عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 33
حول سوسيولوجية التربية
مدخــــــــل:إن سوسيولوجية التربية علم من علوم التربية، حديث العهد بمؤسساتنا التكوينية. إلا أن هذا الموضوع تثار حوله نقاشات كثيرة، فهناك أولا مشكل التسمية،
فهل نتحدث عن سوسيولوجية التربية أم يجب أن نتحدث عن سوسيولوجية المؤسسة ( أي المدرسة ). إلا أن مبررات هذه التسميات في أدبيات علوم التربية عندنا، لا زالت غامضة، تحتاج إلى مزيد من البحث والنقاش، إذا ما حصل تنسيق بين المهتمين بعلوم التربية. ثم هناك من جهة أخرى، مشكل تحديد مجالات هذا الموضوع، وكيفية انتقاء أهمها حسب متطلبات سنة التكوين، حصصا ومنهاجا، إلى جانب مواصفات المكوَّن والمكوِّن.
إن قابلية التربية أو المؤسسة التربوية للملاحظة السوسيولوجية، أصبحت من القضايا الأساسية التي تشغل المهتمين بهذا الميدان، بحيث انكبت الدراسات السوسيولوجية على البحث والتنقيب عن الأدوار والخلفيات الإيديولوجية التي تقوم بها التربية أو المؤسسات التربوية داخل المجتمع. فمنذ دوركهايم و كارل منهايم، تأسس الحضور الفعلي للسوسيولوجية في الفعل التربوي، بل يمكن القول بأن السوسيولوجية لعبت دورا أساسيا في الكشف عن مرامي وأهداف المؤسسات التربوية، وعن أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد أفادت سوسيولوجية التربية، المهتمين والدارسين وكذا العاملين في الحقل التربوي، من خلال الأبحاث الميدانية والتنظيرية التي قامت بها، من أن المؤسسة المدرسية في عموميتها، مؤسسة اجتماعية تخضع بشكل جدلي لتوجيهات المجتمع ولأهدافه التربويةة، بل أبعد من ذلك، فهي مؤسسة إيديولوجية بامتياز، بحيث تعمل على قولبة الناشئة حسب رغبات الطبقة المسيطرة.
· مفهوم سوسيولوجية التربية
لقد عرف روني أوبير سوسيولوجية التربية على أنها " الدراسة المقارنة لشروط عمل مختلف الأنظمة المدرسية وأشكال تكيفها مع الظروف العامة للبيئة الاجتماعية وأوجه إسهامها في الحفاظ على هذه البيئة الاجتماعية أو في تغييرها على العكس ".
وهناك تعريف آخر يرى بأن سوسيولوجية التربية هي الدراسة العلمية للتفاعل الموجود بين المدرسة والوسط الاجتماعي، فهي تقوم بتحليل المدرسة باعتبارها إنتاجا في المجتمع، وبصفتها أحد الأجهزة التي تساهم في إدامة واستمرار هذا المجتمع من جهة ثانية.
فمن خلال تحليلنا لهذين التعريفين، يتضح لنا أن هناك تجانس بينهما على مستوى الموضــــوع( المؤسسة المدرسية ). أما المنهج أو أداة التحليل، فهي مختلفة وأحيانا متناقضة، وهذا راجع بالطبع للاتجاهات البارزة في هذا المجال، والتي تختلف باختلاف مناهجها وتصوراتها وأبعادها الفلسفية والإيديولوجية.
وفي موضوعنا هذا، سنركز دراستنا على وظائف المدرسة والمقاربات السوسيولوجية لهذه الوظائف، من خلال علاقة المدرسة بالمجتمع وآلة والتنمية.
· وظائف المدرسة :
حُدِّدت وظائف المدرسة في علاقتها بالمجتمع، حسب المهتمين، إلى ثلاث أساسية، وهي : وظيفتا الحفاظية والمحافظة. وظيفتا الإعلام والتكوين. ووظيفتا التنشئة الاجتماعية والسياسية.
1. وظيفتا الحفاظية (conservatoire) والمحافظة ( conservatrice :
يذهب فيلارس Villars في تحديد وظيفة الحفاظية إلى أن المدرسة تحاول دائما نقل تراث الماضي إلى الجيل الحاضر، بتبسيطه وانتقائه، ولكنها تنفتح على الجديد والتقدم في نظامها التربوي. وهذا ما يؤكده دوركهايم حسب فيلارس حينما يقول : " إن المستقبل لا يمكن أن يتم تناوله من عدم. إننا لا نستطيع أن نبنيه إلا بواسطة أدوات تركها لنا الماضي ". إن حضور الماضي وتمثله، من الناجية النفسية، ينمي في الناشئة الشعور بالانتماء والهوية. غير أن وظيفة الحفاظية، سرعان ما تتحول إلى وظيفة المحافظة التي تتعامل مع الماضي كقيمة في حد ذاتها، وتبرر الجمود الاجتماعي والمدرسي محاولة إعادة إنتاج نفس البنيات الاجتماعية التي أنتجتها، كما سنرى ذلك، على الخصوص، عند بورديو وباسرون في مقاربة سوسيولوجية التربية.
فعبر هذه الثنائية الحفاظية ـ المحافظة، تتجسد طاقة المدرسة المتجلية في جدلية الماضي والحاضر، غير أنه كثيرا ما تكون الغلبة لأحدهما.
2. وظيفتا الإعلام والتكوين:
تقوم المدرسة بوظيفتي الإعلام والتكوين، فهي تخبر وتكوِّن. وفي هذا لا تقتصر على تقديم المعارف والمعلومات، بل تعطيها معنى ودلالة يندرج في بنية الإعلام والتكوين، أي أنها تحاول القضاء على الأمية من جهة، وتقوم بتأسيس الفكر العلمي من جهة أخرى. ومن ثمة، فهي تتراوح المعرفة (إعلام ) والفعل (تكوين) للتأثير بعمق في حياة المجتمع عبر المتعلمين. فإذا كانت وظيفة الإعلام تزوِّد المتعلم بالمعلومات ( معرفة ) فن وظيفة التكوين هي التي تؤثر في المتعلم، وعبر هذه الأخيرة يؤثر المتعلم في المعرفة.
فعبر هذه الثنائية الإعلام ـ التكوين تتجسد طاقة المدرسة المنظمة في جدلية الإعلام والتكوين، غير أنه كثيرا ما تغلِّب المدرسة وظيفة الإعلام على وظيفة التكوين ويقع التركيز على الكم على حساب الكيف، كما هو الشأن في تعليمنا حاليا.
3. وظيفتا التنشئة الاجتماعية و السياسية:
إن التربية المدرسية هي أولا وقبل كل شيء تنشئة اجتماعية أو تطبيع اجتماعي ـ سياسي، لأنها تمرر القيم والأعراف الاجتماعية (وظيفة اجتماعية)، ولأن المعارف التي تقدمها موجهة ومسكونة بإيديولوجية الفئات المسيطرة من أجل تشكيل مواطن وفق نموذج اجتماعي ـ سياسي معين (وظيفة سياسية). وهكذا تلجأ المدرسة، لتحقيق وظيفتها، إلى استعمال مفاهيم عدة حسب الظروف والمواقف. في الواقع، مفاهيم تحيلنا إلى هدف واحد هو التأثير بعمق في حياة الفرد قصد تحقيق توافقه أو تطبيعه الاجتماعي ـ السياسي، وذلك من خلال :
الرأي القائل بتوفير بيئة اجتماعية مدرسية أكثر اتزانا من البيئة الخارجية، حتى تتم عملية التطبيع الاجتماعي للمتعلم بصورة إيجابية. وأصحاب هذا الرأي المرتكز على الفردي، يعتبرون المدرسة أداة تحرر، وظيفتها الكبرى هي التغيير أو التجديد ومسايرة التقدم العلمي.
والرأي القائل بأن المدرسة مجتمعا مصغرا يستمد تنظيماته الاجتماعية وأنشطته وعلاقاته، من المجتمع الكبير، وعلى المتعلم الانصياع واحترام قوانين المدرسة وإجراءاتها وأحكامها حتى تحافظ على الأمن والنظام والسلم داخل نطاقها. وأصحاب هذا الرأي المرتكز على ما هو اجتماعي، يرون أن المدرسة هي مجرد مسرح لما يجري في المجتمع الكبير، وظيفتها إعادة إنتاج نفس البنيات الاجتماعية التي أنتجتها، أي وظيفة المحافظة والجمود.
فعبر هذه الثنائية الاجتماعي ـ السياسي تتجسد طاقة المدرسة في جدلية الفردي والاجتماعي، غير أنه كثيرا ما يطغى الجانب الاجتماعي على الجانب الفردي، فيغلب طابع المحافظة والجمود على طابع التغيير والتقدم، كما هو الشأن بالنسبة للمجتمعات المتخلفة.
· . مقاربات سوسيولوجية لعلاقة المدرسة بالمجتمع
إذا كانت هذه هي وظائف المدرسة، فإن المواقف المتخذة إزاءها مختلفة، ويمكن إجمالها في المقاربات السوسيولوجية التالية، التي تتصدى لتحليل علاقة المدرسة بالمجتمع انطلاقا من وظائفها، وهي : من جهة، هناك اتجاهان عريضان في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، يمثلان الموقف الإيديولوجي من المدرسة الرأسمالية ومعرفتها ( أي مناهج التعليم وطرائقه وأساليبه )، وهما : الاتجاه التبريري والاتجاه النقدي. ومن جهة أخرى، هناك الاتجاه الاشتراكي المرتبط بالتعليم البوليتكنيكي في المجتمعات الاشتراكية.
أ ـ الاتجاه التبريري المحض :
يختصر هذا الاتجاه مفهوم " النزعة الإنسانية "، وهو يعتبر من المدافعين عن المدرسة الرأسمالية بأبعادها المختلفة، حيث تشكل النزعة الإنسانية، بالنسبة لهذا الاتجاه، تبريرا إيديولوجيا لمجمل النشاط الثقافي والفكري الذي تنتجه المدرسة البرجوازية باعتبارها محايدة. ويرى موقف هذا الاتجاه أن المعرفة الإنسانية معطى عالمي، يجب العمل على تحويله إلى ملكية خاصة من خلال مبدأ المنافسة والاحتكار. وهو لا يعير الاهتمام إلى انعكاسات ثقافة أو معرفة المدرسة على الفئات الاجتماعية المختلفة، باعتبارها قضية اجتماعية. وقد تعرض هذا الاتجاه للانتقادات كثيرة، سنتطرق إليها في الاتجاهات التالية.
ب ـ الاتجاه النقدي : ويتراوح هذا الاتجاه بين :
1. النظرة اللبرالية التي تميز كتابات :
إيفان إيليش I. ILLICH، في كتابه " مجتمع بدون مدرسة "، حيث يوجه إيليش نقده الليبرالي للمؤسسة المدرسية والثقافة التي تبثها، من منطلق الدفاع عن القيم الإنسانية التي يقوم عليها الاتجاه الإنساني. ويرى إيليش أن المدرسة المعاصرة، بحكم احتكارها لعملية التربية على حساب المؤسسات الاجتماعية الأخرى جميعها، وبحكم مفهومها للتعليم الإلزامي، تتجه أكثر نحو تعميق الفروقات التعليمية بين المواطنين داخل المجتمع الواحد وبين الأمم. وهكذا يدعو إلى تجريد المجتمع من المدرسة، وإلى إلغاء التعليم الإلزامي، وإلى إحياء شبكات معرفية جديدة، تكون النقيض المباشر للمدارس الحالية. بهذا يكمن الحل عنده في إعادة الاعتبار لمبدأ الجهد الشخصي في التعلم عن طريق إحياء الرغبة الشخصية والعلاقات المتكافئة بين المتعلمين، وإعطاء المؤسسات الاجتماعية جميعها، قيمتها التربوية. إن أفكار إيليش في نهاية المطاف، تقتصر على تجديد المدرسة الرأسمالية الحالية، بما يتلاءم و النظرة الليبرالية للبرجوازية في نهاية القرن، والتي باتت تضيق ذرعا بالمطالب التعليمية الديمقراطية للطبقات الشعبية.
بورديو وباسرون P.BOURDIEU ET J.C. PASSERON في كتابهما " معاودة الإنتاج"، الذي يعتبر أشهر الدراسات المعارضة لفحوى النظرية الليبرالية ذات البعد الإنساني. لقد بينت هذه الدراسات أن تحليل الأنظمة التعليمية في البلدان الغربية، يدل على أن النظام التربوي يميل إلى أن يقوم بوظيفة معاودة إنتاج العلاقات القائمة في النظام العام الاقتصادي ـ السياسي ـ الاجتماعي، والمحافظة على بنية الأوضاع الراهنة في المجتمع وتعزيزها، بدلا من أن يكون عامل تغيير اجتماعي يستند على قدرات الأفراد ودافعيتهم.
2. النظرة الماركسية باجتهادات ممثليها المختلفين :
بودلو وإستابلات CH. BAUDELOT ET R. ESTABLET في كتابهما " المدرسة الرأسمالية بفرنسا". لقد تناولا الكاتبان بالتحليل، تاريخ الأشكال المدرسية، وبعض المظاهر الأساسية لوظائف المدرسة الرأسمالية الراهنة، وذلك لمعرفة الطريقة التي تسهم بها المدرسة في إعادة تقييم العمل؛ يدوي ـ عقلي، آخذة بعين الاعتبار تطور القوى المنتجة. كما برهنا على أن المدرسة الواحدة تساوي مدرسة منقسمة على نفسها، إنها تتشكل من مدرستين؛ مدرسة للأقلية البرجوازية ( الثانوي ـ العالي S. S )، ومدرسة للبروليتاريا (الابتدائي ـ المهني P. P ( يرى الكاتبان في تحليلهما أن إعادة العلاقات الاجتماعية، يتم بشكل مبكر على صعيد المدرسة الابتدائية، وهي التي تقوم عمليا، بالتقسيم إلى طبقات من خلال دورها في ما يسمى بمحو الأمية. كما يطرح الكاتبان على القراء والمهتمين، مجالات للمناقشة ولتصورات تربوية متجددة.
جورج اسنيدر G. SNYDERS ، في كتابه " المدرسة، الطبقات والصراع الطبقي " وهو عبارة عن قراءة نقدية جديدة لبودلو وإستابلات، لبورديو وباسرون، وكذا لإيليش. يناقش بعمق آراء هؤلاء وموقفهم السلبي من المدرسة في مساهمتها في التغيير الاجتماعي. ففي الحالات الثلاث جميعها، يفضي تأثيرهم على القراء والمهتمين إلى اتخاذ موقف تخاذلي، يجد لنفسه مبررا في الاعتقاد الراسخ بأن المدرسة مقضي عليها، فلا حول ولا قوة لها، وهي لا تملك بحد ذاتها أي قوة تستطيع أن تدفعها في طريق التقدم. فمن خلال نقده لهؤلاء، يريد أن يصل إلى البرهنة على أن للمدرسة درجة من الاستقلالية الخاصة بها، وأنه يمكنها أن تمثل دورا إيجابيا في تحول المجتمع. ولكي نفهم هذا الدور، لابد لنا من وضع المدرسة في إطار صراع الطبقات في المجتمع. يرى اسنيدر أنه لا يكفي أن نبرز للعيان أن المدرسة تخدم المصالح الخاصة لطبقة مسيطرة، كما يفعل بورديو وباسرون، ولا يكفي أن نعارض المدرسة البرجوازية بالمدرسة البروليتارية، كما فعل بودلو وإستابلات. فهو يتجاوز هذه التأكيدات، من ثمة يحلل كيف تشارك المدرسة في صراع الطبقات، مع أنها رهان ذلك الصراع وأداته. ففي نهاية نقده لهؤلاء، وهو يبني موقفه خطوة خطوة، وذلك بتنصيبه على التوالي" غرامشي " ضد " إيليش " و " التوسير " ضد "بورديو " و " باسرون " و " لينين " ضد " بودلو " و " إستابلات ". لذا يرى في النهاية أن المستغَلين ( بفتح الغين ) سيقبلون على الثقافة المسيطرة ذاتها، ينشدون فيها العناصر التي تلزمهم ويحولونها لصالحهم...
إزنبار جماتي V.I.JAMATI، في كتابها " سوسيولوجية المدرسة ". ترى جماتي نفس رؤية ج. اسنيدر، على ن المعرفة التي تبثها المدرسة الرأسمالية، وإن كان يقصد منها أساسا خدمة المصالح الموضوعية للفئات البرجوازية، إلا أنها يمكن أن تُستثمَر في عكس غاياتها الأساسية. بمعنى أن المعرفة كيف ما كانت، أصبحت تشكل شرطا جوهريا لعملية التغيير الاجتماعي والسياسي للذين يعانون من غُبن المدرسة وسواها.
ج ـ الاتجاه الاشتراكي :
هذا الاتجاه يقدم مفهوما جديدا للمدرسة الذي يمتاز به التعليم البوليتكنيكي في المجتمعات الاشتراكية. هذا المفهوم للمدرسة، يستقي أصوله النظرية من الماركسية. فالمناهج التعليمية، في هذا الاتجاه، تقوم على قاعدة أساسية تتمثل بالربط المحكم بين الإعداد الفكري في مجالات العلوم المختلفة، وبين العمل المنتج والمفيد اجتماعيا. أما طرائق التعليم وأساليبه، فتنطلق من المبدأ الاشتراكي القائل بأن " التربية هي العمل، تتم بواسطة العمل نفسه ". والهدف من هذا العمل عندهم هو تشكيل الوعي الجماعي والانضباط الواعي بالحياة التعاونية والقيم الاشتراكية...
فمن خلال المقارنة البسيطة بين الاتجاه الرأسمالي والاتجاه الاشتراكي، يمكن أن نتساءل؛ كيف يمكن للمدرسة الرأسمالية أن تقوم على مبادئ احترام العمل اليدوي والحياة التعاونية، إذا كانت العلاقات الأساسية في البلدان الرأسمالية، تقوم على مبادئ التنافس والاحتكار واحتقار العمل اليدوي؟
· التربية والتنمية
من المستحيل فصل التربية عن التنمية أو عزل التنمية عن التربية، فالعلاقة بينهما علاقة جدلية، فكل طرف يحدد الآخر ويتحدد به؛ فالنمو الاقتصادي يوفر الإمكانات المادية الضرورية لتعميم التعليم ونشر المعرفة العلمية بين المواطنين والسير قدما في طريق البحث العلمي الخلاق. وهذه كلها شرط أساسي من شروط النمو الاقتصادي والاجتماعي. وهل التربية في معناها العام المعاصر، غير تنمية الفكر والقدرات البشرية المنتجة ؟
إن النظر في دور التربية والتعليم في التنمية على ضوء معطيات عصر الثورة العلمية التكنولوجية، يحتم علينا الاتجاه بأنظارنا إلى المستقبل ومعالجة قضايا التربية والتعليم بنظرة الغد، لا بنظرة الأمس. لقد كانت مهمة التربية والتعليم منحصرة، إلى عهد قريب، في نقل معلومات الكبار إلى الصغار، ونقل تراث السلف إلى الخلف، ومن هنا كانت التربية تكتسي طابعا محافظا (المحافظة على استمرارية الوجود الاجتماعي والفكري، ومقاومة كل تجديد أو تغيير بشكل صريح أو ضمني ). أما اليوم، في عصر السباق نحو التقدم، فإن مهمة التربية قد أصبحت تتجه نحو بناء الغد والإعداد له.
ولعل أبرز مظاهر التخلف التي تعاني منه بلدان العالم الثالث، اليوم، هو أن التعليم فيها ما زال عاجزا عن القيام بهذه المهمة، أو أنه لا يقوم بها على الوجه المطلوب. هناك بلدان ينخر التراث، المفهوم فهما سكونيا متحجرا، تعليمها بشكل كبير، الشيء الذي يعطيه مضمونا متخلفا رجعيا، لا يتجاوب مع حاجات العصر الملحة، ولا يعمل على تغيير البنيات القائمة، بل يحافظ عليها كما هي. وإلى جانب هذا الارتباط السكوني المتحجر بالماضي الوطني وثقافته، هناك في معظم بلدان العالم الثالث، ارتباط مماثل بالثقافة الغربية التي تجاوزها الغرب نفسه أو يعمل جاهدا على تجاوزها وتخطي حدودها، تلك الثقافة الجديدة ـ القديمة التي تجتهد البلدان المتخلفة في التمسك بها على أنها ثقافة الحاضر والمستقبل، بل هناك الارتباط بمفاهيم وقيم وطنية أو مستوردة، فقدت فعاليتها وصلاحيتها التي تشد هذه البلدان إلى الماضي (ماضيها هي أو ماضي غيرها)، بألف وثاق، وتمنعها من التحرك والقفز إلى الأمام.
إن عالم الغد لا ينتظر ولا يرحم، إنه عالم لا تقبل فيه المشاكل أي حل، غير طريق العمل المتجه نحو المستقبل، حتى ولو كانت مادته مستقاة من الماضي السحيق.
إن التنمية في البلدان المتخلفة لن تحقق أهدافها، بل لن تكون تنمية حق، ما لم تُبن على التخطيط لحرق المراحل، على أساس الإعداد والدخول مباشرة في عالم الثورة العلمية التكنولوجية، هذه الثورة التي تتطلب الخبراء والفنيين المتخصصين بنسبة أعلى كثيرا، من حاجاتها إلى العمال اليدويين. إن حاجة الغد من الطاقات الفكرية أكبر وأعظم من حاجته إلى الطاقات الجسدية. وفي هذا الصدد، يقدر الباحثون أن حاجة البلدان المتقدمة المصنعة من القوّى العاملة الجسدية، لن تتجاوز 1% في نهاية هذا القرن، أما الباقي 99%، فهي كلها حاجات فكرية محض. لقد أدركت البلدان المصنعة هذه الحقيقة، ولذلك نراها توجه التربية والتعليم في بلدانها إلى غزو الفكر واستثمار العقل. ومن هنا أصبح مقياس النمو في بلد من البلدان، هو، لا ما قد يتوفر عليه هذا البلد من ثروات ودخل اقتصادي قد يكون مرتفعا وسط ركام من التخلف الفكري والعلمي والصناعي والاجتماعي ( كما هو الحال في بعض الدول المنتجة للبترول )، بل إن النمو الآن، يقاس بالمستوى العلمي والتقني والتكنولوجي الذي يتوفر عليه هذا البلد أو ذاك .
وعلى أساس ما ذكرناه، تجدر الإشارة إلى أن التربية لا يمكن أن تؤدي دورها الطلائعي في التعليم ونشر المعرفة في ميدان التحرير والتنمية، إلا إذا توافرت شروط أساسية، منها على الخصوص:
1. تعميم التعليم بين الكبار والصغار، بين الذكور والإناث.
2. الاعتماد في نشر المعرفة على اللغة القومية، دون إهمال اللغات الأخرى.
3. ربط هياكل التربية والتعليم ومؤسساته ومناهجه بتصميمات التنمية المستديمة، وبكيفية عامة، مع متطلباتها وحاجاتها المتطورة المتغيرة.
إن التخلف كل لا يتجزأ، وليس من سبيل للقضاء عليه إلا بتنمية مستديمة شاملة، والتنمية، أيضا، كل لا يتجزأ، فلا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية، بدون تعميم التعليم ومحو الأمية ونشر المعرفة العلمية على أوسع نطاق، مثلما أنه لا يمكن القيام بذلك كله إلا باللغة القومية، دون إهمال اللغات الأخرى، علما أنه لا يمكن أن نوفر له الإمكانات المادية والبشرية اللازمة، وبالتالي لا يمكن أن يتحقق له النجاح، إلا في إطار من التنمية المستديمة الشاملة، المعتمدة على تخطيط علمي محكم، يفسح المجال واسعا لمساهمة أبناء الوطن ومراقبتهم بشكل ديمقراطي حقيقي.
المصدر : مجلة المدرس
بواسطة: أحمد الخطيب
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/arabic/show_article.thtml?id=579
المفضلات