إذا كان الكم البشري لهذه الدولة أو تلك قد شكل في الماضي عاملاً حاسماً في تحديد مدى القوة والقدرة العسكرية والاقتصادية لتلك الدولة فإن قيمة الكيف أو النوع في العقود الطويلة الماضية بدأت تفرض نفسها كعامل أكثر حسماً في تحديد هذه القدرة وخصوصاً في عالم الاقتصاد وقوة النفوذ والهيمنة في هذا العالم.
ولو لم تتمكن الصين من الانتقال بسرعة من حالة الكم المتخلفة إلى حالة الكيف الصاعدة لما ترسخ دورها كقوة اقتصادية وسياسية كبرى مقبلة.. ولعل أكثر الأمثلة وضوحاً على دور قيمة الكيف الاقتصادي أو الصناعي في تحديد مدى الثراء والقوة بمختلف أنواعها هو أن الدول الأكثر غنى في الناتج القومي السنوي للفرد هي «لوكسومبورغ» 57 ألف دولار والتي لا يزيد عدد سكانها على نصف مليون والنرويج 4.6 ملايين 51 ألف دولار وسويسرا 7 ملايين 49 ألفاً وتحل الولايات المتحدة في المرتبة الرابعة 41 ألفاً من هذه الناحية لتأتي بعدها في هذا السلم الدانمارك وإيسلاندا واليابان والسويد وإيرلندا.
ويبدو أن إسرائيل التي لا يزيد عدد المستوطنين اليهود فيها منذ تأسيسها عام 1948 على 5.5 ملايين تسعى الآن إلى استغلال الظروف الدولية وخصوصاً الأميركية والاقتصادية العالمية للتحول إلى دولة توفر الثراء للمستوطنين والمهاجرين الذين تتطلع إلى استثمارهم في كيانها السياسي والاقتصادي.
فالناتج القومي للفرد سنوياً لا يزيد على 18 ألف دولار وهو أقل من اليونان وإسبانيا وإيطاليا وتحتل إسرائيل المرتبة الخامسة والثلاثين في هذا السلم العالمي.
ومع ذلك يبدو أن الحكومة الإسرائيلية لاحظت أن وضعها الاقتصادي والصناعي السيئ جداً في العقد الماضي بسبب المقاومة والانتفاضة والهزيمة في حرب تموز 2006 لم يعد يوفر لها مستوطنين من المهاجرين الجدد بل إنه تسبب على عكس ذلك بهجرة معاكسة كان معظم من نفذها هم العلماء والخبراء والاختصاصيون بالتكنولوجيا الحديثة المتطورة. فقد كشف موتي بسوك في تحليل اقتصادي نشره في صحيفة هآريتس الإسرائيلية قبل أيام أن 20 ألفاً من الإسرائيليين من أصحاب الخبرات والعلوم التكنولوجية الصناعية يعملون الآن في أوطانهم السابقة التي يحملون جنسيتها في مجالات صناعية توفر لهم مداخيل مالية كبيرة. وتبين أن أهم الخبراء الذين كانت إسرائيل تعتمد عليهم لبناء قدرتها الاقتصادية وللتحول إلى ما يشبه الدول الثرية في اسكندنافيا أصبحت تعمل في أوروبا والولايات المتحدة وهذا ما اعترف به للملحق الاقتصادي الخاص بصحيفة هآريتس حاييم روسو مدير عام شركة اليكترواويتيكا ونائب رئيس شركة «ألبيت» الإسرائيلية للهندسة التكنولوجية.. ويقول «روسو»: «طلبت من الحكومة الإسرائيلية أن توفر كل وسيلة مغرية مالية وغير مالية من أجل استعادة 500 من أصحاب العقول التكنولوجية في السنوات الخمس المقبلة 2010-2014 بمعدل مئة في كل عام».
وتشير إحصاءات إسرائيلية إلى الخسارة الفادحة التي شهدتها إسرائيل مالياً وعلمياً جراء هجرة هذه الأدمغة إلى أوروبا بعد أن يئست من وجودها في إسرائيل إلى حد جعل حكومة أولمرت تشكل لجنة وزارية عليا في كانون الثاني 2009 بمبادرة من رئيس المجلس القومي للأبحاث والتطوير البروفيسور عوديد أبرامسكي تفرعت عنها لجان في شؤون الصناعة والبحث الأكاديمي لاستعادة ما يمكن استعادته من أصحاب الأدمغة الإسرائيلية.
ورصدت الحكومة مبلغ 1.5 مليار شاقل إسرائيلي أي ما يساوي 450 مليون دولار لتحقيق هذه الغاية ورأت أن استثمار أي مبلغ مالي إضافي لنجاح هذا المشروع سيفيد لأن عودة نسبة من هذه الأدمغة سيزيد دخل الدولة والناتج القومي للفرد سنوياً.
وكشفت صحيفة هآريتس أن الحكومة سمحت للجنة بإجراء عقود مع أي علماء من غير اليهود أو من غير الإسرائيليين بعد أن تبين أن الكثيرين من العلماء الإسرائيليين لا يفكرون بالعودة إلى إسرائيل في هذه الظروف. وبهذا الصدد يقول روسو: «إن عودة الأدمغة المناسبة لإسرائيل يجب ألا يكون الانتماء الصهيوني شرطاً فيها لأن توظيف علماء غير يهود سيحقق نمواً في الصناعة وفي تطوير بنية تكنولوجية حديثة لليهود في إسرائيل..».
وتشير الأرقام الإسرائيلية إلى أن نسبة التصدير الصناعي الإسرائيلي بلغت 31% في الآونة الأخيرة من مجمل الصادرات و«شكلت 17% من الثروة القومية».
وحققت نسبة نمو بلغت 9% في الاقتصاد الإسرائيلي في السنوات الذهبية.. وكشف روسو أن إحدى المشكلات التي تعاني منها إسرائيل هو تركيزها على (تكنولوجيا الاتصالات والعلوم) علماً أن هذا المجال استهلك نفسه ولم يعد مجدياً بالوتيرة نفسها السابقة واعترف أن هجرة اليهود الروس أو الروس بشكل خاص إلى إسرائيل في التسعينيات شكلت رافعة أزالت مشكلات كثيرة عانت منها إسرائيل قبل هجرتهم.
وقال: إن هناك 15 ألفاً من الإسرائيليين الذين غادروا إسرائيل ضمن الهجرة المعاكسة يعملون في الصناعة الأميركية، ويحققون دخلاً وأرباحاً تزيد عما يمكن لهم تحقيقه في إسرائيل، ودعا إلى استغلال أي نسبة منهم لزيادة الثروة والأرباح في إسرائيل.
كما اعترف بأن إسرائيل ليس فيها خبرة حتى الآن في مجالات علمية ومهن جديدة وخصوصاً في الصناعات الكيميائية وفي الصناعات الإلكترونية وصناعة الطاقة. وعزا الأسباب التي تمنع الإسرائيليين من العودة إلى الحياة في إسرائيل إلى أسباب مالية حيث يتوافر لهم في أميركا مالا يتوافر لهم في إسرائيل التي لم تتحقق فيها نسبة كافية من الاستقرار الأمني أو المالي. وطالب باستغلال الأزمة الاقتصادية العالمية لإغراء ما أمكن من الأدمغة التكنولوجية بالعمل في إسرائيل لأن أحد أهم أسباب الهجرة إليها هو الحافز المالي.
وفي معظم الأحوال لن يكون في مقدور إسرائيل توفير مال يزيد عما يمكن أن يتوافر للإسرائيلي في الخارج وهذا ما يجعلها في أزمة مستمرة.

الوطن
اسرائيل والعرب

2009-08-18