للإبداع ثلاث ركائز يعتمد عليها، هي :
التكامل والتدريب والبيئة الإبداعية، ويمكن توضيح ذلك كالآتي:

أولاً -الإبداع والتكامل
إن التكامل فطرة خلق الله عليها الإنسان، وهذا ما نراه في نشاط العقل الإبداعي . فالدماغ الذي هو الآلة التي يستخدمها العقل للتفكير، تتكون القشرة المخية فيه من نصفين ، ولقد جعل الله لكل نصف منها وظائف عقلية مختلفة عن الآخر ، فالمنطقة اليمنى من الدماغ تتحكم بالوظائف المرتبطة بالحدس والانفعال والإبداعواستخدام الخيال والتأمل، أما المنطقة اليسرى فتتحكم بعمليات التحليل وضبط الكلام والتفكير النقدي (السويدان ،العدلوني، 2001 م،ص35 ). و لكن العمليات العقلية الإبداعية لا تكون إلا بالتكامل بين نشاط كلاً من الجانبين ، حيث ينشط الدماغ عند وجود حاجة للإبداع في الجانب الأيمن مستخدماً الخيال والحدس والتأمل ومتقداً بالانفعال، ليخرج بأفكار جديدة، تطور من خلال نشاط الجانب الأيسر في تحليل الفكرة و جعلها قابلة للتنفيذ. ويؤيد ذلك ما ذكره ( دي بونو، 1997م، ص11-12 ) أن التفكير الإبداعي ليس بديلاً عن التفكير المنطقي الذي يتحرك فيه الشخص إلى الأمام بخطوات متعاقبة صحيحة، ولكنه متمم له و ضروري ، ومما لاشك فيه أن التفكير المنطقي يعتبر ناقصاً دون التفكير الإبداعي، الذي هو تفكير وثاب يقفز فيه الفكر في اتجاهات متعددة جديدة، مما يزيد من فعالية تأثير التفكير المنطقي و في نفس الوقت فإن التفكير المنطقي يطور الأفكار المتوالدة بواسطة التفكير الإبداعي ونخلص إلى أن الإبداع أداة لإنتاج الأفكار المنطقية ولكن ليس بطريقة منطقية ( عبيدات، 2003م) وكما نرى التكامل بين الإبداع والمنطق، نجده أيضاً بين الإبداع والذكاء، فالعلاقة بين الإبداع والذكاء ليست علاقة تناقض ولا هي علاقة تواجه أو تماس، بل الأقرب للصواب القول بأنها علاقة تكامل وتفاعل ( حنورة ، 1995م ، ص242 ). ولقد أثبتت العديد من الدراسات أن الذكاء المرتفع جداً ليس شرطاً للإبداع، إنما يكفي الذكاء العادي لإنتاج الإبداع، و أنه يتطلب ذكاء متوسطاً ( 110 - 120 درجة ).
والتكامل مع الواقعية يعتبر أمراً هاماً للخيال الإبداعي الذي هو تصور لشيء جديد غير موجود، والذي يعتبر أول خطوات الإبداع، و يجب أن يترك طليقاً بعيداً عن قيود القوالب. ويعتبر التخيل قدرة عقلية نشطة في غاية الأهمية لتكوين الصور والتصورات الجديدة من خلال التخيل المسهب الواسع، والغزير بالتفاصيل ؛ لذا يمكن القول أن لغة الاكتشاف الإبداعي تكمن وتنبثق من الخيال، فالخيال زاد الإبداع (سرور ، 2002م ص120). و تاريخ المبدعين يبين أنهم كانوا يفكرون مثل غيرهم بطريقة عقلية منظمة، ويعبرون عن أفكارهم بالكلمات المقروءة، وذلك في ألأحوال العادية، أما في الأحوال الإبداعية فقد كان اينشتاين مثلاً، يسترخي ويترك عقله يتجول، وفي هذه الحالة فقط كان يمكنه حل الرموز والمفاهيم بأساليب غير لفظية وغير منطقية ( القذافي، 2000م، ص71) .ولكن لابد من التكامل بين الخيال الإبداعي والواقعية، ولابد من التوسط والاعتدال في هذا الجانب، فالتشديد على أن يكون التفكير مرتبطا بالواقع يمكن أن يثبط من عملية التجريب للاحتمالات الغريبة التي هي على الأغلب مفيدة، إلا أنه يجب تشجيع التحرك الحر للخيال باتجاه الحقيقة والواقع ، كما يجب أن لا نحصر الإبداع في الخيال، إذ لا قيمة ولا فائدة من خيال لا يتحول إلى فكرة عملية وإنتاج نافع ( الحمادي ،1998م، ص57 ، الخلايلة، اللبابيدي، 1997م، ص ص171 174 ) في قوله" أن الإنسان المبدع هو الذي يجمع بين أعمال المخ الأيمن والأيسر أي بين الخيال وبين التحليل العلمي المنهجي. كما أن التكامل في الإبداع يظهر أيضاً بينه وبين المشاعر والعواطف، ولقد أثبتت البحوث الحديثة للدماغ أن استخدام العاطفة والانفعالات أهم لتنمية الإبداع من المنطق ، وبما أن المشاعر مرتبطة بالرغبة، لذا فإنها تؤثر في التفكير، ويفشل المبدع إذا ما ابتعد عن المشاعر لأنها هي التي توصله للإبداع ( سرور ،2002م، ص297 ). فالتفكير الإبداعي شأنه شأن بقية أنواع التفكير يتأثر بالعواطف والانفعالات ويعتمد عليها؛ حيث يحدث ارتباط بين اللوزة (وهي المنطقة في الدماغ الأكثر ارتباطاً بالانفعال والعواطف ) وقشرة الدماغ، وهذا هو الأساس في التعاون القائم بين الشعور والفكر ( عدس، 1997م، ص40 ). فالانفعالات توجه التفكير، ويدل على ذلك أنه عندما تزال مناطق من الفص الأمامي للدماغ ( والمختصة بالذكاء ) فإن أداء الإنسان في اختبارات الذكاء المقننة يهبط عادة بدرجة قليلة جداً، و المرضى يمكن أن يتعافوا تماماً، ويحتفظوا بمهارات التفكير غير أن إزالة اللوزة -وهي المنطقة في الدماغ الأكثر ارتباطاً بالانفعال والعواطف - مسألة مدمرة إذ أن ذلك يدمر القدرة على اللعب الإبداعي، والخيال، واتخاذ القرار؛ ذلك أن الانفعالات تقود الإبداع (جنسن ،2001 ،ص ص95 96 )، و لذلك خاطبت الحضارة الإسلامية العقل والقلب معاً، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد ، وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ. وكما أن الإبداع يتكامل مع المنطق والمشاعر فهو أيضاً يتكامل مع المعرفة؛ حيث يرتبط الإبداع دائما بمعرفة حول موضوع ما، ( إبراهيم، 2002م، ص216 ). والمعرفة هي الجسد الذي لا يحيا إلا بروح الإبداع، و لا تُصنع إلا بالإبداع؛ ذلك أن المعارف الثابتة الجامدة لا يمكن أن تساير تطور الحاجات المعاصرة للمجتمعات. فالعلاقة بين الإبداع والمعرفة علاقة تكامل و انسجام، لاكما قد يتبادر إلى الذهن بأن الإبداع يتنافى مع اكتساب المعرفة، ولكن يجب أن تكون هذه المعرفة الوعاء المرن الذي تنسكب فيه الأفكار الجديدة، والتي من خلالها تتشكل في صورة إبداعية مبتكرة، لا معرفة جامدة في قوالب وأنماط محددة، لا تسمح للعقل بالنمو الإبداعي، لأن المبدع يصنع المعرفة وينطلق منها لآفاق أوسع.

ثانياً: التدريب
يجمع العديد من الباحثين على أن الإبداع مهارة يمكن التدرب عليها، ويخطأ من يظن أنه قدرة خاصة يتمتع بها فئة من الناس دون غيرهم، بل هي قدرة طبيعية لدى الجميع، وإن كانت تتفاوت من شخص لآخر. وقد أثبتت العديد من الدراسات أن التدريب على استخدام آليات وأدوات الإبداع ينمي القدرة على التفكير الإبداعي بحسب استعداد الشخص ( الحربي2000م ، دي بونو 1997م ، عبيدات 2002م ). فالتفكير الإبداعي من الممكن تعلمه والتدرب عليه مثله في ذلك مثل كثير من المهارات الأخرى التي يتم التدرب عليها ، كأساليب القيادة والاتصال واتخاذ القرارات ومهارات التفاوض والإقناع، على أنه من المؤكد أن بعض الأفراد لديهم قدرة طبيعية أكثر من غيرهم فيما يتعلق بتعلم المهارات الإبداعية( الهيجان 1999م) . كما يذكر (دي بونو، 1997م، ص329 ) "أن التفكير الإبداعي هو نوع من التفكير يمكن لأي فرد تعلمه، وقد يتقنه أفراد بشكل أفضل من أشخاص آخرين، وكما هو الحال في لعبة التنس حيث يتقنها أفراد بشكل أفضل من أفراد آخرين، ولكن في كلتا الحالتين يمكن للأشخاص أو الأفراد أن يتعلموا كيف يلعبون بشكل معقول أو مقبول إذا ما وضعوا بعض الجهد في ممارسة مهارات التنس. والمهارة في التفكير الإبداعي هي خليط من الاتجاهات التي تسمح للأفكار الجديدة بالدخول للدماغ، والوسائل التي تساعد على توليدها" .

ثالثاً:البيئة الإبداعية
والبيئة الإبداعية أو المناخ الإبداعي في معناه الواسع يعني الوسط المباشر والتأثيرات الاجتماعية النفسية والاقتصادية والثقافية والتربوية التي تحفز على الإبداع، وهي التي تتيح الفرصة للتلاقح الفكري وتوليد أفكار جديدة، لذا ينبغي أن تتصف البيئة الإبداعية بثلاث صفات رئيسية هي : الاتجاه التجريبي ، وامتلاك روح المرح ، والتلقائية والعفوية ( السويدان ،العدلوني ،2001، ص ص7471) ويذكر ( الكناني ،1990م ، ص125 ) " أن المناخ الإبداعي هو مجموعة الظروف العقلية والانفعالية والاجتماعية المحيطة بالفرد، والتي تعمل من خلال عملية التعليم والتعلم على تنشيط وتنمية امكاناته وقدراته الإبداعية، وسماته الوجدانية، و الدافعية التي تشجع الإنتاج الإبداعي، والدفاع عنه وتأييده حتى يصل إلى الآخرين ". ولذلك فإن الناتج الإبداعي قد يكون أحق من غيره بهذه البيئة الآمنة؛ لأنه يحمل بين طياته التغيير والتجديد، والذي قد يحتاج إلى قدر من التضحية والصبر حتى تظهر نتائجه على المدى البعيد، ولأن الفرد المبدع يحتاج إلى بيئة تتصف بالأمن والحرية تتيح له عرض أفكاره -مادامت في حدود شرع الله- دون خوف من تجاهل، أو استنكار، أو رفض، أو عقاب من المجتمع. وتزداد الحاجة إلى البيئة الإبداعية لدى الأفراد المبدعين الذين إذا قوبلت أفكارهم بالرفض من المجتمع فإنهم يستسلمون لذلك ويتنازلون عنها أو قد يتوجهون لمجتمعات أخرى تتقبل أفكارهم المبدعة، وفي هذا المجال يذكر ( الكناني، 1990م، ص130 ) أنه"حين تفرض القيود على الفرد المبدع يصبح مجبراً على البحث عن سراديب وأنفاق تحت الأرض يخرج فيها ما لا يقوى على إخراجه فوق سطح الأرض، وقد لا يصبر البعض فنجدهم يتوقفون عن الأداء الإبداعي، والبعض - وهم كثر ة - يمضون في الطريق السهل، ويتحول انتباههم الإبداعي إلى أشياء سطحية ليس لها من عمق أو رسالة أو إضافة، وبذلك يفقدون خصائص المبدعين "، بينما هناك من المبدعين من يعتقد بأن مجتمعه بحاجة لهذه الأفكار لتزدهر، وهو يبقى يحارب من أجلها ، ويعتبر (جروان، 1998 م، ص85 )" أن تقبل مجتمع ما واعترافه بقيمة وأهمية عمل ما شرط أساسي لتفرد هذا العمل، وإبرازه في سجل الحضارة الإنسانية " . كما يؤكد ( الكناني، 1990م، ص129 ) أن من العوامل التي تعوق الإبداع في المجتمع الخوف ، عدم الثقة الكافية، التقييد المستمر للاتصال، فرض دافعية خارجية محددة ، كذلك تقييد المعلومات وعدم نشرها، عدم الصبر على الأفكار الجديدة ورفضها قبل أن تنضج، ضعف الحوار والتعبير عن الآراء بين أفراد المجتمع، الصرامة والجدية المبالغ فيها وعدم المرح، عدم الانفتاح، فرض القيود على الاستقلالية الفردية وعدم التوازن بين العمل الفردي والجماعي ، كما أن من المعوقات البيئية التي يذكرها ( السويدان ،العدلوني ،2001م ) عدم وجود أنظمة لاكتشاف المبدعين ، تراكم التخلف الحضاري للأمة ، عدم وجود المكافأة الملائمة ، الرقابة الدقيقة ، عدم وجود الحوافز ،اتخاذ القرارات بشكل بيروقراطي ، أهداف المنظمة غير الطموحة ، مهاجمة الأفكار الجديدة والركون إلى الوضع الحالي ، عدم كفاية المصادر والموارد ، التقويم والضغط النفسي ،الضغط الزمني وقيود الوقت . و توصلت دراسة ( هيجان ، 1999م ) عن معوقات الإبداع في المنظمات السعودية إلى نتائج منها إن الثقافة التنظيمية للمنظمات السعودية لا تزال قاصرة عن توفير المناخ الملائم للإبداع رغم توفر الدوافع الداخلية لدى الأفراد فيها ، وأن بيئات العمل فيها لا تزال مصرة على التمسك بالأنماط والأساليب التقليدية ، وأنها تفتقر إلى الحرية في الحصول على المعلومات وطرح الأفكار ( فقيه ، 1999م ، ص19 ) .
إن هذه المعوقات وغيرها قد تعتبر قاتلة للإبداع الذي طالما تساءلنا أين هو ؟ و لماذا لا يعيش في مجتمعاتنا ؟ .