية هي التي تستحوذ على جل اهتمام الناظر أما الخلفية للمادة فلا تنال التركيز والاهتمام باعتبار أنها وضعت لتبرز المادة الإعلانية، والذي فعلته تقنية الخداع هو إخفاء صور ورموز في الخلفية الفنية للإعلان لتبعث رسائل تتجاوز الإدراك لتصل إلى ما دون الوعي وبالتالي تؤثر على سلوك المستهلك دون إدراكه.
ولعل من أبرز مـن سبق في هـذا الشأن عالم الإدراك السيكولوجي (perceptual psychologist) الدكتور "اي. روبين" الذي طور وسائل وطرق لإخفاء بعض الصور- مثل صور الإنسان أو الحيوانات أو فازات الزهور- بحيث يمكن رؤية أكثر من صورة واحدة، ولقد استغل المعلنون هذه التقنية لإخفاء رسائل إعلانية في الخلفيات الفنية للإعلانات، وبذلك أمكن اختراق مدارك الجمهور دون ملاحظتهم.
الجرافيكس
ولقد نجح التقنيون في تطوير أبحاث الدكتور "روبن" باستخدام تقنية الـ"جرافيكس" (graphics) وهي مزيج من فن التصوير والرسم، فلقد يسرت هذه التقنية دمج رسائل إعلانية مخفية باسـتخدام ما يسـمى "فرش الهـواء" (air brushes) على لوحات إعلانية كبيرة، ومن ثم تصويرها وعمل نسخ منها للنشر، وبهذا أمكن إخفاء رسائل اللاوعي باستخدام الخداع البصري في عـالم الصـحف والمجلات والمطبوعات.
أمــــــا مؤخـــــراً فلقـد أصبحت الشركات المتخصصة تسـتخدم أجهـزة الحاسب الآلي والتقنـية الرقمية (digital technology) للحصول على أعلى مستويات من الإتقان في إدماج أو إخفاء الرسائل الإعلانية.
خيارات الوسائل
بما أن التطور التقني يفضي إلى تطورات أخرى، فلقد تطورت وسائل الخداع السمعي والبصري حتى بلغت ست وسائل، كما أن بعض شركات الإعلانات المتميزة تمكنت من الجمع بين أكثر من وسيلة في نفس الإعلان للحصول على نتائج استثنائية، وبرغم تعـقيد هذه التقنيـات يمكن تلخيصها كما يلي:
• عكس الصورة.(figure-ground reversals)
• إخفاء أو إدماج الصور .(embedding)
• إزدواج الصـور .(double entendre)
• الضوء الخافت والصوت المنخفض .(low intensity light and low volume sound)
• الإضاءة وخلفية الصوت .(lighting and background sound)
• عروض الـ"تاكستوسكوبيك ." (tachistoscopic displays)
تطبيقات من الواقع
في المجال السمعي هناك العديد من الحالات الموثقة من أشهرها ما نشرته مجلة تايم الأمريكية عن جهاز تم تصميمه لخلط الأصوات يتم تركيبه في مراكز التسويق لبث رسائل للمتسوقين، يقوم الجهاز بخلط الموسيقى الحالمة برسائل تبث بصوت خافت جداً لا تلفت الانتباه ولكن تؤثر على سلوك المستمع، ونظراً لانتشار السرقات، كانت الرسالة المدمجة تحث على الأمانة وعدم السرقة، ولقد نتج عنها انخفاض السرقات بأحد المخازن الكبيرة بنسبة 37% محققة وفراً للشركة يقدر بستمائة ألف دولار، وبرغم إيجابية التجربة إلا أن إمكانات (التأثير اللاإرادي) على الجمـهور أثار قلق الكثيـرين من المفكرين والمشرعين.
كما تم استخدام تقنية الإخفاء البصري في مجموعة من الحالات، فهناك حالة "الجهاز الأسود" الذي تم تركيبه على آلة العرض السينمائي في إحدى دور السينما الأمريكية لإرسال إشارات إعلانية ضمن عرض الفيلم الرئيسي ولكن دون معرفة الجمهور، نتج عن ذلك إنصراف الجمهور عن مشاهدة الفيلم إلى صالة الاستراحة لشراء المرطبات والفشار، استمرت التجربة في سلسلة من العروض السينمائية شملت عدد 45.699 مشاهد ولفترة ستة أسـابيع متتالية، أدت تلك الإعلانات إلى ارتفاع مبيـعات المرطبات بنحو 18% وارتفـاع مبيعات الفشـار بمقـدار 57% .
كما تنتشر وسائل الدمج بين شركات التبغ والكحول للحيلولة دون إقلاع المدمنين من الفئتين، ففي تجربة قام بها عالم نفس على مدمني الكحول الذين يسعون جاهدين للإقلاع، تبين له أن معظمهم يعانون من أعراض انسحاب متشابهة، كان من أبرز تلك الأعراض تعرضهم "لكوابيس" مفزعة جداً عند نومهم تتلخص معظمها في رؤية جماجم بشرية ووجوه تصرخ وأشكال حيوانات مخيفة، كانت هذه الكوابيس تتكرر دائماً عندما يحاول المدمنون الإقلاع عن الكحول، ولقد استغلت شركات الكحوليات هذه المخاوف وهذا الرعب، بإدماج صور الجماجم والمخلوقات المفزعة ضمن وسائل إعلاناتها لعرقلة جهود الإقلاع لدى المدمنين، ولقد اكتشف الباحث "الكتور لكنار" عشرات الصور ضمن إعلانات شركات الكحوليات.
السياسة والفن
أوردت بعض الصحف أنه تم مقاضاة إحدى شركات الإنتاج السينمائي لإدماجها صور "أقنعة موت" بأحد أفلامها المرعبة، مما أدى إلى إغماء أحد المشاهدين وسقـــوطه وإصـــــابته بكســـور ورضوض، كما أوردت مجلة "تـــايـــم" في عدد 30/6/1990 قضية شابين مراهقين أقدما على الانتحار بعد سماعهما شريطاً غنائياً يحتوي على رسائل إيحائية تحث على الانتحار، ولقد تم توثيق هذه الحالة في مجلة "أميريكان سايكولوجست"، كما رفع ذوو الشابين قضـية عـلى المغنـي وشـركة سي.بي. اس. (CBS) التي انتجـت ذلك الشـريط الغنائي.
وعلى الصعيد السياسي ظهرت تقارير في عدد من وسائل الإعلام الشهيرة مثل سي.ان.ان. (CNN) عن استخدام تقنية الخداع البصري من قبل المرشح الجمهوري "جورج دبليو بوش" (الإبن) خلال الانتخابات الأمريكية لعام .2000 فلقد أعدت حملت "بوش" فيلماً انتخابياً لانتقاد المرشح الديمقراطي "آل جور" وذلك بإدماج كلمات نابية عنه، وبالرغم من أن جماعة "بوش" ادعت أن ذلك كان مجرد مصادفة، قامت السلطات الفدرالية الأمريكية بتوجيه تعليمات لمحطات التلفزيون الأمريكي لمنع ذلك الفيلم.
ردود الفعل
نظراً لقوة نفوذ الشركات متعددة الجنسيات التي كثيراً ما توظف هذه التقنيات، إضافة إلى طبيعة هذه التقنيات المستترة، فإن مساءلة الشركات المعنية يعتبر أمراً غير يسير، ومع هذا فلقد تنبهت وكالة الاتصالات الفدرالية الأمريكية (FCC) منذ ربع قرن إلى خطورة هذه الوسائل وأصدرت قراراً في 24/1/1974 يدينها ويعتبرها من الخداع المتعمد، وفي نفس العام أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة قراراً أشد لهجة يدين هذه الوسائل الإعلانية، وفي 6/8/1984 تبنت لجنة العلوم والتقنية التابعة للكونغرس الأمريكي طرح هذه القضية لأهميتها للرأي العام الأمريكي.
ماذا نفعل!
لا شك أن هذه القضية تثير الجدل وتنكرها الكثير من شركات الإعلان والعلاقات العامة العالمية، ولذلك كان من الضروري أن أستشهد بأبحاث وتقارير مؤسسات غربية رصينة فضلاً عن الوكالة الحكومية المسؤولة عن النشاط الإعلامي الأمريكي إضافة إلى الكونغرس والأمم المتحدة، وعليه فلقد أصبح مهماً أن يدرك القارئ الكريم حقيقة هذه الوسائل وتأثيرها على سلوكه الاستهلاكي.
قد تكون فكرة جيدة أن يستخدم القارئ الكريم مجموعة من "المصافي" أو "الفلاتر" الذهنية عند استقباله لأية مادة إعلانية، ولقد ذهبت بعض شرائح المجتمع الغربي إلى تفعيل تقنيات تحجب الإعلانات التلفزيونية بالكامل لإدراكها اليقيني باستخدام بعض شركات الإعلانات العالمية وسائل الخداع البصري والسمعي المنوه عنها.
ولنسأل أنفسنا: أليست معظم مشترياتنا لنزوات النفس وليست للحاجة الفعلية؟ هل نستطيع الاستغناء عن كثير من مشترياتنا؟ أليس من الأفضل شراء ما نحتاجه وليس ما نشتهيه؟ أليس ادخار اليوم أفضل من اقتراض الغد؟ إذا كانت إجاباتك بنعم، فلقد عرفت الصواب فالزمه..
الأستاذ سمير عابد
التعديل الأخير تم بواسطة نادية أمال شرقي ; 06-May-2009 الساعة 05:04 PM
المفضلات