لقد ذم الإسلام الفخر والخيلاء ونهى عنهما فهي أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب وتزوج أحدهما بصاحبه فإذا تبين هذا: فالنهر مثال هاتين القوتين وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه وحواصله يخربها ويتلفها ولابد فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم وهو الذي يأكله أهل النار يوم القيامة يوم المعاد وأما النفوس الزكية الفاضلة: فإنها رأت ما يؤل إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق فأصحاب الرياضات والمجاهدات والخلوات والتمرينات: راموا قطعه من ينبوعه فأبت عليهم ذلك حكمة الله تعالى وما طبع عليه الجبلة البشرية ولم تنقد له الطبيعة فاشتد القتال ودام الحرب وحمى الوطيس وصارت الحرب دولا وسجالا وهؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات وفرقة أعرضوا عنها وشغلوا نفوسهم بالأعمال ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات مع تخليتهم إياها على مجراها لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم بل اشتغلوا بتحصين العمران وإحكام بنائه وأساسه ورأوا أن ذلك النهر لابد أن يصل إليه فإذا وصل، وصل إلى بناء محكم فلم يهدمه بل أخذ عنه يمينا وشمالا فهؤلاء صرفوا قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وإحكام البناء وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء وسألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وبتنظيفها فقال لي جملة كلامه:
النفس مثل الباطوس وهو جب القذر كلما نبشته ظهر وخرج ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره وكلما نبشت شيئا ظهر غيره فقلت سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها: انقطع ولم يمكنه السفر قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا وأثنى على قائله..
إذا تبين هذا فهذه الفرقة الثالثة: رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدى ولا عبثا وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك والثمار والحطب وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليها وأن ما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح والظفر فرأوا أن الكبر نهر يسقي به العلو والفخر والبطر والظلم والعدوان ويسقي به علو الهمة والأنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم وهذه درة في صدفته فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس واستخرجوا هذه الدرة من صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع..

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة يتبختر بين الصفين فقال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا الخلق يجري في أحسن مواضعه وفي الحديث الآخر وأظنه في المسند: إن من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالخيلاء التي يحبها الله: اختيال الرجل في الحرب وعند الصدقة فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية وكيف استحال القاطع موصلا.










المرجع: مدارج السالكين
اسم الكاتب: ابن القيم الجوزية
دار النشر: دار البيان
سنة النشر:2003
رقم الصفحة: 313-314
كلمات مفتاحية: التواصل مع الذات - مجاهدة النفس - التحفيز
أرسل بواسطة: أحمد الخطيب
رابط القصة: http://trainers.illaftrain.co.uk/ara...l.thtml?id=194