السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أما بعد فقد قرأت مقال الأستاذ وهبي الألباني المنشور في عدد جمادى الأولى سنة 1381 هـ من مجلة التمدن الإسلامي الزاهرة ، في الرد على الأستاذ محمود مهدي استانبولي في مسألة تحديد المهور ، فرأيته قال فيه ما نصه:
” لقد قرر الأستاذ محمود مهدي أن قصة اقتراح عمر -رضي الله تعالى عنه- ترك التغالى في المهور هى خبر ضعيف ، لا يصح الاعتماد عليه ، مع أن الخبر قد صححه ابن كثير الذى ذكر الخبر في تفسيره فقال : قال الحافظ أبو يعلى ( بسنده إلى مسروق ) قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال : أيها الناس ! ما إكثاركم في صداق النساء ، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والصداقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم ، قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين ! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ؟ قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأين ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : ( … واءتيتم إحداهن قنطارا … ) الآية ، فقال : اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر ، فقال : أيها الناس إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقاتهم على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ، قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل . إسناده جيد قوي ” ابن كثير ج 1 ص 467 “.
ومن الطبيعي من مثلي أن لا يدخل في نزاع جديد بين الطرفين المختلفين في قصة التحديد المذكور ، لأن للاجتهاد في ذلك مساغاً واسعاً ، ولكل رأيه ، لا سيما وهو يشبه من ناحية مسألة تحديد الأسعار التي قال بها بعض العلماء ، مع توارد الأحاديث في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبى أن يسعر للناس حين طلبوا ذلك منه ، وقال : ” إن الله هو المسعر . . . ” فإذا قال الأستاذ محمود بتحديد المهور ، وافترض أنه لم يسبق إليه ، فقد سبق إلى مثله ، بل وإلى ما هو أولى بالمنع منه ، وهو تحديد الأسعار عند من يمنع من تحديد المهور ، كالأستاذ وهبي ، فهل يقول بذلك ، هذا ما لا نظنه به ، ولذلك فإني ما كنت أود منه أن لا يشنع عليه في الرد ذلك التشنيع الذي يشعر الآخرين بأنه إنما حمله عليه التعصب المذهبي . . .
هذا مع علم الأستاذ وهبي -فيما أظن- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صيام يوم الجمعة وقوله -صلى الله عليه وسلم- : ” لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ” ومع ذلك ، لم نسمع من الأستاذ وهبي ولا من غيره كلمة واحدة في إنكار هذه المخالفة الصريحة للسنة الصحيحة !
قلت : إنني لا أريد الدخول في نزاع جديد في المسألة ، وانما الذي أريد بيانه في هذه الكلمة ، هو بيان ضعف مستند الأستاذ وهبي في تصحيح قصة المرأة تقليداً منه للحافظ ابن كثير ، وأنا وإن كنت أعذر الأستاذ وهبي في هذا التقليد ( ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) فإني في الوقت نفسه ألفت نظره إلى أن التقليد ليس علماً باتفاق العلماء ، فلا يصلح إذن اتخاذه حجة للرد على المخالفين .
وهأنذا : أشرع الآن في بيان ضعف ذلك ، مستنداً فيه إلى القواعد الحديثية فأقول :
إن هذا الخبر الذي نقله الأستاذ عن الحافظ ابن كثير يتضمن أمرين:
الأول : نهي عمر عن الزيادة في مهور النساء على أربعمائة درهم .
والآخر : اعتراض المرأة عليه في ذلك وتذكيرها إياه بالآية .
إذا تبين ذلك . فباستطاعتنا الآن أن نقول :
أما الأمر الأول فلا شك في صحته عن عمر رضي الله عنه ، لوروده عنه من طرق ، ولا بأس من ذكرها لما لذلك من فائدة هامة ستتبين للقاريء الكريم فيما بعد :
1- عن أبي العجفاء قال :
” خطبنا عمر رحمه الله فقال : ألا لا تغلوا بصدق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ما أصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية ” زاد في رواية : ” وان الرجل ليغالي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت لكم علق القربة “(1) .
أخرجه أبو داود (2106) والنسائي (2/ 87-88) والترمذي (1/ 308) والدارمي (2/141 ) وابن ماجة (1887 ) والحاكم (2/ 175-176 ) والبيهقي (7/231) والطيالسي (رقم 64) وأحمد (1/ 40 و 48) وقال الترمذي : ” حديث حسن صحيح ” . وقال الحاكم : ” صحيح الإسناد ” ووافقه الذهبي .
قلت : وهو كما قالوا ، فإن رجاله ثقات رجال الشيخين ، غير أبي العجفاء ، واسمه هرم ، وهو ثقة كما قال ابن معين والدارقطني وغيرهما ، وقد توبع كما يأتي ، وقد سمعه منه ابن سيرين كما في رواية أحمد .
2- عن ابن عباس قال :
قال عمر : لا تغالوا بمهور النساء . وذكر الحديث . رواه الحاكم .
3- عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس فقال : يا أيها الناس لا تغالوا مهر النساء . الحديث . رواه الحاكم .
4- عن شريح قال : قال عمر بن الخطاب : فذكره .
5- عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام على منبره فحمد الله وأثنى عليه فقال : فذكره .
أخرجه الحاكم وقال :
” فقد تواترت الأسانيد الصحيحة بصحة خطبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( بذلك ) ، وهذا الباب لي مجموع في جزء كبير ” . ووافقه الذهبي .
قلت : وهذه الطرق جميعها ليس فيها قصة المرأة ومعارضتها لعمر ، وفي ذلك تنبيه لأهل العلم إلى احتمال ضعفها لشذوذ أو نكارة فلننظر في سندها إذن لنتبين مبلغ صحة هذا الاحتمال :
لقد ساق الحافظ ابن كثير إسناد أبي يعلى بتمامه من طريق ” ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الرحمن عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال ” . فذكره ، وقد اختصر إسناده الأستاذ وهبي فلم يحسن .
قلت : وفي هذا السند علل:
1- ضعف مجالد بن سعيد ، ولا أريد أن أطيل على القراء بذكر أقوال العلماء في تضعيفه ، وانما أقتصر على ذكر قول حافظين من الحفاظ المتأخرين المحيطين بأقوال المتقدمين ، وهما الحافظ الذهبي والحافظ العسقلاني ، فقال الأول في ” الميزان ” : ” فيه لين ” . وقال الحافظ العسقلاني في ” التقريب ” : ” ليس بالقوي ، وقد تغير فى آخر عمره ” .
2- الاختلاف في سنده ، فقد رواه ابن إسحاق عن مجالد عن الشعبي عن مسروق ، كما تقدم ، وخالفه هشيم فقال : حدثنا مجالد عن الشعبي قال : خطب عمر بن الخطاب . . .
أخرجه البيهقي (7 / 233) وقال :
” هذا منقطع ” .
قلت : وذلك لأن الشعبي واسمه عامر ين شراحيل لم يسمع من عمر وادخال ابن إسحاق بينهما مسروقاً مما لا يطمئن القلب له ، لتفرد ابن إسحاق به ، وقد علم كل مشتغل بهذا الفن أن في تفرده نكارة ، قال الذهبي في خاتمة ترجمته : ” حسن الحديث ، صالح الحال ، صدوق ، وما انفرد به ، ففيه نكارة ، فإن في حفظه شيئاً ” .
قلت : وقد خالفه هشيم ، وهو ثقة ثبت كما في ” التقريب ” وهو قد أرسله ، فروايته هي المعتمدة .
ومما سبق يتبين أن في إسناد هذه القصة علتين :
ضعف مجالد ، والانقطاع .
وإذا كان الأمر كذلك ، فقول الحافظ ابن كثير :
” إسناده جيد قوي “(2) . غير قوي ، بل هو سهو منه -رحمه الله- لا يجوز لمن يبين له أن يقلده ، لا سيما مع إعلال الحافظ البيهقي إياه بالانقطاع .
وإذا تبين هذا التحقيق للقاريء الكريم ، وتذكر أن خطبة عمر هذه وردت عنه من خمسة طرق ، ليس فيها قصة المرأة ، عرف حينئذ أنها ضعيفة منكرة لا تصح .
ومما يؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي من طريق بكر بن عبد الله المزني قال : قال عمر بن الخطاب ” لقد خرجت وأنا أريد أن أنهي عن كثرة مهور النساء حتى قرأت هذه الآية : ( وءاتيتم إحداهن قنطارا ) “.
وقال البيهقي :
” هذا مرسل جيد ” .
قلت : وهو أصح ، من مرسل ابن إسحاق ، لأن رجاله كلهم ثقات ، وهو بظاهره يبطل قصة المرأة ، لأنه يدل على أن تراجع عمر -رضي الله عنه- عما هم به من النهي إنما كان بقراءته الآية قبيل خروجه إلى الناس ، بينما القصة تقول : إن تراجعه إنما كان بعد خروجه وتذكير المرأة إياه بالآية .
وعلى كل حال ، فهذان المرسلان لا يصحان لإرسالهما وللتعارض الذي بينهما ، ومخالفتهما لسائر طرق الحديث عن عمر ، التي أطبقت على أن عمر نهى عن التغالي في المهور ، ولم تذكر أنه رجع عن ذلك .
وليس في نهي عمر عن ذلك ما ينافي السنة حتى يتراجع عنه ، بل فيها ما يشهد ، فقد صح عن أبي هريرة قال :
” جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : إني تزوجت امرأة من الأنصار ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ” هل نظرت إليها فإن في عيون الأنصار شيئاً ؟ ” ، قال : قد نظرت إليها ، قال : ” على كم تزوجتها ؟ ” قال أربع أواق ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : ” على أربع أواق ؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ” رواه مسلم .
وإذا تبين أن نهي عمر رضي الله عنه عن التغالي في المهور موافق للسنة ، وحينئذ يمكن أن نقول : إن في القصة نكارة أخرى تدل على بطلانها ، وذلك أن نهيه ليس فيه ما يخالف الآية ، حتى يتسنى للمرأة أن تعترض عليه ، ويسلم هو لها ذلك ، لأن له -رضي الله عنه- أن يجيبها على اعتراضها -لو صح- بمثل قوله : لا منافاة بين نهيي وبين الآية من وجهين.
الأول : أن نهيي موافق للسنة ، وليس هو من باب التحريم بل التنزيه .
الآخر : أن الآية وردت في المرأة التي يريد الزوج أن يطلقها ، وكان قدر لها مهراً ، فلا يجوز له أن يأخذ منه شيئاً دون رضاها ، مهما كان كثيراً ، فقد قال تعالى : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) فالآية وردت في وجوب المحافظة على صداق المرأة وعدم الاعتداء عليه ، والحديث وما في معناه ونهي عمر جاء لتطيف المهر وعدم التغالي فيه ، وذلك لا ينافي بوجه من الوجوه عدم الاعتداء على المهر بحكم أنه صار حقاً لها بمحض اختيار الرجل ، فإذا خالف هو ، ووافق على المهر الغالي فهو المسؤول عن ذلك دون غيره .
وبعد : فهذا وجه انشرح له صدري لبيان نكارة القصة من حيث متنها ، فإن وافق ذلك الحق ، فالفضل لله ، والحمد له على توفيقه ، وإن كان خطأ ، ففيما قدمنا من الأدلة على بيان ضعفها من جهة إسنادها كفاية ، والله سبحانه وتعالى هو الهادي .
محمد ناصر الدين الألباني
دمشق
6 / 7 / 1381 هـ
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي (28 / 514 – 519)
1) أي تحملت لأجلك كل شئ ، حتى علق القربة وهو حبلها الذي تعلق به.
2) وتبعه السيوطي في ” الدرر المنثور ” ( 2 / 133 ).
















للشيخ الالباني رحمه الله