عن أبي سِروعة ـ بكسر السين المهملة

وفتحها ـ عقبة بن الحارث رضي الله

عنه قال : صليت وراء النبي صلى الله عليه

وسلم بالمدينة العصر ، فسلم ثم

قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس

إلى بعض حُجَر نسائه ، ففزع الناس

من سرعته ، فخرج عليهم ، فرأى

أنهم قد عجبوا من سرعته ،

قال : ( ذكرت شيئاً من تبر عندنا ، فكرهت

أن يحبسني ، فأمرت بقسمته )
رواه البخاري


رواية البخاري


عن عقبة قال :

صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم

بالمدينة العصر ، فسلم ثم قام مسرعاً

فتخطى رقاب الناس إلى بعض

حجر نسائه ، ففزع الناس من سرعته ،

فخرج عليهم ، فرأى أنهم عجبوا

من سرعته ، قال :

( ذكرت شيئاً من تبر عندنا ، فكرهت أن

يحبسني ، فأمرت بقسمته )

صحيح البخاري /10-كتاب الأذان /158
- باب من صلى بالناس فذكر
حاجة فتخطاهم / حديث رقم : 851



الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن عقبة بن

الحارث رضي الله عنه ؛ أنه صلى مع النبي صلى

الله عليه وسلم ذات يوم صلاة العصر ، فقام

النبي صلى الله عليه وسلم حين أنصرف من صلاته
مسرعاً ؛ يتخطي رقاب الناس على بعض
حجرات زوجاته ، ثم خرج فرأى الناس قد عجبوا
من ذلك ، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم
سبب هذا، وقال ( ذكرت شيئاً من تبر عندنا )
يعني مما تحب قسمته ( فكرهت أن يحبسني
فأمرت بقسمته ).

ففي هذا الحديث المبادرة إلى فعل الخير ، وألا
يتوانى الإنسان عن فعله ، وذلك لأن الإنسان
لا يدري متى يفاجئه الموت ؛ فيفوته الخير ،
والإنسان ينبغي أن يكون كيساً ، يعمل لما
بعد الموت ولا يتهاون ، وإذا كان الإنسان
في أمور دنياه يكون مسرعاً ، وينتهز
الفرص ، فإن الواجب عليه في أمور أخراه
أن يكون كذلك بل أولى ، قال الله تعالى :
( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ
الْأُولَى (18)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)
(الأعلى:16-19).

وفي هذا الحديث دليل على أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أسرع الناس مبادرة إلى
الخير ، أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ محتاج
إلى العمل ؛ كما أن غيره محتاج إلى العمل ؛
ولهذا لما حدث فقال : ( إنه لن يدخل الجنة
أحد بعمله ) ، قالوا : لا أنت ؟ قال :
( ولا أنا إلا أن يتغمد ني الله برحمته )(1) ،
هذا هو النبي عليه الصلاة والسلام .

وفي هذا الحديث دليل على جواز تخطي الرقاب بعد السلام من الصلاة ، ولا سيما إذا كان لحاجة ،
وذلك لأن الناس بعد السلام من الصلاة ليسوا
في حاجة إلى أن يبقوا في أماكنهم ، بل لهم
الانصراف ، بخلاف تخطي الرقاب قبل الصلاة ،
فإن ذلك منهي عنه ؛ لأنه إيذاء للناس ،
ولهذا قطع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته
يوم الجمعة حين رأى رجلاً يتخطى الرقاب ،
فقال له : ( أجلس فقد آذيت )(2) .

وفي هذا الحديث دليل على أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ـ كغيره من البشر ـ يلحقه النسيان ،
وأنه ينسى كما ينسى غيره ، وإذا كان صلى الله عليه
وسلم ينسى ما كان معلوماً عنده من قبل ، فإنه
كذلك من باب أولى يجهل ما لم يكن معلوماً
عنده من قبل ،
كما قال الله له ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ
اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ )
(الأنعام:50)
فأمره الله أن يعلن للملأ أنه ليس عنده خزائن
الله ؛ وأنه لا يعلم الغيب ، وأنه ليس بملك
صلوات الله وسلامه عليه .

وفي هذا قطع السبيل على من يلتجئون إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم في مهماتهم
وملماتهم ، ويدعونه ، فإن هؤلاء من
أعدائه وليسوا من أوليائه ؛ لأنه ـ عليه الصلاة
والسلام ـ لو كان حياً لاستتابهم ، فإن
تابوا وإلا قتلهم ؛ لأنهم مشركون ،
فإن الإنسان لا يجوز أن يدعو غير الله عز
وجل ؛ لا ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً ،
وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما
جاء لحماية التوحيد وتحقيق عبادة الله ، فالنبي
صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب ، وينسى
ما كان قد علم من قبل ،
ويحتاج إلى الأكل والشرب واللباس والوقاية
من الأعداء ، وقد ظاهر ـ بين درعين في
غزوة أحد ـ يعني لبس درعين ـ خوفاً من
السلاح . فهو كغيره من البشر ، جميع
الأحكام البشرية تلحقه عليه الصلاة والسلام ؛
ولهذا قال الله له :
( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ )
(الكهف: 110) ،
فتأمل وصفه بأنه بشر مثلكم ، لو لم يقل (مِثْلُكُمْ )
لكفى ، يعني إذا قال : إنما أنا بشر علمنا
بطريق القياس أنه بشر كالبشر لكن
قال (مِثْلُكُمْ ) لا أتميز عليكم بشيءٍ إلا بالوحي ،
( يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ ) الآية .

وفي هذا الحديث أيضاً دليل على شدة الأمانة
وعظمها ، وأن الإنسان إذا لم يبادر بأدائها
فإنها قد تحبسه ،
ولهذا قال : ( فكرهت أن يحبسني )، وإذا كان
هذا في الأمانة ،
فكذلك أيضاً في الدين ؛ يجب على الإنسان أن
يبادر بقضاء دينه إذا كان حالاً ، إلا
أن يسمح له صاحب الدين فلا بأس
أن يؤخر ، أما إذا كان لم يسمح له ؛ فإنه يجب
عليه المبادرة لأدائه ن حتى إن العلماء ـ رحمهم
الله ـ قالوا : إن فريضة الحج تسقط على من
عليه الدين ؛ حتى يؤديه ؛ لأن الدين أمره
عظيم ، كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ
قبل أن يفتح الله عليه الفتوح ؛ إذا جيء
إليه بالرجل سأل : ( هل عليه دين ؟)
فإن قالوا : لا ، تقدم وصلى عليه ، وإن قالوا
نعم ، سأل :
( هل له وفاء ؟) فإن قالوا : نعم ، تقدم وصلى ،
وإن قالوا : لا، تأخر ولم يصل .
يترك الصلاة على الميت إذا كان عليه دين .
فقدم إليه ذات يوم رجل من الأنصار ، ليصلي عليه ، فخطا خطوات ، ثم قال : ( هل عليه دين ؟ )
قالوا : نعم يا رسول
الله : ثلاثة دنانير وليس لها وفاء ، فتأخر وقال :
( صلوا على صاحبكم ) فعرف ذلك في
وجوه القوم ، تغيرت وجوههم ، كيف
لم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام ؟!
فتقدم أبو قتادة رضي الله عنه ، وقال
يا رسول الله ، علي دينه ، فتقدم النبي صلى
الله عليه وسلم فصلى عليه(3) .

ومع الأسف ؛ الآن تجد كثيراً من الناس عليه
الدين ؛وهو قادر على الوفاء ، ولكنه يماطل
والعياذ بالله ،
وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ،
أنه قال : ( مطل الغني ظلم ) (4)

واعلم أن الدين ليس كما يفهمه
الناس ؛ هو الذي يأخذ سلعة بثمن أكثر من ثمنها ،
الدين كل ما ثبت في الذمة ، فهو دين حتى
القرض ـ السلف ـ حتى إيجار البيت ،
حتى أجرة السيارة ، أي شيءٍ يثبت في
ذمتك فهو دين ؛ عليك أن تبادر بوفائه
ما دام حالاً .

وفي هذا الحديث أيضاً دليل على جواز التوكيل
في قسم ما يجب على الإنسان قسمته؛
ولهذا قال : ( فأمرت بقسمته ) فأمر ـ
عليه الصلاة والسلام ـ أن يقسم ، وهذا التوكيل
جائز في كل حق تدخله النيابة من حقوق الله ؛
كالحج مثلاً ، وأداء الزكاة ، وحقوق الآدميين ؛
كالبيع ، والشراء ، والرهن ، وما أشبهها .

وخلاصة هذا الحديث : هو المبادرة إلى فعل
الخيرات ، وعدم التهاون في ذلك ، واعلم
أنك إذا عودت نفسك على التهاون
اعتادت عليه وإذا عودتها على الحزم والفعل
والمبادرة اعتادت عليه .
وأسال الله ـ تعالى ـ أن يعينني وإياكم
على ذكره ، وشكره ، وحسن عبادته .

* * *
1
أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب القصد والمداومة
على العمل ، رقم (6463) ،
ومسلم ، كتاب صفة القيامة ، باب لن يدخل أحد
الجنة بعمله ...، رقم (2816) .

2
- أخرجه أبو داود ، كتاب الصلاة ، باب تخطي
رقاب الناس يوم الجمعة ،
رقم (1118) والنسائي كتاب الجمعة ، باب النهي عن
تخطي رقاب الناس ... ، رقم (1399) وصححه الألباني
وابن حبان في صحيحه رقم (572- موارد ) .

3
- أخرجه البخاري ، كتاب الحوالة ، باب أن أحال
دين الميت على رجل جاز رقم (2289)

4
- أخرجه البخاري ، كتاب الحوالة ، باب الحوالة وهل
يرجع في الحوالة ؟ رقم (2287) ،
ومسلم ، كتاب المساقاة ، باب تحريم مطل الغني رقم (1564)