جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير كله من عند ربه جاء بالرسالة السمحاء لكل البشر فمنهم من آمن على الفور لأنه كان ينتظرها ويعلم بأنبائها، ومنهم من تأخر إلا أن الله أنار له بصيرته وأعمل عقله وقارن بين الرسالة الإسلامية وبين عبادة الوثنية فهداه الله بعد طول تفكير وصار من أعظم الرجال نشراً للإسلام، ومن هؤلاء الرجال خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي أبو سليمان .



نشأ خالد في أسرة شديدة الثراء وفي أشرف بيت من بيوت مكة، فأبوه الوليد بن المغيرة سيد قومه وهو الوحيد الذي كان يكسو الكعبة وحده عاما ويكسوها أهل مكة جميعهم عاما آخر وكان له من الألقاب “ريحانة قريش”، وهو الذي وصف القرآن بوصف إلى الآن يستعمله المسلمون ويتذكرونه، حيث قال واصفاً القرآن: “إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه”، فلما سمع أهل قريش ذلك قالوا له: وهل صبأت؟ وعند ذلك انطفأ نور الإيمان من قلبه لأن الكبر قد قتله فأنزل الله فيه قرآنا وهو قول الله تبارك وتعالى: “ذرني ومن خلقت وحيداً * وجعلت له مالا ممدوداً* وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر” (المدثر: 11 26) .


عاش خالد في رحلات دائمة من تجارة إلى معرفة الطرق دون أن يكون معه دليل، إضافة إلى ولائه لمشركي قريش وكل ذلك أخّر إسلامه حتى وازن بعقله الراجح بين الإسلام والشرك فأضاء الله قلبه وشرح صدره للإسلام فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطق الشهادتين فوجد المحبة من رسول الله وأصحابه .


انسحاب يساوي نصراً


كان خالد مؤهلاً للقيادة الحربية بكل ما لها وما عليها فقد أجاد جميع الفنون القتالية في الحرب وكذلك جميع الفنون في السلم فيقدم حيث يتحتم عليه الإقدام ويتأخر حيث يتحتم عليه التأخر، وقد حارب المشركين والمرتدين والفرس والروم وفتح البلاد لإخراج أهلها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد . ويرى بعض المؤرخين أن أهم غزوة غزاها خالد هي غزوة مؤتة بالرغم من أنه انسحب بجيش الإسلام، فلقد تولى خالد بن الوليد قيادة جيش المسلمين في غزوة مؤتة بعد استشهاد قادته الثلاثة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة بغير إرادة في ذلك، وكانت هذه أول غزوة يغزوها في الإسلام، وكان عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف مسلم وجيش الروم مائتي ألف جندي، وكان المسلمون بعيدين عن ديارهم وليس لهم مدد والروم بالقرب من ديارهم والمدد ينتظرهم في أي لحظة، وهنا تظهر العبقرية الحربية لخالد والخطة التي حول بها الانسحاب إلى نصر، فلقد قاتل خالد مع جيش المسلمين قتالاً شديداً حتى أقبل الليل ويذكر ابن سعد في طبقاته وابن حجر في “الإصابة” أن خالدا أراد أن يدخل الرعب والفزع في قلوب الروم وأن يضعف روحهم المعنوية فلجأ إلى حيلة في الليل، حيث جعل مؤخرة الجيش في المقدمة والميمنة في الميسرة والميسرة في الميمنة وأرسل جنوداً إلى بعيد وأمرهم بأن يأتوا مكبرين ثم يرسل غيرهم فيأتون مكبرين وهكذا الليل بطوله ليوهم الأعداء أن مدداً كبيراً جاء للقائهم فلما أصبح الصباح على الفريقين واصطف الجيشان أمام بعضهما إذا بالروم والغساسنة الذين حالفوهم يرون وجوها غير التي كانوا يحاربونها وأعلاماً غير الأعلام ففزعت قلوبهم وأصابهم الرعب وذلك لأنهم عرفوا قوة المسلمين في القتال وأنهم لم يستطيعوا هزيمة ثلاثة آلاف مقاتل وهم مائتا ألف جندي فكيف وقد جاء المدد للمسلمين؟ وقد اختار خالد بن الوليد القائد المظفر مائة رجل يقاتلون معه، بينما أمر الجيش كله بالانسحاب في ظلام الليل وظل يقاتل حتى انكسرت في يده تسعة سيوف ثم تظاهر بالانسحاب وأوهمهم أنه يسوقهم إلى كمين وهم يعرفون خدع خالد في الحرب فتأخروا عنه وخافوا من مطاردته وذلك الذي كان يريده خالد فلحق بجيشه المنسحب بمن بقى معه وساروا نحو المدينة فلم يستشهد سوى اثني عشر مسلماً من الجيش كان على رأسهم القادة الثلاثة وهذا يعتبر لطمة لجيش الروم والغساسنة مع عدده الهائل، وكان ذلك دافعاً لكثير من القبائل المترددة للدخول في الإسلام، ومانعاً للقبائل الأخرى من مهاجمته بعدما سمعوا عما حدث لجيوش الروم مع كثرة عددها .


ويتوالى جهاد خالد حتى تأتي موقعة اليرموك التي أحرز فيها المسلمون بقيادة خالد نصراً مؤزراً على جيش الروم الذي تجاوز تعداده مائتي ألف مقاتل، ويواصل خالد جهاده ويستقر في حمص من بلاد الشام فلما جاءه الموت، وشعر بدنو أجله، قال: “لقد شهدت مائة معركة أو زهاءها، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء” . وكانت وفاته سنة إحدى وعشرين من الهجرة فرضي الله عن أبي سليمان الذي حقن دماء المسلمين في مؤتة وحافظ عليهم