الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه
من أنار الله تعالى له سوطه
نشأ رضي الله عنه بين أسرة عريقة وكريمة، وهو من قبيلة دوس التي لها مكانتها بين العرب، وقد أوتي موهبة الشعر، فطار بين القبائل صيته ونبوغه، وفي مواسم عكاظ كان الشعراء يلتقون من أماكن شتى ليتباهون بشعرائهم، وكان الطفيل رضي الله عنه يأخذ مكانه في الطليعة في قبيلته دوس، ولقد حاول كثيرا سادات قريش أن يمنعوه من ملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يدخل في دينه فيسخر طاقته الشعرية في خدمة الاسلام، ولنترك الطفيل يحدثنا عن ذلك بنفسه فيقول:
فو الله ما زالوا بي حتى عزمت على ألا أسمع منه شيئا، ولا ألقاه، وحين غدوت الى الكعبة حشوت أذناي كرسف كي لا أسمع شيا من قوله اذا تحدّث، وهناك وجدته قائما يصلي، فقمت قريبا منه، فأبى الله الا أن يسمعني بعض ما يقرأ، فسمعت كلاما حسنا، وقلت في نفسي: ولم لا أسمع منه، فان كان الذي ياتي به حسن قبلته، وان كان قبيحا رفضته، وبقيت استمع اليه حتى اذ انصرف الى بيته ودخله تبعته وقلت له: يا محمد(صلى الله عليه وسلم) انّ قومك قد حدّثوني عنك كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفوني أمرك حتى سددت أذنياي بكرسف كيلا أسمع قولك، ولكن شاء الله أن أسمع، فسمعت قولا حسنا، فأعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الاسلام وتلا عليّ من القرآن، فأسلمت وشهت شهادة الحق ، وقلت يا رسول الله! اني امرؤ مطاع في قومي، واني راجع اليهم وداعيهم الى الاسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، تكون عونا لي فيما أدعوهم اليه، فدعا صلى الله عليه وسلم:اللهم اجعل له آية
.
فخرج على قومه حتى اذا أتى ثنية (طلعة، تلة) تشرف على قريته وقع بين عينيه نور كنضو ء المصباح، فسأل الله تعالى أن يكون في غير وجهه، فتحول النور الى رأس سوطه الذي يجمله، مما جعل الناظرين اليه يتراؤون ذلك النور القادم اليهم من رأس السوط كالقنديل المعلق وهو هابط اليهم من الثنية، حتى اذا جاءهم وحدّثهم بأمر هذا النور المعجزة دخل عدد كبير منهم في دين الله تعالى.
وأول من أسلم من أهله والديه فغمر الاسلام بيته وسرعان ما انتقل نور الاسلام الى عشيرته، ومن ثم الى قومه على أثر دعوة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عندما أتاه وقال له: يا نبي الله انه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله أن يهلك دوس، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفيه الى السماء ودعا دعاء أذهل الطفيل رضي الله عنه حين قال صلى الله عليه وسلم،
اللهم اهد دوس، وأت بهم مسلمين، ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم الى الطفيل وقال: ارجع الى قومك فادعهم وارفق بهم
.
عاد الطفيل رضي الله عنه الى قومه تنفيذا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهناك راح يدعو قومه الى الاسلام في أناة وحلم ورفق.
وخلال تلك الفترة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر الى المدينة، وكانت غزوة بدر قد وقعت، وتلتها أحد والخندق، وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عائدا من خيبر بعد أن منّ الله على المسلمين بفتحها، واذ هو أمام موكب حافل مهيب يضم ثمانين أسرة من دوس كلهم أقبلوا اليه صلى الله عليه وسلم يبايعونه على الاسلام.
ويوم فتح مكة كان الطفيل رضي الله عنه يدخلها مع المسلمين ومعه عشرة آلاف مسلم جميعهم يحنون جباههم في خضوع وخشوع واذلال لجلال وجه الله وعظيم سلطانه ان أثابهم الله فتحا قريبا ونصرا مبينا.
استشهاده
رضي الله عنه
في معركة اليمامة ضد الطاغية مسيلمة الكذاب، كان استشهاده، حيث وهو في طريقه الى ساحة المعركة رأى رؤيا فحدّث بها أصحابه فقال:
رأيت رأسي قد حلق، وطائرا خرج من فمي، وامرأة أدخلتني بطنها، وابني عمرو جعل يطلبني حثيثا لكن حيل بيني وبينه، فقالوا له: خير انشاء الله، فقال رضي الله عنه: نعم انه خير، وأنا والله قد عرفت رؤياي: أما حلق رأسي فذلك أنه سيقطع، وأما الطائر الذي خرج من فمي فهي روحي، وأما المرأة التي أدخلتني بطنها فهي الأرض التي ستواري جثماني، وأما طلب ابني فهو يطلب الشهادة التي سأحظى بها انشاء الله.
وصدقت رؤيا الطفيل رضي الله عنه، فدخل المعركة لا ليدافع بسيفه عن حياته كما يفعل عادة المقاتلون، وانما ليدافع بحياته عن سيفه يرنو نحو الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى، حتى اذا سقط شهيدا، بقي السيف سليما مرهفا لتضرب به يد أخرى لم يسقط صاحبها بعد، ولم يزل يقاتل حتى أثخنته الجراح ووقعت كفه اليمنى ، يستل سيف أبيه بعدما استشهد رضي الله عنه، ويعود ابنه عمرو رضي الله عنه الى المدينة تاركا أباه وكفه اليمنى في ساحة الوغى على أرض اليمامة، وأمد الله بعمره رضي الله عنه حتى الى عهد عمر رضي الله عنه، وكان قد هيأ نفسه لخوض معركة اليرموك بالشام وعندما دخل على أصحابه رضي الله عنهم قالوا له: والله ما في القوم أحد بعضه في الجنة الا أنت يا عمرو، ويقصدون كفه اليمنى التي قطعت في معركة اليمامة.
وخاض معركة اليرموك في الشام واستشهد فيها، وكان رضي الله عنه وهو يجود بنفسه يبسط ذراعه اليمنى ويفتح كفه كما لو كان سيصافح بها احدا، ومن يدري لعله ساعتئذ كان يصافح روح أبيه دون أن يشعر به أحد.
فرضي الله عن الطفيل وابنه عمرو وصلى الله وسلم وبارك على من رباهما.