لكي يتحقق " هارلو " من مدى صحة هذه الفرضية، فقد صنع هو وفريقه " أمهات بديلة " من الخشب المغطى بقماش ناعم، وبها مصباح كهربي لتوفير الدفء، وصنع " أمهات " أخرى من شبك حديدي فقط. وكانت الأم القماشية هي التي تقدم اللبن لأربعة قرود حديثة الولادة، بين مالم تكن الأم الحديدية تقدم اللبن في حين كان العكس صحيحًا مع قرود أخرى حديثة الولادة. أظهر البحث أن القرود قد فضلت التواصل البدني مع الأم القماشية الناعمة رغم أنها لم تكن تدر لبنًا.
وقد نقضت هذه النتيجة الحكمة التقليدية من أن الرضع متهيئون لحب أمهاتهم لمجرد أنهن يمنحنهم اللبن؛ وبذلك يشبعن حاجتهم للبقاء على قيد الحياة، حيث بات من الواضح أن القدرة على الإرضاع لم تكن العالم الأساسي لدى القرود، بل كان المهم التواصل البدني، أو " حب الأم " . وقد تمادى " هارلو " ، فاقترح أنه ربما كانت الوظيفة الأساسية لعملية الإرضاع هي ضمان التواصل البدني بين الأم والرضيع؛ وذلك لأن العلاقة المحبة كان من الواضح أنها حيوية لبقاء الرضيع على قيد الحياة، حيث قال إنه بعد الفطام تظل الرابطة موجودة.

الحب أعمى
لأن الرضع يهربون لأمهاتهم ويتشبثون بهن كلما لاح لهم خطر أو خوف؛ فقد أراد " هارلو " أن يرى إن كان هذا سيحدث للقرود الرضع مع أمهاتها القماشية أو المعدنية، فوجد أن القرود تهرب إلى الأم القماشية بغض النظر عن مدى " إرضاعها " لها. وحدث نفس الشيء عندما تم وضع القرود في غرفة غير مألوفة لها وبها مثير بصري جديد، فوجد أنها تهرب إلى الأمهات القماشية.
واكتشف " هارلو " أيضًا أن القرود التي فُصلت عن أمهاتها البديلات لفترات طويلة (خمسة أشهر) ظلت تصدر نفس الاستجابة تجاهها إذا أتيحت لها الفرصة لذلك. إن الروابط- إذا تكونت- تصبح عالية المقاومة لعوامل النسيان. بل واكتشف أن القرود التي تربت في ظل غياب أية أم- فعلية أو بديلة- شعرت بالارتباك والخوف ليوم أو يومين عند وضعها مع أمهات قماشية، ثم ذهبت إليها لتدفئها وللبحث عن إقامة علاقة معها، وبعد فترة بدأت هذه القرود تصدر تفس السلوكيات التي تصدرها القرود التي ظلت بصحبة أمهات بديلة طوال الوقت.وفي تنويع على هذه الدراسة تمت تهيئة بعض هذه الأمهات البديلات حتى تتحرك وتكون أكثر دفئًا، فكانت النتيجة أن أصبحت القرود الصغيرة أكثر ارتباطًا بها، بحيث أصبحت تتشبث بها لمدد وصلت إلى ثماني عشرة ساعة يوميًّا.هل كانت وجوه الأمهات البديلة، أم عيناها الكبيرتان المدهونتان، أم أفواها هو ما أشع الحب إلى القرود الصغيرة؟ كانت إحدى الأمهات التي استعان بها " هارلو " في تجاربه ذات رأس عبارة عن كرة من الخشب ليس بها أية ملامح للوجه، وقد أقام قرد صغير رابطة معها لمدة ستة أشهر. وبعد ذلك تم وضع أُمين خشبيتين ذواتي أوجه، فما كان من القرد إلا أن أدار وجهيهما حتى لا يراهما- أي كما اعتاد أن يرى أمه! وهنا أيضًا توضح تجربة " هارلو " أن المهم في حميمة العلاقة بالأم هو الرابطة القوية بها بغض النظر عن شكلها أو حتى عدم فاعليتها في التعامل مع أبنائها. ولم يكن " هارلو " يمزح عندما كتب يقول: " الحب أعمى " ، حيث اكتشف أنه ليس هناك اختلاف في نوعية الأمومة التي تقدمها الأم البديلة عن تلك التي تقدمها الأم الحقيقية، حيث كان من الواضح أم ما يحتاج إليه القرود الصغار هو مجرد " شكل للأم " حتى ينموا نموًا صحيًّا سعيدًا.