النجاح من الفشل





يولد النجاح من رحم الفشل. لكن ذلك يحدث فقط للذين يتعلمون من تجاربهم وتجارب الآخرين.. فكم من مؤسسة ضلت طريقها بسبب سوء الإدارة، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك؛ لأنها لم تفكر في نواحي ضعفها لتتلافاها ولا في نواحي قوتها لتحافظ عليها وتنميها.


والجدير بالذكر أن العديد من الناجحين والأغنياء في عالم التجارة والإدارة يؤمنون بهذه القاعدة ويطبقونها. وهذا بيل غيتس الغني عن التعريف يقول في إحدى المقابلات الصحفية التي أجريت معه أنه يفضل أن يعين مديرين من شركات فاشلة لأنهم سيكونون أكثر حرصاً على النجاح، وسيستفيدون من خبرتهم في الفشل كي يتفادوه ويقودوا الشركة نحو النجاح.




سوف نستعرض فيما يلي قصص بعض الشركات العالمية التي نجحت ثم تهاوت.. لكنها عادت مرة أخرى للنهوض.. المهم أن نعرف لماذا حدث ذلك.. ونتعلم منه مع مراعاة أنها تجارب نشأت في سياق العالم الغربي الذي يختلف عن واقعنا العربي والإسلامي. غير أن إدارة المؤسسات الكبرى باتت لها قواعد عامة يتفق عليها العالم، وإن اختلفت التفاصيل باختلاف بيئة المؤسسة.
أولى قصصنا لشركة “فورد” العالمية للسيارات التي أصبحت جزءاً من التراث الإداري الشعبي؛ فقد بدأ “هنري فورد” عام 1905 من لا شيء، وبعد 15 عاماً أصبح صاحب أكبر شركة سيارات في العالم وأكثرها ربحاً في جميع أنحاء العالم، ووصلت أرباحه آنذاك إلى مليار دولار. لكن الشركة تحولت في عام 1927 إلى خراب، وظلت تخسر لمدة 20 عاماً، حتى باتت خلال الحرب العالمية الثانية غير قادرة على المنافسة.




في عام 1944 تولى “هنري فورد” الحفيد إدارة الشركة، وكان في السادسة والعشرين من عمره ولا يملك التدريب أو الخبرة الكافية، وبعد عامين قام بحركة انقلاب سريع أطاح بأصدقاء جده المخلصين، وأدخل فريقاً إدارياً جديداً وأنقذ الشركة، ووضعها في مصاف الشركات القوية في عالم السيارات.




السؤال إذن: لماذا فشل فورد الجد بعد نجاحه؟ هذه هي الأسباب:


1- اعتقاده بأن الشركة لا تحتاج إلى مديرين وإدارة، إنما تحتاج إلى مالك ومنظم للعمل لديه مجموعة من المساعدين. والفارق بين الحالتين كبير؛ لأنه حينما تملك وتدير كل شركاتك بنفسك دون تفويض المسؤوليات فقد تنجح لبعض الوقت، لكن من المؤكد أن الفشل سيلحقك في النهاية. أما إذا كان لديك مديرون تفوض لهم سلطاتك وتستطيع مساءلتهم.. فستكون لديك فرصة لمواجهة أي مشكلات وتطوير مؤسستك.


2- كان أسيراً لمعتقداته؛ فلا يقبل أي حل وسط، وكان يفصل كل من يجرؤ على العمل كمدير أو يصنع قراراً دون أوامر منه شخصياً.






3- حينما اشتدت المنافسة مع الشركات الأخرى العاملة في نفس المجال وتضخمت الشركة، لم يستطع السيطرة على شركته بشخصيته القوية وعصبيته وملياراته.






4- اعتمد على فكرة البوليس السري؛ فكان يحكم الشركة عن طريق التجسس على العاملين وتهديدهم بالفصل.




“سيمنس”.. والناس






فيرنر سيمنس (1816-1892) اختلف تماماً عن فورد الجد؛ فقد كان من أكبر المخترعين في القرن التاسع عشر، واهتم بالناس، وراعى ظروفهم، سواء أكانوا عمالاً أم زملاء مخترعين. لكنه اتفق معه في عدم رغبته في تفويض سلطاته، وإدارته المنفردة للمنشأة.




أسس شركة مبنية على أساس الإحساس بالولاء والمسؤولية تجاه الناس، واستطاعت هذه الشركة أن تنمو بشكل سريع شد الانتباه حتى أواخر عقد 1870، إلا أنها تعثرت حتى إنها تخلت عن فرعها في بريطانيا (أغنى فرع لمجموعة سيمنس) بسبب سوء الإدارة، في الوقت نفسه صعدت شركة “جنرال إلكتريك الألمانية” لتنافس سيمنس بقوة.




ويرجع تدهور الشركة لعدة أسباب، من بينها اعتقاد سيمنس المؤسس بأن العلاقات الطيبة الوطيدة هي الضامن الوحيد للنجاح، كما أنه لم يكن يملك مديرين بل معاونين، علاوة على عدم رغبته في إيجاد نظام إداري متكامل يدير دفة الأمور في شركته.




غير أنه بوفاة فيرنر سيمنس تولى ابن عمه جورج إدارة الشركة واستطاع إجبار أبناء المؤسس وورثته على قبول هيكل إداري ومديرين تفوض لهم السلطات، وخلال بضع سنوات استعادت الشركة قوتها ونفوذها.




وبظهور صناعة الأجهزة الكهربائية في مطلع القرن العشرين قامت إدارة الشركة المحترفة التي جاء بها جورج سيمنس بدمج الشركات التابعة لسيمنس، وإدخالها في هيكل شركة واحدة قوية، وبذلك ضمنت 40 عاماً من القيادة في صناعة الكهرباء الأوروبية.




إيواساكي.. يملك ويدير






على درب فورد الجد وفيرنر سيمنس سار إيواساكي في اليابان؛ فقد كان لا يفضل المديرين؛ فقد أصر على الملكية الخاصة والمسؤولية للمالك المنظم لأعمال الشركة، وانشق بذلك عن التقاليد اليابانية التي تعطي السلطة للأقدمية لا الملكية.




ثم حول إيواساكي شركته إلى شركة مساهمة، وأصدر أمراً بأن جميع الملكيات يجب أن تمنح لرجل واحد، يقوم باتخاذ جميع القرارات، وعلى الجميع أن ينفذوا أوامره. بدأ إيواساكي عمله عام 1867، وبعد 15 عاماً كان صاحب أكبر قلعة منتجات صناعية متنوعة في اليابان. وأدى انفراد إيواساكي بسلطة قرار الشركة إلى تعثرها، لكن بعد موته (عام 1885) قام شركاؤه المقربون بإعادة هيكلة الشركة، وبناء أقوى مجموعة إدارية ذاتية مستقلة في اليابان، ومنذ هذا التاريخ نهضت، وسميت شركة “متسيوبيشي”.




ضرورة لا ترف






لقد نظر كل من فورد وإيواساكي وسيمنس للإدارة والمديرين على أنها إسراف ليس له داعٍ، وأن الرجل العظيم يمكنه حكم منظمات وهياكل أعمال كبيرة معقدة عن طريق معاونيه ومساعديه؛ أي بواسطة المتزلفين له والمنافقين لديه.




إن عدم إدراك هؤلاء الثلاثة أن المنشأة الصغيرة قد تنجح إداراتها ببعض المعاونين، والمنشأة الكبيرة تحتاج بالفعل إلى إدارات وأنظمة وسلطات غير سلطة من يملك.. أدى إلى فشلهم.






في المقابل فإن “سلون” المعين كرئيس شركة “جنرال موتورز” الأمريكية آمن بضرورة وجود مجموعة محترفة من المديرين تفوض لهم الاختصاصات، واستطاع بذلك انتشال شركته من التعثر؛ بإنشائه إدارة قوية، حدت من نفوذ ملاك الشركة الذين كانوا يديرونها، ومنذ ذلك الحين أضحت “جنرال موتورز” من أقوى شركات صناعة السيارات الأمريكية.






ويمكننا مقارنة المنشأة التي حاول “فورد الجد” إدارتها وتلك التي قادها “سلون” في “جنرال موتورز” بنوعين مختلفين من الكائنات الحية، أولهما: الحشرة التي تكون متماسكة بطبقة جلد قوية جافة، وثانيهما: الحيوان الفقاري ذو العمود الفقري.






لقد بين العالم البيولوجي البريطاني “دارسي تومبسون” أن الحيوانات التي يحميها جلد صلب لا تصل إلى حجم معين ودرجة معينة من التراكيب. أما إذا كان الحيوان أكبر من ذلك؛ فلا بد له من هيكل عظمي، إلا أن الهيكل العظمي لم ينشأ من الجلد الصلب للحشرة؛ فهو عضو مختلف وذو تسلسل مختلف. وبالمثل تصبح الإدارة ضرورية عندما تصل المنظمة إلى حجم معين وتركيب معين. ولكن في حين تحل الإدارة محل هيكل “الجلد الصلب” للمالك منظم العمل؛ فإنها ليست خلفاً له. بل هي بديل له هنا.




فمتى تصل منشأة العمل الحر إلى المرحلة التي يجب أن تنتقل فيها من “الجلد الصلب” إلى “الهيكل العظمي”؟ إن الخط الفاصل هنا يقع بين 300 و1000 موظف في الحجم، وربما يكون الأهم هو الزيادة في تعقيدات العمل؛ فعندما يلزم الأمر أداء مهام متنوعة في تعاون وتواكب وباتصالات مستمرة؛ فإن منشأة العمل الحر تحتاج إلى مديرين وإدارة، وإلا فستخرج الأمور عن نطاق السيطرة، وستفشل الخطط في التحول إلى عمل أو يحدث الأسوأ؛ فتسير أجزاء مختلفة من الخطط في سرعات مختلفة وفي أوقات مختلفة ولأهداف وغايات مختلفة، وتصبح محاباة الرئيس أهم من الأداء.




وقد تكون المنتجات عندئذ ممتازة والأفراد قادرين ومكرسين لأعمالهم. وقد يكون الرئيس رجلاً ذا قدرة عظيمة وقوة شخصية، إلا أن المنظمة ستبدأ في التعثر والركود، وتنحدر إلى الحضيض ما لم يتحول العمل إلى “الهيكل العظمي” الخاص بهيكل المديرين والإدارة.




دروس وعبر






من الدروس التي نستطيع استخلاصها من تجارب الشركات العملاقة التي فشلت ونجحت مرة أخرى في النهوض ما يلي:




– إن المشروعات المتوسطة والعملاقة لا يمكن لها أن تستغني عن الإدارة والمديرين، ونحن لا نحتاج الإدارة لمجرد أن حجم العمل كبير، ولا يستطيع الفرد القيام به بل لأن إدارة المشروع تختلف تماماً عن إدارة ممتلكاتنا الشخصية. فلا يمكن لمالك المشروع أن يقوم بكل الوظائف الإدارية.




– على أصحاب المشروعات الصغيرة الذين يرغبون في النمو أن يغيروا من مبادئهم وقيادتهم الإدارية حينما تنمو منشآتهم؛ فاللامركزية وتوزيع سلطاتهم على مديرين كفيل بإحداث توازن مع كبر المنشأة آنذاك.






-إن المشروعات الناجحة هي التي تؤمن بأن الإدارة أرقى من الملكية، حتى لو كانت هناك جهة واحدة تملك المشروع؛ فشخصنة المشروعات تودي بها إلى الهلاك، أما إرساء قواعد إدارية مستقرة يشرف عليها مجموعة من المديرين المحترفين فيكفل البقاء والنجاح والتطوير.