الصدقة الخفية تطفئ غضب الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الصدقة هي العطاء للآخر بشتى طرقه؛ العطاء من المال، والعطاء من الوقت، وحسن الاستماع، العطاء من التوجيه والتربية، العطاء من الابتسام والحنان، العطاء من إماطة الأذى عن طريق الناس أينما كان هذا الأذى؛ العطاء بمعناه الواسع الشامل، وكل هذا العطاء صدقة.

والصدقة الخفية لا يعلم بها إلا الله عز وجل، وحتى تكون الصدقة علاجا نفسيا لمن ينالها، لا تخدش كرامته، أو تثير الشعور بالصغر والنقص لديه، ولكنها تصبح مُعِينة له على سد حاجة من حاجاته، أعطيت له دون أن يدري بها أحد إلا الله، وعندئذ يحب المتصدَّق عليه المتصدِّق ويخدمه، ويرتبط المجتمع برباط الحب والتعاطف، ويتبدل شعور الحسد والحقد إلى الحب والاحترام، ويكبر في عيني المتصدق عليه هذا السلوك، وسرعان ما تهدأ نفسه، وتزداد طاقته، ويسلك سلوكا آخر حبا في الأسوة التي شاهدها، وينطلق يعمر ويعمل، ويعرف الطريق الصحيح لمعاملة الناس؛ فينضج نضوجا نافعا لنفسه وللآخرين، وينطفئ غضبه، هذا الذي كان مصاحبا له إبان المحبة، ويتبدل إلى مشاعر أخرى هي كل مشاعر الود والحب والتقدير ورد الجميل والتعفف مصداقا لقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}[البقرة: 273].

هذا هو حال المتصدق عليه، أما المتصدق فعملية الإعطاء عملية نفسية بناءة، إنه يشعر بسعادة عند العطاء، وهو يخرج من الأنانية الفردية إلى رحابة التعاون والسمو، إنه يحصن أمواله وهو يعطي بعضا منها للمحتاج؛ حتى يطفئ انفعالات عوزه وحاجته، وبذلك يكون الإنفاق صدقة على نفس المتصدق يقول الحق: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ}[البقرة: 272]، ويقول كذلك: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}[البقرة: 272].

وإذا كان هذا هو حال المتصدق؛ فإنه يعالج بهذا السلوك قلقه وخوفه وتوتره، إن إعطاء الصدقة علاج كذلك للمكتئبين الذين ضاقت عليهم صدورهم، وتأتي الصدقة في خفية تعطيهم فرحة من الأعماق وهم يسمعون ثناء ودعاء المتصدق عليه، ولننظر إلى قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة: 265].

وهكذا ترى أن التحليل النفسي لإعطاء الصدقة خفية بمعناه الواسع يطفئ التوتر والقلق والشعور بأن الإنسان غير مرغوب فيه، ويعم الرضا بين المتصدق والمتصدق عليه، إن هذا التعايش هو التعايش الذي يرضاه الحق عز وجل، ويصدق فيه الحديث: (والصدقة الخفية تطفئ غضب الرب).

فضائل وفوائد الصدقة

للصدقة فوائد وفضائل عديدة يمكن إيجازها فيما يلي:

1. أنَّها تطفئ غضب الله- سبحانه وتعالى- كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صدقة السِّر تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى) رواه الطبراني.

2. أنَّها تمحو الخطيئة وتُذهب نارها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (والصَّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النَّار) رواه الترمذي.

3. أنَّها وقاية من النار كما جاء في الصحيحين في قوله صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا النَّار ولو بشق تمرة).

4. أنَّ المتصدق في ظلِّ صدقته يوم القيامة كما في حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلُّ امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس)، الحاكم وابن حبان والإمام أحمد، وإسناده صحيح.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ من السبعة الذين يظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله: (رجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، في الصحيحين.

5. أنَّ في الصدقة دواءً للأمراض البدنية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة)، صحيح الجامع.

6. أنَّ فيها دواءً للأمراض القلبية كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمن شكا إليه قسوة قلبه: (إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم) رواه أحمد.

7. أن الله تعالى يدفع بالصدقة أنواعاً من البلاء كما في وصية يحيى -عليه السلام- لبني إسرائيل: (وآمركم بالصدقة، فإنَّ مثل ذلك رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدَّموه ليضربوا عنقه؛ فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم)، صحيح الجامع.

8. أنَّ العبد إنَّما يصل إلى حقيقة البر بالصدقة كما جاء في قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].

9. أنَّ المنفق يدعو له الملك كل يوم بخلاف الممسك، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، في الصحيحين.

10. أنَّ صاحب الصدقة يُبارك له في ماله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (ما نقصت صدقة من مال)، صحيح مسلم.

11. أنَّه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلاَّ ما تصدق به كما في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 272]، ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة- رضي الله عنها- عن الشاة التي ذبحوها ما بقي منها، قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: (بقي كلها غير كتفها)، صحيح مسلم.

12. أن الله تبارك وتعالى يُضاعف للمتصدق أجره كما في قوله عزّ وجلّ: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18]، وقوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].

13.أن صاحبها يُدعى من باب خاص من أبواب الجنة يقال له "باب الصدقة" كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم)، في الصحيحين.

14. أنّها ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض في يوم واحد إلا أوجب ذلك لصاحبه الجنة كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة) رواه مسلم.

15. أنّ فيها انشراح الصدر، وراحة القلب، وطمأنينته، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثدييهما إلى تراقيهما؛ فأما المنفق فلا ينفق إلا صبغت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع) رواه البخاري، ومن ثم فلو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

16. أن المنفق إذا كان من العلماء فهو بأفضل المنازل عند الله تبارك وتعالى كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل...) رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.

17. أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل والنهار) رواه البخاري ومسلم، فكيف إذا وفق الله عبده إلى الجمع بين ذلك كله؟!.

18. أن العبد موفٍ بالعهد الذي بينه وبين الله، ومتممٌ للصفقة التي عقدها معه متى بذل نفسه وماله في سبيل الله، يشير إلى ذلك قوله جلّ وعلا: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

19. أن الصدقة دليلٌ على صدق العبد وإيمانه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (والصدقة برهان) رواه مسلم.
</b></i>