الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.


أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].


أيها المسلمون:
لما كان الله تعالى متصفا بالنور كان ما جاء من عنده نورا، قال سبحانه ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [المائدة: 44] وفي القرآن قال سبحانه ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174]. فمن تخلل قلبَه ذلك النور المعنوي: نور الإيمان والقرآن، استحق أن ينظر إلى وجه الله تعالى في جنة عدن، وأن يغشاه من نوره ما يزيده حسنا وبهاء.


وهذا النور المعنوي هبة من الله تعالى للمؤمنين لما علم سبحانه صلاحية قلوبهم لاستقباله والامتلاء به، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ..." رواه الترمذي وحسنه.


«فهذا هو نوره الذي أنزله إلى عباده فأحياهم به، وجعلهم يمشون به بين الناس، وأصله في قلوبهم، ثم تقوى مادته فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم... فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور وصار بإيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا... ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا بل كان نوره ظاهراً لا باطناً أُعطي نوراً ظاهراً مآله إلى الظلمة والذهاب...فذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض، ونوره في قلوب عباده المؤمنين، النور المعقول المشهود بالبصائر والقلوب، والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم كله، فهما نوران عظيمان أحدهما أعظم من الآخر، وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره... فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والإيمان ميتة، وقلب فقد منه هذا النور ميت ولا بد، لا حياة له البتة، كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه... وضرب مثلا للمنافقين فقال سبحانه ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة : 17]... فالمنافقون ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم، قلوبُهم قد صليت بحرها وأذاها وسمومها ووهجها في الدنيا فأصلاها الله تعالى يوم القيامة ناراً موقدة تطلع على الأفئدة. فهذا مثل من لم يصحبه نور الإيمان في الدنيا بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به. وهو حال المنافق عرف ثم أنكر، وأقر ثم جحد، فهو في ظلمات أصم أبكم أعمى».