عضو نشيط
- معدل تقييم المستوى
- 32
مقاصد الشريعة الإسلامية
مقاصد الشريعة الإسلامية
أ. أحمد إدريس عبده(*)
المقاصد هي الغايات والأسرار التي وضعها الشارع في كل حكم من أحكامها لأجل تحقيقها لمصلحة العباد.
إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع: لا يشك أحد في أن كل شريعة شرعت في أحكامها ترمي إلى مقاصد أرادها مشرعها الحكيم تعالى، إذ قد ثبت بالأدلة القطعية أن الله تعالى لا يخلق الأشياء عبثا، دل على ذلك صنعه في الخلقة كما أنبأنا عنه قوله: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق وقوله: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا.
ومن أعظم ما اشتمل عليه خلق الإنسان خلق قبوله التمدن وأعظمه وضع الشرائع لهن وما أرسل الله الرسل وأنزل الشرائع إلا لإقامة نظام البشر قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فالشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث ليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.
وشريعة الإسلام هي أعظم الشرائع وأقومها كما دل عليه قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام بصيغة الحصر المستعمل في المبالغة، وأيضا وجدنا أن الله تعالى قد وصف الكتب المنزلة قبل القرآن بأوصاف الهدى وسماها دينا وشرائع، ومن ذلك قوله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ثم قال: وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ثم قال: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لـما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه فعلمنا كون القرآن أفضل الشرائع والهدى و أعلاه لأنه وصفه بوصفين:
أولا: تصديق ما بين يديه من الكتاب: أي تقرير ما جاء به التوراة والإنجيل من التشريع الذي لم ينسخه القرآن.
ثانيا:كونه مهيمنا على ما بين يديه من الكتاب: وذلك فيما نسخ من أحكام التوراة والإنجيل، وفيما جاء به من أصول الشريعة التي خلا منها التوراة والإنجيل، فالقرآن مهيمن أي قيم وشاهد على الكتب السالفة.
فالشرائع كلها وبخاصة شريعة الإسلام جاءت لصلاح البشر في العاجل والآجل أي في حاضر الأمور وعواقبها، فالتكاليف الشرعية حتى تلك التي فيها ما قد يبدو فيه حرج وإضرار للمكلفين وتفويت للمصالح عليهم فإن المتدبر فيها تظهر له مصالحها في عواقب الأمور.
واستقراء أدلة كثيرة من الكتاب العزيز والسنة الصحيحة يوجب علينا اليقين لأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد.
والمقصود هنا أن للشريعة مقاصد في الجملة، أما مقاصد كل باب من أبواب الشريعة فتبحث في محلها
فإن قيل كيف يعرف ماهو مقصود الشارع مما ليس بمقصود له؟
الجواب: أن النظر بحس التقسيم العقلي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يقال:إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به، وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي، وحاصل هذا الوجه حمل ما جاء في الشريعة على الظاهر، والاقتصار عل اتباع كل معنى له أصل في الشرع، وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.
القسم الثاني: على خلاف الأول، ويتنوع إلى نوعين:
أحدهما: أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر، ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها ما يمكن أن يتمسك به ويلتمس منه معرفة مقاصد الشارع، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة، وهم الباطينية.
ثانيهما: أن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص على الإطلاق إلا بها، فإن خالف النص المعنى النظري ألغي وقدم المعنى النظري، وهذا الاتجاه إنما هو بناء على مراعاة المصالح على الإطلاق ، أو عدم الوجوب، لكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية، وهذا رأي المتعمقين في القياس المقدمين له على النصوص وهذا في طرف آخر من القسم الأول فهو مناقض له
القسم الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه و لا تناقضن وهذا الرأي هو الذي قصده أكثر العلماء الراسخين، وعليه الاعتماد في الضابط الذي يعرف به مقصد الشارع.
ما هي طرق إثبات مقاصد الشريعة؟
مما ذكرنا آنفا تبين لنا أن للشريعة مقاصد من التشريع بأدلة تفيدنا العلم بها على وجه الإجمال، فما هي الطرق التي نستطيع بها إثبات أعيان المقاصد الشرعية في مختلف التشريعات، وكيف نصل إلى الاستدلال على تعيين مقصد ما من تلك المقاصد استدلالا يجعله بعد استنباطه محل وفاق بين المتفقهين، سواء في ذلك من استنبطه أومن بلغه فيكون ذلك بابا لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين، أو التوفيق بين المختلفين من المقلدين، ونحن نذكر أهم طرق ذلك فنقول:
الطريق الأول:-وهو أعظمها- استقراء الشريعة في تصرفاتها وهو على نوعين:
الأول: استقراء الأحكام المعروفة عللها: وبالتالي الوقوف على تلك العلل، فإن باستقراء العلل حصول العلم بمقاصد الشريعة بسهولة. لأننا إذا استقرأنا عللا كثيرة متماثلة في كونها ضابطا لحكمة متحدة أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة فنجزم بأنها مقصد شرعي.
مثال ذلك: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالرطب فقال: ((أينقص الرطب إذا جف؟)): قيل نعم قال: ((فلا إذن)). فأشار إلى علة النهي فعلمنا أن العلة في تحريم بيع الرطب بالتمر هي الجهل بمقدار أحد العوضين وهو الرطب منهما المبيع باليابس.
وفهمنا نفس العلة من النهي عن بيع الجزاف بالمكيل عن طريق الاستنباط.
وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أخدع في البيوع، فقال له الرسول: ((إذا بايعت فقل لا خلابة ولك خيار ثلاثة أيام)). فعلمنا من هذا الحديث إباحة القيام بالغبن وعلمنا أن علته نفي الخديعة بين الأمة.
فإذا علمنا هذا العلل كلها استخلصنا منها مقصدا واحدا وهو إبطال الغرر في المعاوضات فلم يبق خلاف في أن كل تعاوض اشتمل على خطر أو غرر في ثمن أو مثمن أو أجل فهو تعاوض باطل.
ومثال آخر وهو أننا نعلم النهي عن أن يخطب المسلم على خطبة مسلم، والنهي عن أن يسوم على سومه، والنهي عن أن يبيع على بيعه، ونرك أن علة ذلك هو ما فيه من التنافر والوحشة التي تنشأ عن السعي في الحرمان من منفعة مقصودة فنستخلص من ذلك مقصدا شرعيا هو دوام الأخوة بين المسلمين، فنستخدم ذلك المقصد لإثبات الجزم بانتفاء حرمة الخطبة على الخطبة والسوم بعد السوم والبيع على البيع إذا كان الخاطب الأول والسائم الأول والبائع الأول قد أعرضوا عما رغبوا فيه.
الثاني: استقراء أدلة أحكام اشتركت في غاية واحدة وباعث واحد: بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك الغاية مقصد ومراد للشارع.
مثال ذلك: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه علته طلب رواج الطعام في الأسواق، ومثاله أيضا: النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة إذا حمل على اطلاقه كما هو رأي الجمهور علته: ألا يبقى الطعام في الذمة فيفوت رواجه.
ومن هذا النوع أيضا النهي عن الاحتكار في الطعام لحديث: ((من احتكر طعاما فهو خاطئ)) علته: إقلال الطعام من الأسواق.
فبهذا الاستقراء يحصل العلم بأن رواج الطعام وتيسير تناوله مقصد من مقاصد الشريعة، فنعمد إلى هذا المقصد فنجعله أصلا فنقول: إن الرواج إنما يكون بصور من المعاوضات، والإقلال إنما يكون بصور من المعاوضات لأن الناس لا يتركون التبايع، فما عدا المعاوضات لا يخشى معه عدم رواج الطعام، ولذلك نقول تجوز الشركة، والتولية والإقالة في الطعام قبل قبضه.
الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحة الدالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال اللغوي، بحيث لا يشك في المراد منها إلا من شاء أن يدخل على نفسه شكا لا يعتد به.
ألا ترى أننا نجزم بأن معنى كتب عليكم الصيام أن الله أوجبه، ولو قال أحد إن ظاهرهذا اللفظ أن الصيام مكتوب في الورق لجاء خطأ في القول.
فالقرآن لكونه متواتر اللفظ قطعيه يحصل اليقين بنسبة ما يحتوي عليه إلى الشارع، ولكنه قد يكون ظني الدلالة، فيحتاج إلى دلالة واضحة يضعف تطرق احتمال معنى ثان إليها، فإذا انضم إلى قطعية المتن قوة ظن الدلالة تسنى لما أخذ مقصد شرعي منه يرفع الخلاف عند الجدل في الفقه
وذلك مثل ما يؤخذ من قوله تعـالى: والله لا يحب الفساد وقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقوله: ولا تزر وازرة وزر أخرى وقوله: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، وقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج. ففي كل آية من هذه الآيات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه عليه.
الطريق الثالث: السنة المتواترة: وهذا طريق لا يوجد له مثال في الغالب إلا في حالتين:
الحالة الأولى: المتواتر المعنوي: الحاصل من مشاهدة عامة الصحابة عملا من النبي صلى الله عليه وسلم فحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين، وإلى هذه الحال يرجع قسم المعلوم من الدين بالضرورة وقسم العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة، مثال هذا الأخير مشروعية الصدقة الجارية المعبر عن بعضها بالحبس (الوقف) وهذا العمل هو الذي عناه مالك -رحمه الله- حين بلغه أن شريحا يقول بعدم انعقاد الحبس ويقول: ألا حبس عن فرائض الله، فقال مالك لما سمع ذلك: رحم الله شريحا تكلم ببلاده -يعني الكوفة- ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم ، وهذه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حوائط، وينبغي للمرء ألا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا.
وأمثلة هذا العمل في العبادات كثيرة ككون خطبة العيد بعد الصلاة .
الحال الثانية: تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يستخلص من مجموعها مقصدا شرعيا.
روى البخاري عن الأزرق بن قيس قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فقام يصلي، وخلى فرسه فانطلقت الفرس ، فترك صلاته وتبعه حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل رأى فأقبل يقول: أنظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل أبو برزة فقال: "ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن منزلي متراخ فلو صليت وتركت الفرس لم آت أهلي إلى الليل" وذكر أنه صحب رسول الله فرأى من تيسيره.
فمشاهدته أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعددة استخلص منها أن من مقاصد الشريعة التيسير، فرأى أن قطع الصلاة من أجل إدراك فرسه ثم العود إلى استئناف صلاته أولى من استمراره على صلاته مع تجشم مشقة الرجوع إلى أهله راجلا.
فهذا المقصد بالنسبة إلى أبي برزة مظنون ظنا قريبا من القطع، ولكنه بالنسبة إلى غيره الذين يروى إليهم خبره، مقصد محتمل لأنه يتلقى منه على وجه التقليد وحسن الظن.
هل للعقل والفطرة والتجربة والعادات دور في تحديد وإثبات المقاصد؟
اتفق العلماء على أن مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، أم مصالح الدنيا فهل يعرف المقصد منها بطريق العقل؟
كثير ممن كتبوا في المقاصد خاصة من جاء منهم بعد الإمام الشاطبي اقتصروا في إثبات الطرق التي تعرف بها مقاصد الشارع على ما ذكرناه آنفا، وهي:
- استقراء تصرفات الشارع بنوعية كما سبق.
- النص الصريح على التعليل في الكتاب والسنة
- الاهتداء بالصحابة في فهمهم لأحكام الكتاب والسنة.
وقد تجاهل هؤلاء ما قرره السابقون قبلهم من دور العقل والفطرة والعادات في معرفة المصالح والمفاسد في حالة غياب النص، ولم يعتمدوا دور العقل إلا في حدود معينة، فالدليل العقلي عندهم لا يخرج عن كونه إعانة في طريق تحصيل الدليل السمعي، كأن يكون الدليل سمعيا ويستعان على تحقيق نتيجته بدليل عقلي، أو تركيب الدليل العقلي على الدليل السمعي كأن تكون إحدى المقدمات عقلية والباقية شرعية، أو تحقيق العقل مناط الدليل السمعي. يقول الشاطبي في ذلك: "إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل…" وفي نص آخر يقول: "الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فغنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها أو محققة لمناطها أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع، وهذا مبين في علم الكلام".
ولكنه يقول في نص ثالث: "إن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات وأكثر ما علل فيه بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني".
ويقول في نص آخر: "إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم بمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة، وإلا فكان يمكن عقلا ألا تكون كذلك، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح، فإذا كون المصلحة مصلحة هو قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبدات وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا" [انظر الموافقات: الجزء الخاص بمقاصد الشريعة]
وخلاصة القول عنده أن العقل لا يدرك الصالح والمفاسد بانفراده وإنما هو أداة لفهم ما جاء به الشرع، وتصديقه لكي تطمئن إليه النفس وقد اختصرنا النقل عن الشاطبي لأن أكثر من نهج هذا المنهج تابعون له.
أم كثير من السابقين قبلهم قد قرروا دور العقل والفطرة والعوائد والتجارب في معرفة المصالح والمفاسد في حالة غياب النص، وهؤلاء كثيرون، تكتفي بالنقل عن بعضهم يقول ابن عبد السلام في قواعد الأحكام: "ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك في معظم الشرائع إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصين المصالح المحضة ودرا المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درأ أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن… واتفق الحكماء على ذلك وكذلك الشرائع على تحريم الدماء و الأبضاع والأموال والأعراض … وإن اختلف في بعض ذلك فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان،…" إلى أن قال: "واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرأ الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظرا لهم من رب الأرباب… ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن، ولول خير بين الدرهم والفلس لاختار الدرهم… لا يقدم الصالح عن الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت".
ويقول في موضع آخر: "أما مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرة، فإذا خفي شيء من ذلك طلب من أدلته ، ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد بهثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأفعال وقبحها مع أن الله عز وجل لا يجب عليه جلب مصالح الحسن ولا درأ مفاسد القبيح…".
ويقول في موضع آخر: "ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرا المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقادا أو عرف، بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك ومثل ذلك أن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر ثم سنحت له مصلحة لم يعرف قوله فيها فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة" [راجع في النصوص المنقولة عن ابن عبد السلام كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"]
فمحل الخلاف بين الاتجاهين هو في انفراد العقل بادراك المصالح والمفاسد فيما لم يرد الشرع بتنظيمه، وهو الذي ذهب إليه بن عبد السلام من أن مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها معروفة بالضرورات وبالتجارب والعادات فيما لم يرد الشرع بتنظيمه أو ما بعضهم بالفراغ التشريعي له أهمية قصوى خاصة له أهمية قصوى خاصة بالنسبة للظروف المعاصرة التي تتسع فيها مساحة هذا الفراغ التشريعي بمعدلا ت متسارعة نتيجة التطور المذهل في أنشطة الحياة المختلفة، ولا تعارض بين الاعتماد أساسا على طرق التوصل إلى المقاصد التي حددها الشاطبي و متابعوه من حصرها في النصوص الشرعية، وبين إضافة طريقة في حالة عدم كفاية الطرق الأخرى، فهذا الذي ذهب إليه من يرى اعتماد العقل أو التجارب أو العادات لتحديد المقاصد فيما لم يرد فيه الشرع أمر مهم للغاية في عصنا هذا.
على أن المعترضين على من قالوا بالرجوع إلى العقل أو الفطرة أو التجارب في حالة عدم وجود نص أو إجماع لم يكونوا في الحقيقة ضد هذه المصادر، وإنما كانوا فيما يظهر يحاربون معركة وهمية هي معركة التحسين والتقبيح العقليين بصورتهما القديمة التي قيل فيها بأن الله تعالى يجب عليه رعاية مصالح العباد وأنه لايجوز عليه خلاف ذلك. وأيضا كانوا يخشون من الانجرار إلى القول بعدم الحاجة إلى الشريعة لأن العقل يغني عنها ولم ينكروا دور العقل جملة فإن أعمال العقل وفسح المجال له ليس فحسب مساعدا على تقدير المصالح وحفظها بل هو نفسه مصلحة من المصالح الضرورية لأن في أعماله حفظا له وحفظه أحد الضروريات المتفق عليها.
مقاصد الشريعة قطعية وظنية: الباحث في مقاصد الشريعة عليه أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي وعليه أن يحذر من التساهل والتسرع في ذلك لأن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئ أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط ففي الخطأ فيه خطأ كبير.
فعلى الباحث أن لا يعين مقصدا شرعيا إلا بعد الاستقراء لتصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه، وبعد اقتفاء آثار أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع، فإذا فعل ذلك اكتسب قوة استنباط يفهم بها مقصود الشارع.
ثم إنه بعد اضطلاع الباحث بهذا العمل العظيم لا يكون الحاصل في نفسه متساويا في اليقين بتعيين مقاصد الشريعة، لأن قوة الجزم بكون الشيء مقصدا شرعيا تتفاوت بمقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور واختفائها وذلك بسبب أن الأدلة على ذلك متفاوتة الكثرة والقلة في أنواع التشريعات بحسب سعة وضيق الزمان الذي عرض في وقت التشريع وبحسب كثرة وقلة الأحوال التي عرضت للأمة في وقت التشريع.
ألا ترى أن مسائل العبادات والآداب الشرعية أكثر أدلة وآثارا عن الشارع من مسائل المعاملات والنوازل، إذا كان معظم التشريع قبل الهجرة مقصودا على النوعين الأولين دون الثالث لأن جهل الأمة في مبدأ أمرها بمعرفة الله ورسله واليوم الآخر والعبادات على وجهها كان أعرق وأشد من جهلهم بطرائق الإنصاف في المعاملة.
وعلى هذا فالحاصل للباحث من المقاصد الشرعية قد يكون علما قطعيا أو قريبا من القطعي وقد يكون ظنيا، ولا يعتبر ما حصل للناظر من ظن ضعيف أو دونه فإذا لم يحصل له من بحثه ونظرهسوى هذا الضعيف، فليفرضه فرضا مجردا ليكون تهيئة لناظر يأتي بعده فعسى أن يكون عنده غيره الاهتداء إلى مقصد الشارع، وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك إذ قال: ((فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))
فلا يمكن أن يصل الباحث من مقاصد الشريعة إلى تعيين مقصد قطعي يقيني في جميع المسائل بل إن أعظم ما يهم المتفقهين إيجاد مجموعة من المقاصد الشرعية القطعية ليجعلوها أصولا يصار إليها في الفقه والجدل وملجأ يلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة، وأن ما يحصل من تلك القواعد هو ما نسميه علم مقاصد الشريعة.
مما تقدم ظهر أن المقاصد إما قطعية وإما ظنية:
1- المقاصد القطعية: هي ما يؤخذ من متكرر أدلة القرآن تكرارا ينفي احتمال قدر المجاز والمبالغة، نحو كون مقصد الشارع التيسير فقد قال الله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فهذا التأكيد الحاصل بقوله: ولا يريد بكــــم العسر عقب قوله: يريد الله بكم اليسر قد جعل الدلالة قريبة من النص.
ويضم إليه قوله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله: ربنا لاتحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا وقـوله: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وقـوله: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم وقوله: يريد الله أن يخفف عنكم وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) وقوله: ((عليكم من الأعمال ما تطيقون)) وقوله: ((إن هذا الدين يسر وليس بعسر)) وقوله لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: ((يسرا ولا تعسرا)) وقوله: ((إنما بعثتم ميسرين)).
فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول: إن مقاصد الشريعة التيسير لأن الأدلة المستقراة في ذلك كله عموميات متكررة وكلها قطعية النسبة إلى الشارع لأنها من القرآن وهوقطعي المتن.
2- المقاصد الظنية: أما المقاصد الظنية فتحصيلها سهل من استقراء غير كبير لتصرفات الشريعة لأن ذلك الاستقراء يكسبنا علما باصطلاح الشارع وما يراعيه في التشريع قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "إن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر وسنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة".
ومثال المقاصد الظنية القريبة من القطعي ما يؤخذ من الدليل الظني الذي يرجع أصل قطعي الدلالة مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لاضرر ولا ضرار)) فإنه داخل تحت قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر و الضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرار لتعتدوا وقوله تعالى: ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وقوله: لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده.
ومن أمثلة ذلك النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض و النهي عن الغضب والظلم وكل ماهو في المعنى إضرار وضرار ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك.
وإنما كان ذلك من قبيل الظن فإن هذه الأدلة المذكورة في رفع الضرر وإن كانت كثيرة إلا أنها أدلة جزئية، والدليل العام منها وهو قول الرسول: ((لا ضرر ولا ضرار)) وهو خبر الآحاد وليس بقطعي النقل عن الشارع لأن السنة غير المتواترة قطعية المتن كما تقدم.
واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتة بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة وبحسب خفاء الدلالة وقوتها فإن الدلالة دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظ العقول من الفساد العارض دلالة واضحة ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حد الإسكار.
وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سد ذريعة إفساد العقل حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار فتلك دلالة خفية ولذلك اختلف العلماء في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر في مساواة تحريم شرب قليل الخمر فمن غلب ظنه بذلك سوى بينهما في التحريم وإقامة الحد والتجرع به وجعل بينهما فرقا لم يسو بينهما في تلك الأمور على أن الإحتمال قيام المعارضات شواهد استقراء الفقيه أثر بينا في مقدار قوة ظنه وضعفه فكلما قل احتمال المعارض ازداد قوة الظن بالمقصد الشرعي فإن صاحب هذا المقام تلوح له شواهد عند النظر بينة لا يشذ عليه منها شيء أو أشياء قليلة أما إن قصر الاستقراء وامتد احتمال المعارض ضعف الظن بالمقصد الشرعي.
المفضلات