ينطلق المعنى الإيجابي للصحة النفسية عند الفرد من النظر للإنسان إلى أنه فرد يعيش في بيئة مادية واجتماعية يؤثر فيها، وهو يكوِّن مع هذه البيئة وحدة متكاملة، وإن أنماط سلوكه الشخصية والعامة هي نتاج التفاعل الديناميكي بين عدة قوى وعوامل، بعضها يرجع إلى تكوين الفرد البيولوجي والنفسي وبعضها يرجع إلى مقومات مجاله السلوكي، ولذلك فإن نقطة البداية في فهمنا للشخصية الإنسانية، هي النظر إلى الشخص ومحيطه وتفاعلهما معاً، فإذا انطلقنا من هذا نجد في الصحة النفسية نوعين من العلاقات:
أ*- علاقة الفرد مع نفسه ومعرفة حقيقة دوافعه ورغباته وقدراته وتقديره لذاته التقدير المناسب، ويعني ذلك معرفة كل الخصائص والسمات التي جعلت منه فرداً متميزاً عن غيره، ومعرفة نواحي القوة والضعف، وكثيراً ما يلاقي الأفراد صعوبات حين يقدرون ذواتهم على حقيقتها، فيغالون في مستويات طموحاتهم، ويسعون إلى أهداف لا تؤهلهم لها استعداداتهم وإمكاناتهم، مثال: الشخص الذي يتمتع بقدرة عقلية ضعيفة أو متوسطة، ويريد أن يصبح عالماً، إن مثل هذه الرغبة يصعب تحقيقها، وإشباعها ضمن إمكانات هذا الإنسان، وتعرِّضه لموقف إحباطي يشعره بالعجز والفشل ويؤدي إلى سوء التكيّف.
لذلك لابد من أن يسعى الفرد إلى إنماء قدراته وتحقيق ذاته، ضمن وحدة الشخصية وتكاملها، إذ إن للشخصية عدداً من الجوانب، وهي تنطوي على عدة اتجاهات ولابد من وجود توافق بين هذه الجوانب والاتجاهات مما يبعد الفرد عن الصراع الداخلي وعن مشاعر القلق والتردد، كما لابد من وجود ثبات نسبي في الاتجاهات التي يتخذها الفرد في المواقف المختلفة، بحيث ينطوي تماسك الشخصية على التغير المناسب من جهة، والثبات الكافي من جهة أخرى.
ب*- علاقة الفرد مع محيطه: وهذا ما أريد بحثه هنا، ونعني بالمحيط كلّ المؤثرات والقوى المحيطة بالفرد والتي تؤثر فيه بما في ذلك المؤثرات الاجتماعية والطبيعية.
==================
وتشير الصحة النفسية ضمن هذه العلاقة إلى توافر المظاهر التالية:
إدراك الفرد للمحيط كما هو ومواجهته بما يقتضيه، ومواجهة المحيط بشكل واقعي، إذ نجد أن إدراك الفرد للواقع الاجتماعي والتعامل المثمر والإيجابي معه وتقبله للآخرين وتقبل الآخرين له، كلها أمور لابد منها في تفاعل الفرد مع محيطه، وكذلك قدرته على اتخاذ قراراته ضمن شروط معرفته لهذا الواقع، فيحاول تغييره إذا كان بالإمكان ذلك أو يستحضر ذهنه لجميع النتائج التي يمكن أن تترتب على أفعاله لا في الحاضر فقط وإنما في المستقبل، فقد يتحمل الإنسان مثلاً الألم والإجهاد والتوتر من أجل تحقيق نجاح للمستقبل، إن الشخص الواقعي هو القادر على ضبط ذاته وعلى التحكم في إشباع حاجاته وهو الذي لا يهرب من مشاكله، وإنما يقوم تجاهها بسلوك إنشائي، يحقق حلاً لمشكلاته، ويواجه بإيجابية تغيرات البيئة المحتملة. إذن من هذا المثال ندرك بأن الإنسان الذي يتمتع بصحة نفسية إيجابية يتعامل مع المحيط بإيجابية والعكس صحيح.


من هذا ننطلق بأن السلوك الإنساني هو أي نشاط هادف يصدر عن الإنسان سواء كان جسمياً أم عقلياً أم انفعالياً أم اجتماعياً.. نتيجة تفاعله مع البيئة المحيطة ويؤدي إلى نتائج إيجابية للفرد نفسه وللآخرين، لأن الهدف هو إحداث تغيير في طريقة تفكيرنا نحو أنفسنا ونحو الآخرين لنساهم في تطوير المجتمع ومؤسساته.


إذن الإنسان الفعال هو الإنسان المتكيف إيجابياً مع كل ما يحيط به وهذا أسلوب متطور وحديث في التفكير، فبينما يعيش الإنسان عالة على نفسه والآخرين متقوقعاً على ذاته منكمشاً في تفكيره سلبياً في سلوكه، همّه الوحيد الأكل والنوم (اعتبر هذا النوع من الناس قمة السلبية تجاه نفسه والآخرين)، غير الإنسان الفعّال دائم الحركة والتفكير والتطوير في كل ما يقوم به، وهذه برأيي ثقافة هامة يجب أن نتبناها ونهتم بها عند الجميع بدءاً من الطفولة وحتى سن الرشد.


فالنية الصادقة والمعرفة لا تكفيان وحدهما، فالممارسة والتجربة هما السبيل لتحصيل المهارات اللازمة لإحداث هذا التغيير الذي نبحث عنه.
والإنسان الإيجابي هو إنسان ذكي، متحضر، منفتح على الجميع، يحمل عقيدة إيجابية تجاه نفسه والآخرين عملي في تفكيره، مثمر في عمله الناجح، رغم كل الصعوبات التي تواجهه. وعن وجود علاقة كبيرة بين ثقافة الإنسان وفعاليته “أحد مظاهر شخصية الإنسان وثقافته هي في طريقة استهلاكه لهذه الثقافة وتلقيه لها وطريقة الاستفادة منها إيجابياً وسلبياً”.


“إذا أردت أن تسيطر على إنسان ما أسلبه شخصيته فيكون خادماً مطيعاً لك فبذلك يصبح سهل الانقياد وفياً وسلساً.

==============
إذن ثقافة الفرد مهمة جداً وليس تعلّمه هو ما يعنيه على اتخاذ القرار الصحيح وممارسة الموقف السليم في سلوكه مع الآخرين، لأن هناك في جميع المجتمعات آلافاً من الناس ممن يحملون شهادات عليا ولكن للأسف لا يملكون التفكير الفعال والإيجابي نحو أنفسهم ونحو المحيط، المهم في الثقافة التغيير والتأثير الإيجابي المنعكس عنها والذي يؤدي إلى التطوير نحو الأفضل فالثقافة الجامدة والقابعة في ثنايا دماغنا لمن نخبئها؟ إذا لم يستفد منها الآخرون، حتى العالم أو الإنسان المبدع إذا لم يخرج من بين يديه تلاميذ مبدعين للإنسانية لا يمكن أن أقول عنه أنه إنسان فعال.
وأهم ما يميزه عن غيره بأنه:
1- إنسان مبادر وفعال أي يعرف الإنسان نفسه ويعي قوتها وضعفها، وهذا يعني بأننا مسؤولون أمام أنفسنا عن ذاتنا النفسية والجسدية، وعن سلوكنا وممارساتنا وقراراتنا، إذ إن الناس المنفعلين منقادون لمشاعرهم وظروفهم وبيئتهم أما الفعالون فإنهم منقادون لقيمهم التي اختاروها لأنفسهم يقول روزفلت: “لا أحد يستطيع أن يؤذيك دون موافقتك”.
غاندي يقول عن المستعمرين البريطانيين “إنهم لن يستطيعوا أخذ كرامتنا منا ما لم نعطها لهم”.
إذاً الإنسان الفعال يقرر مصير نفسه، يصبح مبدعاً لحياته بتغيير ما يريد فيها، يسيطر على عواطفه وعقله، ونفسه فيحصل على حريته، وبمقدار ممارسته لهذه الحرية تزداد شخصيته قوة وعمقاً، ففي حرية الاختيار تكمن السعادة وينشأ التطور والنمو والتغيير.


2- ابدأ بآخر ما يصل إليه عقلك، وهذا مرتبط بالقدرة على قيادة النفس ووضوح الرسالة والهدف، فإذا كنت المخطط والمبرمج فأنت المنفذ وتعرف ماذا وضعت وماذا تريد وإلى أين سوف تصل بعكس الإنسان السلبي فهو ينتظر الظروف لتتغير وتحمل معها منافع له، أو أن تتحسن الظروف وتكون الأمور لمصلحته وهو جالس يتأمل معتقداً بأن الأمور سوف تكون معه.


3- ضعْ الأمور الأولى أولاً وهذا مرتبط بقوة الإرادة، والإنسان الملتزم المنظم يميز أولوياته ويركز على الأمور الهامة في حياته ولو كانت صعبة ومملة وغير ممتعة لا يهتم بها ولو لم تكن عاجلة وملحة.


4- ثقافة الربح المشترك، وترتبط بعقلية الوفرة، لأن الشعور بالإدمان والثقة ينبع من أعماق الإنسان، فينظر إلى كل شيء بمنظار المبادئ والقيم، وكلما تعزز تقدير الناس لأنفسهم زادت رغبتهم وقدرتهم على المشاركة، مشاركة في القوة والاعتبار والنجاح.


5- الإنسان يسعى في سلوكه نحو الأفضل فهو يسعى لتحقيق حاجاته وأمنياته، وذلك من خلال البحث والتمحيص للوصول إلى الهدف، فالإنسان السوي يسعى إلى من يتوقع منه تقديم المشورة والنصح للوصول إلى هذا الهدف.


6- مرونة سلوك: الإنسان الفعال مرن في تفكيره وسلوكه الثابت نسبياً إلا أنه قابل للتعديل والتغيير طبقاً للنتائج والفرضيات.


7- اسعَ لفهم الآخرين أولاً، لكي يفهموك وهذا مرتبط بالقدرة على ضبط النفس والاهتمام بالآخرين والتعاطف معهم، بدلاً من إعطاء الأوامر والقهر والإكراه، لأن القائد الجيد هو الذي يستطيع أن يخمِّن الحالة الراهنة معتمداً على مواهب كل من له علاقة بالموضوع، إنه إنسان منسق، منظم، متصل جيد مع الآخرين، متعاون مشاور، محاور.


8- اشحذْ عقلك، وهذا مرتبط بالقدرة على التطور والتغيير بعيداً عن التعصب والتقوقع على الذات لأن الفعالية تكره الخمول واليأس والإحباط والتكاسل وتحب النشاط والحركة والإيجابية والمرونة الدائمة في التفكير، مع رفع الكفاءة والابتكار، يزينها حب الآخر وحب الحياة بفرحها وحزنها، والقدرة على العطاء والقدرة على التفاؤل والمرح، لأننا عندما نمتلك روح المبادرة عوضاً عن السلبية تتصف أفكارنا بالإيجابية.
ولا يحصل الإنسان على ميزة الفعالية في التفكير والسلوك إذا لم يزين بالذكاء العاطفي فالذكي عاطفياً إنسان ناجح سوي بريء من عقد النقص والغرور والزهو والحقد والحسد.