من آثار هجر القرآن:
هذا التعامل الشَّكليّ مع القرآن أدى إلى عدم الانتفاع الحقيقي به، فماذا كانت النتيجة؟! توقفت المعجزة القرآنية-أو كادت- في إحداث التغيير الحقيقي في النفوس، لتزداد الفجوة بين الواجب والواقع، والقول والفعل... تغيرت اهتماماتنا، وازداد حُبُّنا للدنيا وتعَلُّقنا بها، فجَرَتْ علينا سنة الله عز وجل:{ذلك بأنَّ اللهَ لم يَكُ مُغيِّرًا نِعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميعٌ عليم}[الأنفال: 53]. وانطبق حالُنا مع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال:"يوشكُ الأُمَمُ أن تَداعَى عليكم كما تداعى الأكَلةُ إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال:"بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغثاء السَّيْل، ولينزعَنَّ اللهُ من صدورِ عدوكم المهابةَ منكم، وليقذفَنَّ الله في قلوبكم الوَهَن"، فقال قائل: يا رسول الله؛ وما الوهن؟ قال:"حب الدينا وكراهية الموت"[السلسلة الصحيحة، ح(958)].

ضرورة العودة إلى القرآن:
من هنا يتضح لنا أنه قد آن أوان العودة الحقيقية إلى القرآن؛ فنُقْبِل على مأدبته، ونُعطي له وجوهَنا، ونتركُ له أنفسَنا. آن الأوان لكي نبدأ عملية التغيير الحقيقية في ذواتنا، حتى يتحقق موعود الله لنا، كما قال تعالى:{إن اللهَ لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}[الرعد: 11]. ولْنعْلم جميعًا أن أي بدايةٍ أخرى تتجاوز القرآن لن تأتي بالثمار المطلوبة، ولِمَ لا والقرآن هو الدواء الرباني الذي أنزله الله عز وجل لِيَشْفَى به الإنسان من أمراضه، ويعيد به العافيةَ إلى قلبه. قال تعالى:{يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهُدًى ورحمةٌ للمؤمنين}[يونس: 57].

كيف ننتفع بالقرآن؟
مما لا شك فيه أن من يُقبِل على القرآن مستشعرًا أنه خِطابٌ من الله عز وجل مُوَجَّهٌ إليه، يحمل في طياته مفاتيح سعادته في الدنيا والآخرة، وأنه القادر-بإذن الله- على تغييره مهما كان حاله... لا شك أن هذا الشخص لا يحتاج إلى من يَدُلُّه على وسائل تعينه على الانتفاع بالقرآن؛ لأنه بهذا الشعور قد أصبح مُهَيّئًا للتغيير الذي يقوم به القرآن.
أما وإنه من الصعب علينا في البداية أن نكون كذلك بسبب ما ورثناه من أشكال التعامل الخاطئ مع القرآن، مما جعل هناك حاجزًا نفسيًا بيننا وبينه يمنعنا من الانتفاع الحقيقي به، أما والأمر كذلك فإن عودتنا إلى القرآن تحتاج إلى وسائل سهلةٍ وعمليةٍ ومحددةٍ، تعين صاحبَها على إدارة وجهِهِ للقرآن، والإقبال على مأدبته، والدخول إلى عالمه ومصنعه بصورة متدرجة. ومِن أهم الوسائل التي تحقق هذا الغرض:
1- الانشغال بالقرآن.
2- تهيئة الجو المناسب.
3- القراءة المتأنية.
4- التركيز عند القراءة.
5- التجاوب مع الآيات.
6- أن نجعل المعنى هو المقصود.
7- ترديد الآية التي تؤثر في القلب.

أولاً: الانشغال بالقرآن:
بمعنى أن يصبح القرآنُ هو شغلنا الشاغل، ومحور اهتمامنا، وأولى أولوياتنا. ولكي يكون القرآن كذلك لا بد من المداومة اليومية على تلاوته مهما تكن الظروف، وأن نعمل على تفريغ أكبر وقت له، فالتغيير القرآني تغييرٌ بطيءٌ، هادئٌ، متدرجٌ، ولكي يؤتي ثماره لا بد من استمرارية التعامل معه، وألا نسمح بمرور يومٍ دون أن يكون هناك لقاءٌ به. ولْنعلَم جميعًا أنه على قدر ما سنعطي القرآنَ سيعطينا، فمن استطاع أن يجعل له في يومه عدة لقاءات معه فقد حاز قصب السَّبق.

ثانيًا: تهيئة الجو المناسب:
لكي يقوم القرآنُ بعمله في التغيير لا بد من تهيئة الظروف المناسبة لاستقباله، ومن ذلك وجودُ مكانٍ هادئ، بعيد عن الضوضاء، يتِمُّ فيه لقاؤنا به، فالمكان الهادئ يعين على التركيز وحسن الفهم وسرعة التجاوب مع القراءة، ويسمح لنا كذلك بالتعبير عن مشاعرنا إذا ما اسْتُثيرت بالبكاء والدعاء. ومع وجود المكان الهادئ علينا أن يكون لقاؤنا بالقرآن في وقت النشاط والتركيز، لا في وقت التعب والرغبة في النوم، ولا ننسَ الوضوء والسواك.

ثالثًا: القراءة المتأنية:
علينا ونحن نقرأ القرآن أن تكون قراءتنا متأنية، هادئة، مُتَرَسِّلة، وهذا يستدعي مِنا سلامة النطق وحسن الترتيل، كما قال تعالى:{ورتل القرآن ترتيلا}[المزمل: 4]. وعلى الواحد منا ألا يكون هَمُّه عند القراءة نهايةَ السورة، ولا ينبغي أن تدفعنا الرغبة في ختم القرآن أكثر من مرة، في شهر رمضان مثلاً، إلى سرعة القراءة، فلقد ختمنا القرآنَ قبل ذلك في رمضان عدة مرات، فماذا فعل بنا؟! وماذا غيَّر فينا؟! ولْيَكُن تنافسنا مع أقراننا حول المعاني الإيمانية المستخرجة من الآيات، لا في كَمِّ القراءة.

رابعًا: التركيز مع القراءة:
نريد أن نقرأ القرآنَ كما نقرأ أي كتاب؛ فعندما نشْرع في قراءة كتابٍ أو مجلةٍ أو جريدةٍ فإننا نعقل ما نقرؤه، وإذا ما سَرحْنا في موضعٍ من المواضع عُدْنا بأعينِنا إلى الوراء، وأعَدْنا قراءةَ ما فات على عقولنا، وما دفعَنا إلى ذلك إلا لنفهمَ المرادَ من الكلام. وهذا ما نريده مع القرآن: أن نقرأه بحضور ذهنٍ، فإذا ما سرحنا في وقتٍ من الأوقات علينا أن نعيد الآيات التي شردت الأذهان عنها. نعم-في البداية- سنجد صعوبةً في تطبيق هذه الوسيلة بسبب تعوُّدِنا على التعامل مع القرآن كألفاظٍ مجردة من معانيها، ولكن بالمداومة والمثابرة سنعتاد- بمشيئة الله- القراءةَ بتركيزٍ وبدون سرحان.

خامسًا: التجاوب مع القراءة:
القرآنُ خِطابٌ مباشِر من الله عز وجل لجميع البشر؛ لي، ولك، ولغيرنا. هذا الخطاب يشمل-ضمن ما يشمل-: أسئلةً وأجوبةً، ووعدًا ووعيدًا، وأوامرَ ونواهٍ؛ فعلينا أن نتجاوب مع الخطاب القرآني، بالرد على أسئلته، وتنفيذ أوامره بالتسبيح أو الحمد أو الاستغفار، والسجود عند مواضع السجود، والتأمين على الدعاء، والاستعاذة من النار، وسؤال الجنة... ولقد كان هذا من هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام. ولعل القيام بهذه الوسيلة يساعدنا على زيادة التركيز عند القراءة، وعدم السرحان.

سادسًا: أن نجعل المعنى هو المقصود:
البعضُ منا عندما يشْرع في تدبر القرآن تجدْه يقفُ مُتَمَعِّنًا عند كل لفظ فيه، مما يجعلُ التدبرَ عمليةً شاقةً عليه، وما يلبث أن يمَلَّ فيعود أدراجه إلى الطريقة القديمة في القراءة دون فهمٍ ولا تدبر، فكيف لنا إذن أن نقرأ القرآنَ بتدبرٍ وسلاسةٍ في نفس الوقت؟!
الطريقة السهلة لتحقيق هذين الأمرين معًا هو أن نأخذ المعنى الإجمالي للآية، وعندما نجدُ بعضَ الألفاظِ التي لا نعرف معناها؛ فعلينا أن نتعرف على المعنى من السياق، كمَن يقرأ مقالاً باللغة الإنجليزية مثلاً، ولا يعرف معنى بعض الكلمات، فإنه يفهم المعنى الإجمالي من السياق. وهذا ما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:"إن القرآن لم ينزل يُكذِّب بعضُه بعضًا، بل يُصدِّق بعضُه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فرُدُّوه إلى عالمه"[حديثٌ حسن، رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه]، وبهذه الطريقة تصبح قراءة القرآن بتدبرٍ سهلةً وميسرةً للجميع.
وليس معنى هذا عدم النظر في كتب التفسير ومعاني الكلمات، فمما لا شك فيه أن للتفسير دورًا كبيرًا في حسن الفهم، وله أيضًا دورٌ أساسيٌ في معرفة الأحكام الشرعية، والتي لا ينبغي علينا أن نستنبطها بمفردنا من القرآن، فتاريخ الأمة الإسلامية يشهدُ بانحرافِ الكثير ممن استنبط بمفرده الأحكام الشرعية من القرآن، دون أن يكون مؤهلاً لذلك، مثل الخوارج وغيرهم. ومع هذا الدور العظيم للتفسير إلا أنه ينبغي أن يكون له وقته الخاص به، والغير مرتبط بوقت القراءة، فنحن لا نريد أن نخرج من لقائِنا بالقرآن بزيادة الفهم فقط، ولكن نريد القلبَ الحي كذلك، وهذا يحتاج إلى اللقاء المباشر مع القرآن، والسماح بقوة تأثيره أن تنساب داخِلَنا وتتصاعد من خلال الاستمرار في القراءة، والاسترسال مع الآيات، والتجاوب معها.

سابعًا: ترديد الآيةِ التي تؤثر في القلب:
وهذه من أهم الوسائل المعينة على سرعة الانتفاع بالقرآن، فالوسائل السابقة مع أهميتها القصوى إلا أنها-في النهاية- تخاطب العقلَ الذي يُعَدُّ محلاً للعلم والمعرفة، أما الإيمان فمحله القلب. والقلب هو مجموع العواطف والمشاعر داخل الإنسان، وعلى قَدْر الإيمان فيه تكون الأعمال الصالحة التي تقوم بها الجوارح. معنى ذلك أنّ الإيمان عاطفةٌ ومشاعر، وأنَّ لحظات التجاوب والانفعال التي نشعر بها في دعائنا أو صلاتنا أو قراءتنا للقرآن تؤدي إلى زيادة الإيمان في قلوبنا.