باب الصدق

رواية رياض الصالحين



57 ـ عن أبي ثابت ، وقيل : أبي سعيد ، وقيل :

أبــي الوليد ســهل بــن حنيــف ، وهــو بـدري

رضــي الله عنــه ، أن النبــي صلـى الله عليــه

وسلـم قـال : (( مـن ســأل الله تعـالــى الشهادة

بِــصِــدقٍ بلَّغَــه الله منــازل الشـهــداء ، وإن

مـات علــى فــراشــه ))[ رواه مســــلـم ] .




رواية مسلم

قال مسلـم فـي صحيحـه : حَدَّثَنِـي أَبُـو الطَّاهِـرِ،

وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى ، - وَاللَّـفْظُ لِحَرْمَلَةَ - قَــالَ

أَبُـو الطَّـاهِــرِ أَخْبَـرَنَـا وَقَـالَ ، حَـرْمَلَـةُ حَـدَّثَنَـا

عَبْـدُ اللَّهِ بْـنُ وَهْـبٍ ، حَدَّثَنِـي أَبُـو شُرَيْـحٍ ، أَنَّ

سَهْـلَ بْـنَ أَبِـي أُمَـامَـةَ بْـنِ سَهْـلِ ، بْـنِ حُنَيْـفٍ

حَــدَّثَـهُ عَــنْ أَبِيـهِ ، عَــنْ جَــدِّهِ ، أَنَّ الـنَّبِــيَّ

صلـى الله عليـه وسـلـم قَــالَ : ‏"‏ مَـنْ سَــأَلَ

اللَّهَ الشَّــهَــادَةَ بِـصِـــدْقٍ بَــلَّغَـهُ اللَّهُ مَـنَــازِلَ

الشُّـهَـدَاءِ وَإِنْ مَــاتَ عَلَــى فِـرَاشِـــهِ ‏"‏

صحيح مسلم / كتاب الإمارة

باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى





الشرح




شرح رياض الصالحين للشيخ ابن العثيمين

هذا الحديث ذكره المؤلف رحمه الله ـ في باب

الصدق ، والشاهد منـه قوله : (( مـن سـأل الله

تعالى الشهـادة بـصدق )) . والشهـادة مـرتبـة

عـاليـة بعد الصدِّيقيَّة ، كـمـا قـال الله سبحانـه :

﴿ وَمَـنْ يُطِـعِ اللَّهَ وَالرَّسُـولَ فَأُولَئِـكَ مَـعَ الَّذِيـنَ

أَنْــعَـمَ اللَّهُ عَلَـيْهِـمْ مِـنَ النَّـبِيِّيـنَ وَالصِّـدِّيـقِيـنَ

وَالشُّــهَـدَاءِ وَالصَّـالِحِيــنَ ﴾ [النســاء : 69]

وهي أنواع كثيرة منهـا :

الشهــادة بأحكــام الله عـز وجـل علـى عباد

الله ، وهــذه شـهـادة العـلمــاء التـي قــال

الله فيهــا : ﴿ شَهِـدَ اللَّهُ أَنَّـهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُـوَ

وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران : 18] .

وقد ذهب كثير من العلماء في تفسير قولـه :

﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ إلـى أنهـم العلمــاء ولا شــك أن

العلمـاء شهداء ، فيشهـدون بـأن الله تـعالــى

أرسـل رسـولـه محمـد صلـى الله عليـه وسـلم

بالهدى ودين الحق، ويَشْهَـدون علـى الأمـة

بأنها بلغت شريعـة الله ، ويشهدون في أحكام

الله : هـذا حـلال ، وهذا حـرام ، وهـذا واجـب ،

وهـذا مستـحب ، وهـذا مـكـره ، ولا يـعـرف

هــذا إلا أهــل العـلم ؛ لـذلـك كـانـوا شـهـداء .

ومن الشهـداء أيضـا : من يُصـاب بالطـعن

والبطــن والحـرق والغــرق : المطعــون

والمبطون والحريق والغريق وما أشـبههم.

ومـن الشهداء : الذيـن قتلـوا فـي سبيـل الله .

ومـن الشهداء : الذيـن يُقتلون دون أمـوالهم

ودون أنفسهم ، كما قال النبي ـ عليه الصلاة

والسلام ـ حينما سأله رجل وقال : ((أرأيت

يا رسول الله إن جـاءنـي رجـل يـطلب مالـي

ـ أي عنوة ـ قـال : (( لا تعطه مـالك ، قـال :

أرأيت إن قاتَلَني ؟ قال : قاتِله ، قال أرأيت إن

قَتَلْتُه ؟ قال : هو في النار ـ لأنه معتدٍ ظالم ـ

قـال : أرأيت إن قتلني ؟ قـال : فأنت شهيـد

قـال : أرأيت إن قتلته ؟ قـال : هو فـي النار )).

وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (( من قُتل

دون دمه فهو شهيد ، ومن قُتل دون أهله فهو

شهيد ، ومـن قُتل دون مالـه فهـو شهيـد )) .

ومـن الشهـداء أيـضا : مـن قُتل ظلما ، كـأن

يـعتـدي عليــه إنســــان فـيقتـله غـيــلـة

ـ ظلمــا ـ فــهذا أيضًــا شهيــــد .

ولكن أعلى الشهداء هم الذين يقتلون في

سبيل الله ؛ كما قال تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ

الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ

عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا

آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ

لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ

وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ

بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ

أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران 169ـ171] ،

هؤلاء الشهداء فـي الآية هـم : الذيـن قاتـلـوا

لتكون كلمة الله هي العليا ، فما قاتلوا لحظوظ

أنفسهم ، وما قاتلوا لأموالهم ، وإنما قاتلوالتكون

كلمة الله هي العليا ، كما قال ذلك النبي ـ عليه

الصـلاة والسلام ـ حيـن سُئِـلَ عـن الرجـل

يقاتل شجاعة ويقاتل حميَّة ويقاتل ليرى مكانه،

أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال : (( من قاتل لتكون

كلمة الله هـي العليا فهو فـي سبيـل الله )).

هذا الميزان ميزانٌ عدل ، لا يخيس ميزان

وضعه النبـي صلى الله عليـه وسلم يـزن

الإنســــان بـه عملــه .

فمن قاتل لهذه الكلمة فهو في سبيل الله ، إن

قتلت فأنت شهيد ، وإن غنمت فأنت سعيد ، كما

قال الله سبحانه : ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى

الْحُسْنَيَيْنِ﴾ إمـا الشهادة وإمـا الظفر والنصـر.

﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ

عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾[التوبة:52] ، أي : إما أن الله

يعذبكــم ، ويــقينا شركم ، كـما فعل الله تعالــى

بالأحزاب الذين تجمعوا على المدينة يريدون قتال

الرسول عليه الصلاة والسلام ، فأرسل الله عليهم

ريحا وجنودا وألقى في قلوبهم الرعب ، ﴿ أَوْ

بِأَيْدِينَا ﴾ كمــا حصـل في بدر ، فــإن الله عــذب

المشركين بأيدي الرسول صلى الله عليه وسلم

وأصحابه ، هذا الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي

العليا هو الشهيد .

فإذا سأل الإنسان ربه وقال : اللهم إني أسألك

الشهادة في سبيلك ـ ولا تكون الشهادة إلا بالقتال

لتكون كلمة الله هي العليا ـ فإن الله تعالى إذا عَلِمَ

منـه صــدق القــول والنية أنزلــه منــازل

الشهـداء ، وإن مــات علـى فـراشــه .

بقي علينا الذي يُقاتل دفاعًا عن بلده :

هل هو في سبيل الله أو لا ؟

نقول : إن كنت تقاتل دفاعا عن بلدك لأنها

بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها

بلد إسلامي فهذا في سبيل الله ، لأنك قاتلت

لتكون كلمـة الله هـي العليـا .

إما إذا قاتلت من أجل أنها وطن فقط فهذا ليس

في سبيل الله ؛ لأن الميزان الذي وَضَعَهُ النبي ـ

عليه الصلاة والسلام ـ لا ينطبق عليه من قاتل

لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، وما

سوى ذلك فليس في سبيل الله ، ولهذا يجب أن

نصحح للإنسان نيته في القتال للدفاع عن بلده ،

بأن ينوي بذلك بأن يقاتل عن هذا البلد لأنه بلد

إسلامي فيريد أن يحفظ الإسلام الذي فيه ، وبهذا

يكون إذا قتل شهيدا له أجر الشهداء ، وإذا غنم

صار سعيدًا وربح ، إما ربح الدنيا وإما ربح

الآخرة ، وقد وتقدم الكلام على هذه المسألة .