◄يؤكد الإسلام دائماً على ضرورة الارتباط الدائم بالله سبحانه، وضرورة معايشة حبه وذكره سبحانه وتعالى.. ولعلَّ الميول النفسية الشديدة هي نقطة البدء العملي.. إنها حقيقة يؤكدها كلّ من اهتموا بالنفس ودرسوها من جوانب مختلفة بل ويكفي أن نراجع وجداننا لنتأكد منها، فلما لم تتحرك ميولنا تحرّكاً مؤكداً نحو سلوك ما فإننا لن ننطلق لتأدية ذلك السلوك، وما الاقتناع الفكري النظري به إلّا وسيلة لخلق هذا الميل المؤكد.


وإذا توضحت هذه الحقيقة عدنا إلى قناعاتنا الأخلاقية التي يمكننا أن نلخصها بأنها صفات نفسية وعملية اقتنعنا بأنها تقودنا نحو الكمال، وتساءلنا كيف يمكننا أن نضمن وجود الميل النفسي المؤدي لمثل هذه الصفات الأمر الذي يضمن تأصّلها في النفس والسلوك ويجعلها ملكات اخلاقية أصيلة، ويجعل أي عمل على خلافها عملاً استثنائياً سرعان ما يستتبعه الاستغفار والرجوع إلى السبيل الصحيح..


إنّ أهم السبل التي تضمن تسديد شخصية الإنسان المؤمن هو عملية تعميق حب الله تعالى في النفس الإنسانية حباً يشرف على كلّ جوانب النفس، ويتجسد في صميمها ويصوغ كلّ عواطفها. جاء في مناجاة الإمام السجاد (ع) لله تعالى: "إلهي مَنْ ذَا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً، ومَنْ ذَا الذي آنس بقربك فابتغى عنك حولاً". وعن الإمام الحسين (ع) في دعاء عرفة: "أنتَ الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك). وقال (ع): "يا من أذاق أحباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملقين".


إنّ حبه تعالى حين يتعمق في النفس يدفعها نحو الكمال، نحو التضحية والصدق والحب في الله والبغض في الله، ينسيها كلّ المتع الزائلة ويمنحها حرية واعية ويزهدها في كلّ شيء إلّا رضاه تعالى وإلّا ما يحقق هذا الرضا الحبيب. وحينئذٍ فقط تنتقل القناعات الإيمانية النظرية إلى السلوك الإيماني العملي، وحينئذٍ يكون الضمان الأسمى.


كيف نعمِّق حبّه تعالى في نفوسنا؟.. يمكننا بهذا الصدد أن نذكر بعض الأساليب:


وأوّلها: التلقين الواعي للنفس: فإنّه لا يكفي لكي يشتدّ الميل والحب أن نقيم الأدلة العقلية على مسألة وجوده تعالى وإنّما يحتاج الأمر لأن نذكّر أنفسنا بذلك دائماً، ونعمّق فيها مسألة الحبّ له تعالى وعشق الكمال المطلق ولزوم جعل رضاه غاية نسعى لها بكل جوارحنا وعواطفنا. ويتم هذا التذكير عبر ما مرَّ من لزوم ذكر الله كثيراً وقراءة الأدعية التي علَّمنا إياها القادة (ع) وهي تذكي المشاعر وتثير العواطف وتصوغ التوجّه الميلي النفسي نحو هذه الغاية، فحينما يقول الداعي: "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك" يتفجر عاطفة وحباً وشوقاً للقاء الله والحصول على مرضاته، وشيئاً فشيئاً تملأ الروعة الإلهية كلّ الجوانب.


وثانيها: التأمل في النعم الإلهية الكبرى التي تغمر الإنسان، فلا يخلو جانب من حياته من تجلّ لهذه النعم، ولا يستطيع أن يحصي قسطاً صغيراً منها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34). إنّ التأمل في هذا الكون العريض، وهذا المحيط المهيأ لسعادة الإنسان، وهذه النعم في نفس الإنسان، وهذه الهدايات المختلفة واللطف المتنوع ليبعث في الإنسان حباً شديداً لله تعالى كحالة طبيعية جُبلَ عليها، هذا الغرض أي الغرض العاطفي نجده إلى جنب الهدف الإقناعي ملحوظاً في الآيات القرآنية الشريفة الكثيرة التي تذكر أنماط النِعَم الإلهيّة في مختلف المناسبات وتتحدث عن مختلف النعم.


وثالثها: التأمل بل التفاعل مع حياة القادة "الرسول (ص) وأهل البيت – عليهم السلام – والصحابة الواعين وكلّ من تبعوهم بإحسان وبصيرة" فإنّ هذا التأمُّل الواعي ومن ثمّ التفاعل الإيجابي وتمثّل تلك الحياة المخلصة التي عاشوها ليترك أثره البالغ في صياغة العواطف والأحاسيس لدينا.. عبر حالة طبيعية أيضاً جبل عليها الإنسان وهي حالة التمثل بالكامل وحبه والتعلق به.


أمّا الرابع: فهو الإكثار من الأعمال المقرَّبة إلى الله، فإن حب الله من أروع سبل الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69)، وإنّ التقدم إلى الله خطوة يستتبعها منّ إلهي بخطوات (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3). و"مَن أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"، وحب الله تعالى لطف وتعلّق يقذفه الله في قلوب المؤمنين لكي (يحبهم ويحبونه) فيتبعون بذلك كمالهم وعلاءهم.


وعليه، فلكي نحقق الشخصية الإسلامية الأصيلة يجب أن نحقق الانسجام الكامل بين الفكر والعواطف والسلوك. ولكي نحقق الانسجام بينها يجب تركيز حب الله تعالى وهو الكمال المطلق في النفس. ولكي نركّز هذا الحب علينا أن نعيش التلقين الواعي لأنفسنا، وعلينا التأمل في النعم الإلهية وتذكّرها دائماً، وعلينا التأمل والتفاعل مع حياة العظماء والأولياء، وعلينا أخيراً الإكثار من الأعمال المقرّبة والمستحبة لكي يمنّ الله تعالى علينا بحبه والتعلّق الكامل به.►