إن تعدد الأجزاء في داخل نفسك هو أمر طبيعي.ولكن يحصل في كثير من الأحيان، كما أشرنا من قبل، أن يكون هناك صراع بين هذه الأجزاء. وقد يخف هذا الصراع حتى يتلاشى في أوقات معينة، أو ظروف معينة، فتكون في حالة انسجام مع نفسك في تلك الأوقات والظروف. وقد يحتدم الصراع في ظروف أخرى فتكون في حالة عدم انسجام. وتتوقف النتيجة على المحصلة النهائية لانسجام الأجزاء، وتأثير ذلك على حياتك وأدائك.

وفي حالة احتدام الصراع واشتداده، يكون من الضروري حسمه، وإنهاء النزاع بين الأجزاء، وتحقيق السلام بينهما. وفيما يلي وصف لعملية حسم الصراع لدى شخصية رمزية (عبد الله) الذي توجد بداخله ستة أجزاء، أو ست شخصيات. فعبد الله رجل متدين، وهو موظف لدى الدولة، ومتزوج وله خمسة أولاد، وهو يحب رياضة المشي ويزاولها، كما أنه يكتب بعض المقالات في الصحف والمجلات. وحيث إن دخل عبد الله محدود فهو يفكر بعمل إضافي تجاري يدر عليه مالاً إضافياً، وقد نشأت عند عبد الله حالة من الصراع بين هذه الأجزاء المختلفة. فوقته لا يسمح بالقيام بها كلها. وكثيراً ما يشعر بالتقصير وتأنيب الضمير تجاه واحد أو أكثر من هذه الأجزاء. وقد استشارنا عبد الله فيما يمكن فعله لحسم هذا الصراع الداخلي في نفسه بين هذه الأجزاء الستة.

أخبرنا عبد الله بأن يتخيل هذه الأجزاء الستة وكأنها أشخاص لكل منهم اهتمامه ورغباته، وأن يدعوهم إلى اجتماع لمناقشة النزاع بينهم. وطلبنا أن يقدم لنا تقريراً عن عملية حسم الصراع لديه لنشره على القراء لعلهم يفيدوا منه.

فاستجاب عبد الله، وبعد أيام وافانا مشكوراً بتقريره التالي:
يقول عبد الله:
وجهت الدعوة إلى الشخصيات الست لعقد اجتماع طارئ لمناقشة موضوع الصراع، وإيجاد طريقة لحله. فحضر الجميع إلى غرفة الاجتماعات في الوقت المحدد، وهم: الموظف، والأب، والرياضي، والكاتب، والعابد، والتاجر. فأخذوا أماكنهم حول طاولة الاجتماعات. وطلب عبد الله من العابد أن يترأس الجلسة ويدير الاجتماع. فقام العبد وجلس في المكان المخصص لرئاسة الاجتماع. فحمد الله وأثنى عليه, وذكر المجتمعين بوجوب التعاون عل البر والتقوى، والانتهاء عن الإثم والعدوان. وسأل: هل الحضور مكتمل؟ فقالوا إن الجميع موجودون وليس هناك غائب. فقال: أريد أولاً أن أذكركم بجدول الأعمال لهذا الاجتماع، فحسب ما هو موجود في الورقة التي أمامي فإن هذا الاجتماع مخصص لمناقشة الصراع الدائر بيننا حول توزيع أوقات السيد عبد الله بهدف التوصل إلى صيغة تعطي كل ذي حق حقه بالعدل والقسطاس المستقيم من أجل أن يستطيع السيد عبد الله القيام بأعماله وواجباته على أحسن ما يكون القيام به.

وأود أن أوضح لكم أيها السادة أن للسيد عبد الله أربعاً وعشرين ساعة في اليوم. منها سبع ساعات للنوم، وسبع عشرة ساعة لكم. وستدور مداولات هذا الاجتماع حول ساعات اليقظة فقط, إذ لا سبيل إلى ساعات النوم لأنها من هذا السيد عبدالله.كما أرجوا أن يكون الكلام مقتصرا على هذا الأمر, وعدم إقحام أمور أخرى لا علاقة لها بالهدف من هذا الاجتماع كذالك أرجو أن يكون الكلام واضحا ومختصرا.وأن تستأذنوا من رئيس الجلسة عند طلب الكلام, وألا يقاطع أحد منكم أحد أثناء حديثه, وسيقوم السيد الكاتب بتدوين محضر الجلسة, فلنبدأ باسم الله.وهنا رفع التاجر يده طالبا الكلام.

*الرئيس _تفضل:
*التاجر _ان شعوري بالمسؤولية جعلني أفكر في الظروف التي تحيط بالسيد عبد الله ,والتبعات الملقاة على عاتقه .وقد توصلت الى أنه من الأفضل لي ولزملائي المحترمين أن أنسحب من الجلسة عن قناعة ورضي.اذ أنني تأكدت بأني لا أستطيع بأن أقوم بعملي التجاري في هذه الظروف. لذلك فلا أرغب في الاشتراك في هذا الاجتماع، ولا أريد تخصيص أي شيء لي من وقت السيد عبد الله الآن. إن قراري هذا لايعني إلغاء وجودي بينكم، إنما يعني تعليق مطالبي في الوقت الراهن ولمدة سنة واحدة على الأقل. على أن أحتفظ بحق المطالبة لتخصيص جزء من الوقت لي متى رأيت أن الظروف ملائمة لذلك. وشكراً.

• الرئيس ـ شكراً للسيد التاجر. لقد سمعتم ما قاله زميلكم، والأمر مفتوح للمناقشة.
• الموظف ـ لقد فوجئت بقرار السيد التاجر، ولا أعلم الدوافع الحقيقية له. ولكنني أود التوضيح بأن المسؤوليات المالية تقع كلها على عاتقي، وليس لي غير الراتب الذي أتقاضاه في نهاية كل شهر. وأشعر بأن السيد عبد الله يحتاج إلى مورد مالي إضافي، وخاصة وأن له زوجة وأولاداً. وأن هؤلاء الأولاد سيكبرون وسيحتاجون إلى مزيد من النفقات. ولا أعلم إن كنت أستطيع القيام بذلك وحدي. لذا أرجو من السيد التاجر أن يعيد النظر في قراره.
• الأب ـ إنني أتفهم موقف السيد الموظف. كما أنني أشعر بشعوره أيضاً، فأنا زوج وأب لخمسة أطفال، وأنا المسؤول المباشر عن إعالتهم. كما أني أتوقع ازدياد النفقات في السنوات القادمة، وكذلك الحاجة إلى المال في الحالات الطارئة. ولكني من ناحية أخرى أقدر الموقف الصريح للسيد التاجر في أنه لا يتوقع حصوله على وقت كاف لمزاولة عمل إضافي في الوقت الراهن. لذلك أرجو التأكد من أن قرار السيد التاجر هو تعليق للأمر لمدة سنة وليس إلغائه، على أن يطرح الموضوع في اجتماع خاص بعد مرور السنة. كما أقترح أن يبقى السيد التاجر هنا معنا بصفة مراقب دون أن يكون له حق التصويت.
• الرئيس ـ شكراً للسيد الأب. هل هناك من لديه ما يقوله بشأن موضوع السيد التاجر.
• الكاتب ـ يعلم الجميع أن طلباتي متواضعة, وقد يؤيدني في ذلك السيد الرياضي لأن طلباته متواضعة كذلك.
• الرياضي ـ هذا صحيح.
• الكاتب ـ لذلك فإني أؤيد اقتراح السيد التاجر في تعليق مشاريعه، وأرجو أن يتاح لي مزيداً من الوقت لممارسة الكتابة، وخاصة أني أتوقع أن يتضاءل نصيبي إذا ما قرر التاجر البدء بأعماله.
• الرئيس ـ يبدو أن الجميع موافقون على اقتراح السيد التاجر. وهذه علامة جيدة على الجو الودي الذي يسود الاجتماع. وأني أضم صوتي إليكم ليكون قرار بالإجماع. أرجو من سكرتير الجلسة السيد الكاتب تدوين هذا القرار في المحضر.
• الموظف ـ ليسمح لي السيد الرئيس ببيان موقفي. لأن لي الآن ثمان ساعات في اليوم للقيام بأعباء وظيفتي. وأشعر بأني بحاجة إلى أمرين اثنين: الأول هو إلغاء إجازتي السنوية ليستنى لي إنجاز بعض الأعمال المتراكمة في مكتبي، لأن ذلك يساعد على ترقيتي في السلم الوظيفي. والأمر الثاني هو رجائي لرئيس الجلسة والزملاء المحترمين أن يوافقوا على تخصيص ثلاث ساعات من وقت السيد عبد الله لأستطيع القيام بعمل إضافي خارج ساعات العمل الرسمية، وذلك لزيادة دخل السيد عبد الله، وخاصة وأن السيد التاجر قد انسحب من المشاركة في الوقت الحاضر.
• الكاتب ـ هذا ليس عدلاً، ولا إنصافاً. فإنك تستأثر بنصف الوقت المتاح، وإنك...
• الرياضي ـ وأنا لدي اعتراض على إلغاء الإجازة لأنني انتظرها ساعة بساعة، وقد وضعت برنامجاً للإفادة من وقتها. وأظن...
• الرئيس (مقاطعاً) ـ أرجو من الزميل الرياضي ألا يقاطع المتحدث حتى يكمل حديثه ثم يطلب التحدث.
• الرياضي ـ أرجو المعذرة.
• الرئيس ـ تفضل أيها الكاتب، أكمل حديثك.
• الكاتب ـ ما أردت قوله للسيد الموظف هو أننا وافقنا السيد التاجر على تعليق طلباته نظراً لعدم وجود وقت كاف له. فكيف يطلب السيد الموظف سلخ ثلاث ساعات في اليوم من وقت السيد عبد الله. إن هذا ليس إنصافاً. كان الأجدر أن تعطي هذه الساعات الثلاثة، إن توفرت، للسيد التاجر، أما وأنه وقد علق طلبه فإني أرجو أن يؤخذ وضعي بنظر الاعتبار. إنني أشعر بالغبن، فليس لدى إلا بضع ساعات في الأسبوع لمزاولة هوايتي الكتابة. والكتابة كما تعلمون تحتاج إلى القراءة، وبالتالي فإني أحتاج إلى أربع ساعات في اليوم لمواصلة الكتابة.
• الرياضي ـ إنني أشعر بضيق بسبب طلبات الكثيرة والمتزايدة للزملاء. ويجب أن تعلموا أيها السادة بأن العقل السليم في الجسم السليم. وأن ممارسة الرياضة ليست أمراً ثانوياً كما قد يظنه البعض. وإذا كان السيد الكاتب بطلب بأربع ساعة فلن أرضى بأقل منه. ولكنني سأقتنع بثلاث ساعات في اليوم لأداء مهتمي.
• الأب ـ مهلاً مهلاً أيها الزملاء. يبدو كل واحد منكم يتحدث وكأن ليس هناك أحد غيره. هل نسيتم أن لي زوجة وأولاداً خمسة يحتاجون إلى رعاية، وتربية، وتوجيه، فما فائدة الكتابة والرياضة إذا ساءت أمور العائلة، وضعفت العلاقات بين أفرادها. إن أمر العائلة ورعايتها يحتاج إلى ما لا يقل عن اثنتي عشرة ساعة في اليوم. كذلك أود تنبيه الزملاء إلى أمر يبدو أنهم نسوه، وهو حقوق السيد العابد رئيس الجلسة. فلديه واجبات يوميه نحو ربه. خمس صلوات في اليوم والليلة، وقراءة جزء من القرآن، إضافة إلى خلوة مع نفسه بين فترة وأخرى. فإذا أخذنا هذا الأمر بنظر الاعتبار فلا يبقى هناك وقت للكاتب ولا للرياضي، وأظن أن ما يقومان به هو ترف لا حاجة لنا به.
• الرئيس ـ اشكر السيد الأب على تطرقه لحقوقي. في الواقع هي حقوق لله، وكنت على وشك أن أنبه الزملاء إليها. وقد كفاني السيد الأب ذلك فجزاه الله خيرا. إننا هنا أيها الزملاء لإيجاد صيغة عادلة ترضي الجميع، ولا نريد إلغاء حق أحد. ولكن يجب أن يتذكر الجميع أن لدينا سبع عشرة ساعة فقط. فلننظر إلى مجموع الساعات المطلوبة لحد الآن. ولكن قبل ذلك أود إخباركم بأني أحتاج إلى ساعة واحدة في اليوم لأداء الصلوات الخمس. أما قراءة القرآن، والنوافل فقد اتفقت مع السيد عبدالله على أخذ ساعة إضافية من نومه. وهذا، كما تعلمون اتفاق خاص لا شأن لكم به. كما أنه لا يؤثر على الأوقات الأخرى. على أني لابد أن أبوح لكم برغبتي في أخذ مزيد من الوقت، وأرجو أن تضعوا هذا الأمر في حسابكم.

وخاصة وأن الدنيا ليست بدار قرار, والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً. وأملي كبير في أن يعطيني كل واحد منكم جزءا من وقته لأستطيع التقرب إلى الله بالنوافل، وهو خير للجميع إن شاء الله. (ملتفتا إلى الكاتب) ماهو مجموع الساعات الآن؟
* الكاتب ـ لدي الآن طلبات بالأوقات كما يلي:

الموظف: 11 ساعة (8 ساعات + 3 ساعات إضافية)
الكاتب: 4 ساعات
الرياضي: 3 ساعات
الأب: 12 ساعة
العابد: 1 ساعة واحدة

المجموع 31 ساعة

• الكاتب ـ سيدي الرئيس لدينا 31 ساعة ، بينما الوقت المتاح لنا هو 17 ساعة فقط.
• الرياضي ـ لقد أثر كلام السيد العابد في نفسي، وفكرت في أن هذا الجسم الصحيح الذي أريده لن ينفعنا غداً يوم يقوم الحساب. وأن الله هو الذي يحيي ويميت، ويمنح الصحة والقوة. لذلك أرجو إعطائي نصف ساعة في اليوم للمحافظة على اللياقة البدنية للسيد عبد الله، كما أرجو إعطائي بضع ساعات أخرى في أيام العطل والإجازات للاستمتاع بلعبة كرة المنضدة التي أحبها.
• الموظف ـ لم أكن أعلم أن هناك واجبات وأعباء كثيرة يتعين على السيد عبد الله القيام بها. كما أني أعتذر للسيد التاجر عن عدم مراعاتي لتضحيته. لذلك فأود أن أعلن عن تنازلي عن مطالبتي بالساعات الإضافية الثلاث. إلا أني أرجو من الزملاء الموافقة على إلغاء إجازتي السنوية، وهي لمدة ستة أسابيع.
• الأب ـ وأنا كذلك أظني أسرفت في أمر العائلة. وسوف أبذل جهدي لأن اكتفي بست ساعات فقط من ضمنها زيارات لبعض الأقارب والأصدقاء. ولكني لا أوافق على طلب السيد الموظف بإلغاء إجازته، إذ إنها ليست حقاً له وإنما هي للجميع.
• الكاتب ـ يبدو أن الأنظار تتوجه إلىَّ، فالجميع قد بادر بالتضحية ولم يبق غيري. لذا أعلن عن عزمي على الاكتفاء بساعتين في اليوم. كذلك أود التنسيق والتعاون مع السيد العابد لأن أوقاتنا متجاورة، وغالباً ما تكون في الليل، أو في أوقات الخلوة.
• الرئيس ـ على الرحب والسعة. وأود إخبارك بأني على علاقة جيدة بالسيد عبد الله. وهو لا يبخل علي بجزء من ساعات نومه كلما احتجت ذلك للصلاة والقيام.
• الرياضي ـ سيادة الرئيس أرجو الانتباه إلى أن السهر يضر بالصحة.
• الرئيس ـ أعلم ذلك. وليس الغرض هو تجاوز الحقوق. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن لبدنك عليك حقاً..." .

والآن يقرأ علينا السيد الكاتب الأوقات الجديدة المخصصة لكل زميل.
• الكاتب ـ لدينا الآن
الموظف 8 ساعات
الكاتب 2 ساعتان
الرياضي 0,5 نصف ساعة
الأب 6 ساعات
العابد ساعة واحدة
المجموع 17,5 ساعة
• الأب ـ يبدو أن المجموع 17,5 ساعة. أرجو من الزميل الرياضي أن يتعاون معي وسوف أجد له الوقت اللازم مما هو مخصص لي. وخاصة وإنني أريد إشراك الأولاد في بعض الألعاب الرياضية فهم يحبون كرة القدم.
• الرياضي ـ فكرة ممتازة. سوف أعمل على تدريبهم على كرة المنضدة أيضاً، وسأجري مباريات معهم.
• الموظف ـ بقيت قضية الإجازة، وهي ستة أسابيع.
• الرئيس ـ إني أقترح أن تأخذ أسبوعين وتدع أربعة لزملائك الآخرين. ماهو رأيكم؟
• الجميع ـ ( يهزون رؤوسهم )موافقون.
• الرئيس ـ هل هناك شيء آخر يود أن أحد منكم قوله؟...

الصمت علامة الرضا أرجو أن يكون كل منكم سعيداً بما كتب الله له. وأدعو الله تعالى أن يوفقكم ويبارك لكم في أوقاتكم. (يلتفت إلى الكاتب) سجل تم الاتفاق بالإجماع. شكراً لكم وفي رعاية الله.










المرجع: آفاق بلا حدود
اسم الكاتب: محمد التكريتي
دار النشر:الملتقى للنشر والتوزيع
سنة النشر:2003
رقم الطبعة: الخامسة
رقم الصفحة: 113-123
كلمات مفتاحية: تقنية الإتفاق الصوري - حسم الصراع - الإنسجام – التوافق – تناغم الأدوار .
رابط القصة: بهاء الشيخ علي
رابط القصة: http://trainers.illaftrain.co.uk/ara...l.thtml?id=198