حُقوق الإنْسَان




السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، الذي قال في محكم كتابه وهو أحكم الحاكمين ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[الإسراء:70].


أحمد الله جل وعلا الذي يعلم من خَلَق وهو اللطيف الخبير، وأُثني عليه الخير كله على أمره ونهيه، وعلى شرعه وعلى خلقه سبحانه وتعالى، فهو الذي أرشد الناس وأمرهم إلى ما فيه كمالهم وصلاحهم في دنياهم وآخرتهم.


فالحمد له جل وعلا كثيرا، كما تفضَّل علينا كثيرا.


وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.


أما بعد:


فيا أيها الإخوة: إنها لساعات مباركة؛ أنْ يتعلم من دينه ما لم يكن في علمه، أو أن يثبت في علمه ما قد يُنسيه الزمن إياه، ويتناساه مع كثرة الأمور وكثرة الشواغل، ولاشك أن هذه الشريعة شريعة الإسلام شريعة كاملة مباركة لم يأت للناس أبدا شريعة أكمل منها، جعل الله جل وعلا لكل نبي شرعة ومنهاجا، وجعل شريعة محمد عليه الصلاة والسلام شريعة كاملة صالحة ما بقي الزمان؛ يعني إلى يوم القيامة، صالحة لكل زمان ومكان، مهما تعددت الأمكنة، واختلفت الظروف، فإنَّ في شريعة الإسلام الحل لكل عويص والحفاظ على كل حق، والرِّفعة لكل ما فيه إعزاز الإنسان من حيث كونُه إنسانا، وإعزاز المسلم ورفعته لأنه حَمل رسالة التوحيد.


لهذا وجب على الجميع أن يتعرفوا إلى محاسن هذه الشريعة، وأن يعلموا من أحكامها ومقاصدها وأسرارها وما أَمرت به من الحقوق ما يبعثهم على أن يحافظوا عليها، وعلى أن يدعوا إليها، وعلى أن لا يُنصتوا لكل داع من دعاة الضلالة الذين يريدون أن يصدُّوا الناس عن الحق بأسماء وشعارات مختلفة.


فنحمد الله جل وعلا أن جعلنا من المقبلين على هذه الشريعة، المتعلمين المتأدبين بأدب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


ثم إن هذه المحاضرات التي أقيمت في هذا الجامع المبارك، التي جعل عنوانها: الحقوق الشرعية. من أهمّ ما يكون أن يتعرف عليه المؤمن، وأن يعلمه المسلم، وذلك لأن الله جل وعلا أقام السموات، وأقام الأرض على حقين:


· على أداء حقه جل وعلا.


· وعلى أداء حقوق العباد.


وكل الرسل من أولهم إلى آخرهم والكتب إنما أنزلت لبيان هذين الحقين:


حق الله جل وعلا بعبادته وحده دونما سواه، والكفر بالأنداد والطواغيت المختلفة، وطاعة رسوله الذي أمر بطاعته في ذلك الزمان والمكان.


ثم أداء الحقوق إلى الخلق.


فأنزل الله جل وعلا كتبه، وبعث رسله للقيام بهذين الأصلين، قال جل وعلا ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ﴾[الحديد:25]، وقال جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ «أتدري ما حق الله على العباد؟» فقال: الله ورسوله أعلم. قال «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً»، فإذن الحقوق التي جاءت بها الشرائع بأجمعها، وشريعة الإسلام بخصوصها، هي:


أداء حق الله جل وعلا.


وأداء حقوق الخلق؛ حقوق الإنسان، حقوق الناس.


وهذا ولا شك يتبين لك مع تأملك كتاب الله جل وعلا وسيرة وسنة النبي عليه الصلاة والسلام.


هذه الكلمة (الحقوق الشرعية) فقد مرّ معكم تفصيل الكلام عليها في عدة محاضرات من أصحاب الفضيلة المشايخ جزاهم الله عنا جميعاً خيرًا.


ومن الحقوق التي كثر في هذا الزمان التنويه بذكرها، ما يسمى:


حُقوق الإنْسَان


وهذه الكلمة التي جُعلت عنواناً لهذه المحاضرة، تتَّصل بها بحوث كثيرة، سواء منها البحوث الشرعية؛ العقدية، أو العبادية، أو القضائية، أو السياسية، أو المالية من أنواع الحقوق.


ويتصل بها أيضا من جهة أخرى ما تَنْشرُه الدول الكبرى أو الأمم المتحدة بما أسموه بحقوق الإنسان.


وهذا كما تعلمون له قصة في إنشاء هذا اللفظ؛ يعني أن لفظ حقوق الإنسان لفظ محدَث، لم يأت في الشريعة، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة، ولم ينُصَّ عليه بهذا اللفظ أهل العلم وأئمة الإسلام، ولكنه موجود في الكتاب، موجود في السنة، كما تبين لك من هذه السلسلة من الحقوق الشرعية.


لكن لما أتى هذا الزمان، وقامت الحرب العالمية الثانية، وانتصر فيها الحلفاء وانتصرت فيها أمريكا على المخالفين وقامت هيئة الأمم المتحدة، كوَّنوا نظاماً عالمياً جديداً، وكلمة (النظام العالمي الجديد) ليست وليدة ما بعد حرب الخليج، وإنما هو كلمة جاءت بمبادئها وأسسها بعد الحرب العالمية الثانية، والقُوى العظمى من الدول تأتي بهذه الكلمة إذا أرادت فرض شيء جديد على الأمم وعلى الشعوب وعلى الناس على اختلاف بلدانهم وثقافاتهم.


فبعد الحرب العالمية الثانية أرادوا وضْع نظام عالمي جديد تُمَكَّن به الدول العظمى من السيطرة على جميع الدول، والسيطرة تكون ثقافية تارة، وتكون من جهة قوة النظر والممارسة للحريات تارة، وتكون القوة من جهة التدخل في شؤون البلاد التي يريدون التدخل فيها.


فكان من جملة التنظيم العالمي الجديد أن أُعلن عام 1948م ما أسموه النداء العالمي لحقوق الإنسان، ووضعت وثيقة من هيئة الأمم المتحدة من ثلاثين مادة، ثم جرى عليها تعديلات وإضافات، هذه الوثيقة هي التي ينادى الآن بها مع ما جاء عليها من إضافات، ينادى الآن بها وتسمى حقوق الإنسان.


وحقوق الإنسان التي تنادي بها الأمم المتحدة وتنادي بها الدول الغربية، ترجع في الحقيقة إلى جهتين:


· جهة الحرية.


· وجهة المساواة بين الناس.


ومن ضمن ما جاء فيها إلغاء الرق بجميع أنواعه، واعتباره عملاً باطلاً لا يجوز إبقاؤه، وفصَّلوا في أنواع الحريات: الحرية الفردية، والحرية السياسية، والحرية المالية والمساواة، والحرية القضائية، والحقوق، والجنسيات، وفصّلوا أيضا في أمور المساواة بين الرجل والمرأة، والمساواة بين الناس، على اختلاف ألوانهم، واختلاف طبقاتهم، واختلاف دولهم، في الحقوق، وفي الممارسات، وفي اختيار البلد الذي يريد أن يعيش فيه، إلى غير ذلك من التفاصيل التي ترجع إلى أصلين عامين، وهما:


· حرية الإنسان.


· والمساواة بين الإنسان والإنسان.


ومن ضمن تلك البنود التي وردت: منع أنواع التصرفات، وتقييد حق الدولة في التعامل مع الناس.


ومن هنا دخلت الدول الغربية، ودخلت الأمم المتحدة في شؤون كثير من الدول، وفرضت عليها أشياء، وربما نشر الإعلام عن بعض الدول أشياء لأجل أنهم ما طبقوا تلك الحقوق، وربما كان التدخل أعظم بالتدخل في شؤونها وسؤالهم ماذا عندكم من تحقيق هذه الحريات وذكر الحالات الفردية؟


دخلوا أيضا في الحريات السياسية، ونادوا بالديمقراطية، وأن الشعب يحكم نفسه، وتقوم الحملات الانتخابية والبرلمانات على ما هو موجود في الدول الغربية.


ولاشك أنّ الشعوب التي ليست بذات وعي إذا أُدخلت عليها هذه المبادئ فإنه يسهل السيطرة عليها، وأن تُحكم بمن يكون [ممالئاً] للغرب، وخاصة بعد الحركات التحررية والاستقلال الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية في كثير من الدول، وعدم قبول الاستعمار بأنواعه.


للإعلان بحقوق الإنسان والنداء العام له ظروفه، وله بواعثه التي أنشأته، وله أيضاً أهدافه التي تخدم مبادئ الدول الاستعمارية الكبرى.


هذه الكلمة تُردَّد، والمسلم يجب عليه أن يكون معتزاً بدينه، وأن يكون واثقاً من أن الحق الذي يكون للإنسان فإنه يكون حقًّا عظيماً إذا كان من الله جل وعلا؛ لأنه لا أحد أعلم بالخلق وما يصلحهم من الله جل وعلا كما قال سبحانه ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك:14].


فإذن الله سبحانه وتعالى -فيما شرع- هو الذي يحفظ حق الإنسان، وهو الذي يحفظ حقوق الناس على مختلف أنواعهم.


ولهذا بحث كثيرون في هذه المسألة –مسألة حقوق الإنسان- وأثبتوا أن شريعة الإسلام، وسيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، والأحكام في الكتاب والسنة، وأفعال الخلفاء الأربعة ومن بعدهم، أنها هي أعظم وثيقة مبكِّرة لحقوق الإنسان، عالية في تنظيرها، وعالية أيضاً في تطبيقها، فقد طُبقت تطبيقاً كاملاً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وفي عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.


فكتب باحثون كُثُر في هذا الموضوع، والذين كتبوا في هذا الموضوع:


منهم من نظر نظرة ضعف إلى إعلان حقوق الإنسان من هيئة الأمم المتحدة، وأراد أن يجعل كل مادة من ذلك الإعلان لها سبْق في تاريخ الإسلام أو في شريعة الإسلام، وهذا حتى في إلغاء الرَّقيق وحتى في مساواة الرجل بالمرأة، جعلوا له مبررات، وهذا الضعف يكتنف كثيراً من الباحثين في مواجهة ما عند الغرب من اتهامات أو من إعطاء سَبْق في بعض الموضوعات، وفي بعض الحقوق والحريات ونحو ذلك. هذا نوع.


ومنهم من بحث المسألة بحثاً علمياً جيداً في مجلات وفي مقالات مختلفة، وبيَّنوا أن حقوق الإنسان المعلنة في الغرب، والمعلنة من الأمم المتحدة، منها ما الشرع جاء به، ومنها ما هو مصادم للشرع من أساسه، والله جل وعلا أمرنا أن نرجع الحكم إليه سبحانه وتعالى، فقال: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾[المائدة:49]، وقال جل وعلا:﴿إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهْ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[يوسف:40]، والحكم لله يكون في المسائل العلمية، وكذلك الحكم لله في المسائل العملية.


وهذه المحاضرة لن تَفِي بأن نذكر لك كل ما يتعلق بهذا الموضوع، لكن نقرِّب لك الموضوع، ليفهم على ضوء الأصول الشرعية فهماً لا لبس فيه، ليبين لك أن ما ينادي به الكفرة وأتباعهم من إعطاء حقوق الإنسان على ما يريده المستعمرون وما يريده أعداء الإسلام أن هذه متابعتهم في هذا الأمر ليس فيها صالح الإسلام ولا المسلمين؛ بل إن ذلك يقضي إلى التدخل في شؤون المسلمين، وصرفهم عما هم عليه من التمسك بالدين إلى أشياء يتابعون فيها الغرب، في الحريات، وفي المساواة، وفي العلاقة بين الرجل والمرأة، وفي الأمور المالية، وفي الأمور الحقوقية والسياسية إلى غير ذلك.