آفاق بلا حدود
الدكتور محمد التكريتي
بحث في الهندسة النفس الإنسانية
تمهيد
(وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون(21) ) (الذاريات)
يعلم الفيزيائيون (أو علماء الطبيعة) كم أن هذا الكون الذي نعيش فيه مدهش ومثير، ابتداء من الذرة ومكوناتها، وانتهاء بالمجرات والفضاء الخارجي، حتى ليعجز العقل البشري عن استيعاب دقة الالكترونات والبروتونات والجسيمات الأخرى، وعلاقاتها بعضها ببعض، وحركاتها وسكونها؛ كما يعجز عن تصور الكون الفسيح، وحجم المجرات، والمسافات الكونية الرهيبة التي تقاس بملايين السنين الضوئية. وبين عالم الذرة المتناهي في الصغر، وعالم الفضاء الخارجي المتناهي في الكبر، نجد آلافاً من الظواهر والموجات الكهرومغناطيسية، والليزر، والانشطار الذري... الخ. وكل محكوم بقوانين صارمة لا تتغير فطر الله الكون عليها... قوانين المادة والطاقة، وقوانين الحركة والزمن، وقوانين التجاذب والتنافر، وغيرها.
هذا الكون الواسع الكبير المدهش يقابله كون آخر لا يقل عنه سعة وتعقيداً، ولا ينقص عنه إثارة وإعجاباً. ذلك هو الكون الداخلي للإنسان. لذلك جعل الله للإنسان آية في الكون الخارجي كما جعل له آية في الكون الداخلي (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) (فصلت: 53). وقد صدق الشاعر حيث قال:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
النفس الإنسانية عالم فسيح، رحب، مثير. فإضافة إلى سر الحياة، وتخصص الأعضاء في جسم الإنسان تركيباً ووظائف، وتناسقها في نظام بديع فإن للإنسان إدراكاً وشعوراً وعواطف، وقدرة على التفكير والتذكر والتخيل، وسلوكاً متميزاً عن بقية الخلائق، مما يجعله بحق أعجوبة للمتأملين، وآية للناظرين. وكما أن للكون الخارجي قوانين تحكمه وسنن تنظمه وضعها الله تعالى، وجعل للإنسان سلطاناً في الكشف عنها وتسخيرها له؛ فكذلك الكون الداخلي للإنسان تحكمه قوانين وتضبطه سنن أودعها الله فيه، وهيأ للإنسان مقدرة للكشف عنها وتسخيرها له.
هذا الكتاب
هذا الكتاب الذي بين يديك يدور حول علم جديد هو بالنسبة للكون الداخلي كالفيزياء للكون الخارجي. قاد علم الطبيعة الإنسان إلى اكتشاف الكهرباء، والطاقة الذرية، والاتصالات اللاسلكية، وغيرها مما زاد في قدرته على التحكم في بيئته، فصار يقطع المسافات الشاسعة في ساعات قليلة، وصار يتخاطب وينقل صورته وصوته إلى أي نقطعة على الأرض في لمح البصر، فكذلك " الهندسة النفسية" تقوده إلى التحكم في (بيئته) الداخلية، وتسخر طاقاته، وتوجهها إلى ما فيه خير الفرد والمجتمع. ويمكن أن نعرف هذه " الهندسة النفسية" بأنها " طريقة منظمة لمعرفة تركيب النفس الإنسانية والتعامل معها بوسائل وأساليب محددة حيث يمكن التأثير بشكل حاسم وسريع في عملية الإدراك، والتصور، والأفكار، والشعور؛ وبالتالي في السلوك، والمهارات، والأداء الإنساني الجسدي والفكري والنفسي بصورة عامة".
هل الهندسة النفسية هي علم النفس؟ الجواب: لا. لكنها ترتبط بعلم النفس كما ترتبط الفيزياء بالكيمياء، أو الكيمياء بعلم الأحياء، ولكنها حقل جديد من المعرفة والمهارة بدأ رحلته حديثاً. نقول إن فلاناً (متفوق) في دراسته، أو في عمله، أو في وظيفته، أو في علاقاته الاجتماعية... الهندسة النفسية تساعدنا على تشخيص أسباب هذ التفوق ومعرفتها. كيف يفكر هذا الإنسان المتفوق، وكيف يتصور الأشياء، وكيف يتذكر الأشياء، هل يتحدث إلى نفسه، وماذا يتحدث إلى نفسه، وماذا يشعر به، وكيف يشعر به... من هذه المعلومات يمكننا إيجاد( نموذج)، أو استخلاص قواعد أصول وأنماط نستطيع معها أن ( نصنع) التفوق لدى أشخاص آخرين. فالهندسة النفسية تنظر إلى قضية النجاح والتفوق على أنها الهندسة النفسية تقول: إنه ليس هناك حظ بل هناك نتيجة، وليست هناك صدفة بل هناك أسباب ومسببات.
يقول المفكرون، والقادة والمصلحون، ورجال التربية، إنه يجب على الإنسان أن يكون مثابراً، مجداً، صبوراً، متقناً لعمله، منظماً لوقته، ...إلى آخر القائمة الطويلة من مفردات (الجودة). ولكنهم لم يقولوا كيف يمكن للإنسان أن يفعل ذلك. علم النفس لا يهتم بالإجابة على هذا السؤال. أما الهندسة النفسية فتجيب عليه. وإذا حصلت مشكلة نفسية فإن علم النفس يهتم بمضمون المشكلة أو القضية. إذ إن أول سؤال يسأله هو: ما هي المشكلة؟ أما الهندسة النفسية فلا تهتم بالمضمون بل تهتم بالإطار والشكل والهيكل. أي تهتم بكيفية حصول المشكلة وليس بالمشكلة ذاتها. فعندما يأتي شخص في حالة اكتئاب مثلاً، فإن علم النفس يسأله: لماذا أنت مكتئب؟ أما الهندسة النفسية فلا تسأل عن سبب الاكتئاب وإنما تسأل: كيف تولدت حالة الاكتئاب. وهي كمن يسأل كيف سرقت الحقيبة ولا يهمه ما بداخلها!
المفضلات