هناك قصة في كتاب (جريجوري بيتسون) الذي يحمل عنوان (خطوات لتفهم مناخ العقل) تأتي القصة على شكل حوار بينه وبين ابنته منذ سنوات, وسأرويها على الشكل التالي: في أحد الأيام جاءته ابنته ووجهت إليه سؤالا مثيرا للاهتمام, إذ قالت: (لماذا تختلط الأشياء بهذه السهولة والسرعة؟)
سألها: ماذا تعنين بأنها تختلط يا عزيزتي؟
أجابت: عندما لا تكون الأشياء في وضعها الكامل المثالي, هل ترى مكتبي الآن؟ كل الأشياء عليه مبعثرة ومختلطة, على الرغم من أنني جاهدت الليلة الماضية كي أرتبه لكي يكون على أكمل وجه ولكن الأشياء لا تبقى على هذه الحال, بل إنها تعود لتختلط بكل سهولة وسرعة!
قال لها بيتسون: هل يمكن أن تريني الأمور وهي كاملة (أجابت على ذلك بأن نقلت كل الأشياء على رفوف مكتبها إلى الأماكن المخصصة لها, ثم قالت: هكذا, انها كاملة بهذا الوضع, ولكنها لن تبقى على هذه الحال.
سألها بيتسون: (ماذا يحدث لو حركت علبة الألوان هذه مسافة اثنتي عشرة بوصة من مكانها؟ ماذا يحدث عندئذ؟
أجابت: لا، لقد اختلطت الأشياء من جديد يجب أن تكون العلبة مستقيمة على كل حال وليست مجعلكة بهذه الطريقة التي وضعتها فيها)
ثم تساءلت: ماذا لو حركت القلم من هذه البقعة إلى هذه؟
أجابت: (لا قد خلطت الأمور من جديد, ولم تعد مرتبة)
قال: وماذا لو تركنا هذا الكتاب مفتوحا؟
أجابت: لا, هذا سيلخبطها, أيضا!) استدار بيتسون نحو ابنته وقال:
(ليست الأشياء هي التي تتلخبط بسرعة يا عزيزتي, بل إن لديك أنت سبلا أكثر لكي تلخبطي, الأشياء بينما لديك طريقة واحدة فقط لكي تعتبري الأشياء كاملة تماما.

يبتدع معظمنا سبلا عديدة تدفعهم للإحساس بشعور سيئ و ولكنهم يبتدعون سبلا قليلة لكي يشعروا بالسعادة فعلا. ويدهشني دائما العدد الهائل من الناس الذي توصلهم القواعد التي يتبنونها للشعور بالألم كأنهم يملكون فيما يبدو شبكة معقدة هائلة من السبل العصبية التي تقودهم إلى الحالة التي يريدون تجنبها, ومع ذلك فليس لديهم من السبل التي تربطهم بالمتعة إلا عدد قليل لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

من الأمثلة التي أرددها دائما في حلقاتي الدراسية وضعية أحد المشاركين في حلقتي الدراسية: موعد مع المصير (فهو معروف جدا في شركة فورشن 500, محبوب في منطقة إقامته بسبب مساهماته الكثيرة, وأب لخمسة أبناء تربطه بهم وبزوجته علاقة ود وحب وثيقة كما أنه يتمتع بلياقة بدنية جيدة, فهو يشارك في مباريات الركض لمسافات طويلة سألته:
(هل أنت إنسان ناجح؟ ولدهشة جميع الحاضرين أجاب بجدية مطلقة لا فقلت له: ماذا يجب أن يحدث لكي تشعر بأنك ناجح؟ (تذكر أن هذا هو السؤال الأساسي الذي يجب عليك أن تطرحه لكي تكتشف قواعد حياتك أو قواعد حياة أي إنسان آخر).

ما تلا ذلك كان سلسلة طويلة من القواعد والمتطلبات الصارمة التي يشعر بأن عليه أن يحققها لكي يكون ناجحا في حياته اذ عليه أن يكسب 3 ملايين دولار كراتب سنوي (كان راتبه حينذاك يصل إلى واحد ونصف مليون دولار يضاف إليها 2 مليون دولار كبدلات ومكافآت سنوية, وان كان لا يحسب هذه) كما أنه يجب أن تكون نسبة الدهون في جسمه هي 8 في المائة وهي الآن 9 % ويجب ألا يخيب ظنه بأبنائه قط (تذكر أن لديه خمسة أبناء, كلهم يتجهون اتجاهات مختلفة في حياتهم) ما هي الفرص التي يمكن أن تتوفر لمثل هذا الرجل لكي يشعر بأنه ناجح في نظرك, وهو يريد أن تتحقق له كل تلك المقاييس القاسية والتي قد تكون غير معقولة, وقد لا تتوفر له جميعا في نفس الوقت؟ هل سيشعر في أي يوم من الأيام بأنه إنسان ناجح؟

وبالمقارنة, كان هنالك رجل آخر لاحظنا جميعا بأنه كان يتقافز عمليا من مكان لمكان نظرا لأنه كانت لديه طاقة كبيرة وكان يبدو عليه أنه يستمع بالحلقة لدراسية وبالحياة إلى أقصى الحدود. استدرت نحوه وطرحت عليه السؤال ذاته: هل أنت ناجح؟ ملأت وجهه ابتسامة عريضة وقال: (تماما, فمضيت أسأله ماذا كان عليه أن يحدث لكي يشعر بأنه ناجح؟ ازدادت ابتسامته اتساعا وهو يجيب: الأمر في منتهى السهولة كل ما علي أن أفعله هو أن أنهض وأنظر تحت قدمي, وأتأكد من أنني مازلت فوق الأرض! ضج الحاضرون إعجابا وما لبث أن تابع قائلا: (كل يوم تجد نفسك فيه فوق الأرض, هو يوم عظيم) أصبحت هذه العبارة هي العبارة المفضلة لدى العاملين في الحلقة الدراسية (موعد مع المصير) كما أننا نضع هذه العبارة الآن في مكان بارز في كل حلقة دراسية لكي نذكر أنفسنا بمدى نجاحنا في اللحظة التي نرمي فيها الغطاء عن أجسامنا كل صباح.

شأن ذلك المدير التنفيذي الذي كان يشعر بأنه لم يحقق كل متطلبات النجاح طبقا لقواعده, يمكنك أن تكون ناجحا ومع ذلك تشعر بأنك خاسر لأن المقياس الذي تستخدمه ليس منصفا بل ظالم وهذا ليس ظالما لك فحسب, بل يظلم شريك حياتك وأبناءك أيضا, والناس الذي يعملون معك كل يوم وأولئك الذين تمس حياتك حياتهم فان كنت قد وضعت لنفسك نظام قواعد يجعلك تشعر بالإحباط أو الغضب أو الإخفاق أو التأذي – أو أن لم تكن لديك قواعد واضحة بحيث تدرك بموجبها أنك سعيد وناجح وما إلى ذلك – فان من شأن مثل هذه العواطف أن تؤثر على الطريقة التي تتعامل بها مع الناس من حولك, وكذلك على شعورهم حين يكونون قريبين منك كما أنك إنما تحكم على الآخرين من خلال مجموعة من القواعد التي قد لا تكون قد عبرت عنها قط, سواء أكنت تعلم أم لا تعلم بذلك, ولكننا نتوقع من الآخرين بأن يتجاوبوا مع قواعدنا, أليس كذلك, فان كنت قاسيا مع نفسك فانك ستكون قاسيا مع الآخرين في الغالب.

لماذا يود شخص ما أن يفرض مثل هذه الإجراءات الصارمة على نفسه وعلى أولئك الذين يحبهم؟ يتعلق الأمر إلى حد كبير بالتكيف الثقافي فالكثيرون منا يخشون أنه إن لم تكن لديهم قواعد صارمة فانه لن يكون لديهم دوافع للنجاح, لن يكون لديهم حافز للعمل الجدي ولتحقيق إنجازات ولكن الحقيقة هي أنه لا حاجة بك لأن تكون لديك قواعد صعبة إلى درجة مضحكة لكي تكون بمثابة حافز لك اذ أنه إذا انتهج إنسان ما قواعد صارمة جدا ومؤلمة جدا فانه سرعان ما سيشعر بأن مهما فعل فانه لن يفلح, وسيبدأ يعاني من الشعور بالإحباط وبأنه لا حول له ولا قوة لاشك بأننا نريد أن نستخدم قوة الأهداف وبريق مستقبل يدفعنا إلى الأمام, غير أن علينا أن نتأكد على الدوام من أن هنالك في جذور كل قواعدنا ما يسمح لنا بأن نكون سعيدين في أي وقت نبتغيه.








المرجع: أيقظ قواك الخفية
اسم الكاتب: انتوني روبنز
دار النشر: مكتبة جرير
سنة النشر: 2003
رقم الطبعة: الخامسة
رقم الصفحة: 405-407
كلمات مفتاحية: قيم – عادات – سلوك – قناعات – استجابة – التواصل مع الداخل
أرسل بواسطة: بهاء الشيخ علي
رابط القصة: http://trainers.illaftrain.co.uk/ara...l.thtml?id=258