عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 30
علم النفس الصناعي / الموارد المهنية / التوجيه و الاختيار المهني
الموارد المهنية
التوجيه والاختيار المهني
1- عوامل اختيار المهنة
يختار كثير من الناس مهنهم نتيجة لرغبات طارئة , أو نصائح عارضة من صديق أو قريب , علي أثر قراءة قصة في كتاب , أو مشاهدة فيلم سينمائي أو سماع محاضرة حماسية , أو الاتصال بشخصية بارزة في مهنة , أو تحت ضغط الوالدين وتقاليد الأسرة , أو لأن المهنة تتمشى مع مستوى الطموح الذي رسمه الفرد لنفسه في الحياة .. كل أولئك دون أن ينظر الفرد إلي ما لدية من قدرات واستعدادات وصفات مختلفة لابد منها لنجاحه في مهنته .
وأغلب الأمر أن الإنسان لا يختار مهنته نتيجة لعامل واحد أو دافع واحد , بل نتيجة تفاعل عوامل ودوافع شتي تهيمن علي هذا الاختيار وتتحكم فيه , عوامل ذاتية تتصل بشخصيته وتكوينه النفسي الفطري والمكتسب , أو أخري خارجية تتصل ببيئة الاجتماعية وبمجال العمل في المهن المختلفة .. دوافع شعورية يفطن إلي وجودها كمن يفضل مهنة التدريس علي مهنة التصوير إرضاء لدافع التقدير الاجتماعي في ظنه , ودوافع لاشعورية – أي لا يفطن إلي وجودها – كمن يختار مهنة شديدة البعد عن مهنة والده لأنه يحمل لأبيه كراهية مكبوتة .
الواقع أن الإنسان يختار مهنته – كما يختار زوجته – ونفسه زاخرة بكثير من الدوافع والعواطف والعقد النفسية والمعتقدات وعادات صالحة أو غير صالحة للتعامل مع الناس .. إلي غير تلك من الدوافع التي اكتسبتها تدريجيا من جو الأسرة التي نشأ فيها طفلا صغيراً ؛ والمدرسة التي اختلف إليها , والأتراب الذين زاملهم , وفي ظل الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الآسرة .. ولكل أسرة ثقافتها الخاصة , ووضعها الاقتصادي الخاص , وطموحها وتقاليدها وشعائرها ونظرتها الخاصة إلي مختلف المهن : نظرة احترام إكبار لبعض المهن ونظرة ازدراء و لمهن أخري . يضاف إلي ذلك ما يتسم به الفرد من حيوية موروثة ومزاج خاص وذكاء فطرى . والذكاء من دون شك عامل له خطره في اختيار المهنة : فالأذكياء يكونون أقرب إلي الواقع عادة وأبعد عن الخيال في اختيار مهنهم لأنهم أدني إلي فهم أنفسهم وقدراتهم ممن لا ينعمون بمستوى رفيع من الذكاء.
هذه العوامل والدوافع التي بدأ مولدها من عهد مبكر في حياة الفرد .. يتفاعل بعضها مع بعض , يؤثر بعضها في بعض . بما يجعله يميل إلي اختيار مهن معينة . فإذا به يستجيب للنصح أو لما يقرأ أو يسمع إن تمشى ذلك مع هذا الميل , أو يعزف عن مهن أخري فلا يجدي فيه النصح ولا تؤثر فيه قراءاته ومشاهداته .. حتى ليمكن القول أن اختيار المهنة يبدأ من عهد الطفولة .
وقد تكون نتيجة هذا الاختيار نجاحا وتوفيقا . أو تكون فشلا وإخفاقا مع ما يجره هذا الفشل من أضرار بالغة تحقيق بالفرد ومن ثم بالمجتمع , إذ ليس أضر بالكافية الإنتاجية للفرد من قيامه بعمل لا تؤهله له قدراته واستعداداته , وليس أضر بصحته النفسية من قيامه مضطرا بعمل كريه إلي نفسه حتى إن كان منتجا فيه .
دوافع هامة في الاختيار
لم يعد العمل في حضارتنا الراهنة بمجرد وسيلة لكسب الرزق ؛ بل أصبح فوق ذلك وسيلة لإرضاء كثير من الدوافع والحاجات النفسية للفرد , كالحاجة إلى الأمن والحاجات إلي التقدير الاجتماعي , والحاجات إلي التعبير عن الذات وتوكيدها , ومن ثم كانت هذه الدوافع عوامل هامة في اختيار المهنة .
فمن الناس من يميلون إلى اختيار المهن الآمنة التي تجنبهم المواقف العسيرة أو الحرجة . وهذا يصدق بوجه خاص علي من يختارون مهنة التدريس . فحياة المدرسة بعيدة عن كثير من الصعوبات والمشكلات وضروب التنافس والتناحر التي يزخر بها العالم الخارجي عادة . ولعل هذا الدافع إلى التماس الأمن والهرب من المآزق هو ما يدفع بعض الناس إلى اختيار المهنة التي يراها علي مر الزمن.
والتقدير الاجتماعي من الدوافع الهامة في اختيار المهنة . فمرتب المدرس قد يكون أقل من دخل بواب العمارة ؛ ومع هذا يفضل كثير من الشباب المهنة الأولي . نقول الشاب لأنهم في العادة شديدو الحساسية للتقدير الاجتماعي .
كذلك الشعور بالنقص قد يكون دافعا قويا إلي اختيار المهنة . فكثير ممن يعانون تقصا جسيما أو اقتصاديا – حقيقيا أو موهوما – ينزعون إلي التعويض عما يشعرون به من عجز عن طريق أعمالهم . ويقال إن المصابين بعيوب في النطق تستهويهم المهن التي تتطلب الكلام , وأن المصابين بعيوب في البصر تستهويهم مهن الرسم والتصوير ؛ وأن ضعاف الجسم يميلون إلي مهنة الطب . وكثيرا ما يؤدي الشعور بالنقص إلي فقد الثقة بالنفس والخوف من المناقشة ومن تحمل التبعات فيكون أثر ذلك بالغا في اختيار المهنة .
ويري أصحاب مدرسة التحليل النفسي التي أنشأها العالم النمساوي (( فرويد)) Freud والتي تؤكد أثر الدوافع اللاشعورية في سلوك الفرد أن الإنسان يميل إلي اختيار المهن التي ترضي دوافعه الجنسية ودوافعه العدوانية وإن يكن إرضاء رمزيا . فالميل اللاشعوري إلي العدوان والتعذيب الذي يسمونه ((السادية)) Sadism يجنح بصاحبه إلي امتهان مهنة الجزار أو الجراح أو البيولوجي أو الشرطي أو حتى مهنة التدريس , بل قد تنطوي حركات مهنية معينة كرش الأرض بخرطوم أو ثقب البطاقات علي دلالة شهوية . ومن ذلك أيضا ما يراه ((مننجر)) Menninger من أن الدوافع التي تحمل الطالب علي الالتحاق بكلية الطب خليط من دوافع شعورية وأخري لا شعورية فمن الدوافع الشعورية الراغب في مجاراة تقاليد الأسرة , أو الامتثال لرغبة الوالدين , أو تحدي هذه الرغبة . أو الرغبة في الشهرة والدخل الوفير , أو الرغبة في تخفيف الآلام , ومن الدوافع اللاشعورية ميل لا شعوري إلي إرضاء الأم من حيث هي عنصر الأسرة الذي يتعهد المرضي , أو تقمص الوالد شخصية أبيه وقيمه وأهدافه , أو ميل لاشعوري إلي التكفير عن دوافع عدوانية يحملها الفتي لأبيه أو أخيه ؛ أو ميل خفي لاستطلاع خفايا الجسم .. وقد يضاف إلي هذه الدوافع اللاشعورية الخوف من الموت مقترنا بالرغبة في معرفة الوسائل لاتقائه ؛ أو مرض أو موت حل بشخص عزيز في الأسرة .. هذه الدوافع نفسها قد تقوم أيضا بدور اختيار فرع التخصص الطبي .
من الحقائق المقررة في علم النفس أن الراشد الكبير يجهد في إرضاء الدوافع التي حرم من إرضائها في عهد الطفولة . فمن حرم الأمن وهو طفل صغير أخذ يتلهف علي التماسه وهو حدث كبير . ومن كبتت دوافعه إلي السيطرة والظهور عهد الصغر طفق يلتمس إشباعها بكل الوسائل في عهد الكبر . ومن حالت تربيته الأولي دون إشباع حاجته النفسية إلي التقدير الاجتماعي آثر المهن التي ترضي فيه هذه الحاجة ... ومن هنا نري إلي أي حد تتحكم طفولتنا في اختيار أعمالنا .
نصائح الكبار
يتوقف كثير من الكبار إلي إسداء النصح إلي الشاب فيها يتصل باختيار منهم , كما يتفق كثير من الشباب إلى الأخذ بهذه النصائح . ولاشك أن هذه النصائح قد تكون مفيدة أحيانا . غير أن المؤكد أنها تقوم علي معرفة غير كافية بالفرد فتكون كالوصفات البلدية التي يوصي بها غير طبيب . وغالبا ما تكون انعكاسا لحالة الكبير النفسية إزاء مهنته هو : أهي حالة رضا أم سخط ؟ وآية ذلك ما نلاحظه من اختلاف الكبار والأصدقاء – حتى المدرسين – في نصائحهم واقتراحاتهم إخلافا كبيراً بحيث لا يكاد يتفق اثنان منهم في هذه للناحية . إذا كان الطبيب ذو الخبرة والمران الطويل يرتكب أخطاء كثيرة وهو يشخص أمراضنا الجسمية , فما بالك بأناس غير مدربين يحاولون تشخيص هذه الأمراض ؟
زد علي ذلك ما يشيع بين الكبار من أفكار خاطئة . من ذلك قولهم أن الأب متى كان موفقا في مهنته فلا بد أن يتفوق ابنه فيها . ومن ذلك ما يذاع أيضا من أن كل فرد مهيأ بفطريه لمهنة واحدة فهو لا يصلح إلا لها . وهذا رأي لا يقوم علي أساس علمي . فالناس لا يولون نجارين أو حدادين أو صيادلة أو مدرسين أو محامين , بل يولدون بميراث فطري من الصحة والحيوية والذكاء واستعدادات عامة جداً يحيلها التعلم والتدريب قدرات نوعية تفيد في عدة مهن . فالقدرة الميكانيكية تفيد في عدة مهن , وكذلك الحيوية وصلادة الجهد ضروريتان في مجال معين , كان من الممكن أن يكونوا بارزين في مجالات أخري .
ولا ننسي ما يتميز به الإنسان من قدرات عريضة علي التكيف لكثير من المواقف والأعمال والظروف والأجواء المختلفة يشهد بذلك تاريخ الإنسانية وتطوها علي مر العصور .
اثر الآسرة والوالدين وجد في بعض البحوث أن الفرد في طفولته وفي مطلع المراهقة – أي حوالي الثالثة عشر – يكون تفضيله مهنة أبيه أكثر منه في أواخر المراهقة , أي حوالي سن العشرين . ولعل هذا يرجع إلي ما نعرفه من ازدياد ميل المراهق إلى التحرر من رباط الأسرة كلما تقدم به العمر والنضج .
أمت مدى قبول الطفل أو المراهق للمهنة التي يفضلها والده فيتوقف على مركز الوالد ونفوذه وعواطف أولاده نحوه . فقد تجعل منه هذه الاعتبارات مثالا يحتذيه الوالد , أو يعزف عنه , أو يعمل علي التفوق عليه . ولنذكر أن كره الوالد لوالده قد يميل به إلي مهنة غير مهيأ لها من حيث قدراته واستعداداته .
والذي نريد أن نؤكده في هذا المقام أن اختيار الوالدين مهن أولادهم غالباً ما يكون اختياراً منحازاً وغير سديد . فمن الآباء من ينظر إلي المركز الاجتماعي المهنة لا إلي صلاحية ولده لها . وقد يكون الأب كارهاً مهنته فإذا به يشير علي ابنه أو يفرض عليه ألا يتجه إليها . وعكس هذا صحيح .
وقد كشف التحليل النفسي عن الدوافع اللاشعورية الخبيثة التي تحمل بعض الآباء علي قسر أولادهم علي مهنة من المهن أو نوع معين من التعلم بالرغم من عدم ميلهم إليها أو استعدادهم لها .. فإذا بها دوافع أنانية خالصة لا صلة لها بصالح الولد . وأكبر الظن أن الأب نفسه كان يصبو إلي امتهان هذه المهنة لكنه عجز عن بلوغها . فإذا به يمثل هذا الدافع اللاشعوري علي مسرح أطفاله . وهذا نوع من التعويض لا ينجم عنه إلا ضرر الوالد .
ولنذكر فوق ذلك أن انحياز الوالدين يحول دون حكمهما الصحيح علي ذكاء أولادهما وقدراتهم الخاصة . وحتى إن كانا غير منحازين فأحكامهما يبعد أن تكون أحكاماً دقيقة . وقد يعمي أكثر الآباء ذكاء عن عيوب في أولادهم تنب إلى عين الملاحظ العادي . وإنه لمنت اليسير علي الوالدين أن يجد عذرا لتخلف ابنه في الدراسة علي أترابه . بأن يقول إن المدرس غير كفء أو إن ابنه لا يقدر علي تركيز انتباهه , أو إن صحته لا تأذن ببذل الجهد اللازم .. لكنه لا يطرأ على باله في العادة أن السبب هو قصور في ذكاء ابنه . بل قد يسلم بأن أخلاق ابنه ليست فوق الشبهات , لكنه لا يعترف بنقص ذكائه !
من هذا نري أن الوالدين وهما الناس أقرب إلي المراهق أو الشاب يبعد أن يكون توجيههما المهني له سليما مأمون العاقبة.
قيمة التحليل الذاتي
ألا يمكن الاعتماد في اختيار الفرد لمهنة تناسبه علي تقديره لقدراته الخاصة وميوله وسماته الاجتماعية الخلقية المختلفة ؟ دلت تجارب مختلفة علي أن أمثال هذا التقدير الذاتي لا يمكن الاعتماد عليه . من تلك تجربة أجريت لمعرفة قدرة الناس علي تقدير أنفسهم في بعض السمات مثل : حب العمل , العدواني , التعاون , البخل , العناد , الطموح , الغرور , جاذبية الشخصية .. فأسفرت النتيجة عن أن الناس يعجزون إلي حد كبير عن تقدير أنفسهم تقديراً دقيقاً فنحن نميل إلي تقدير أنفسنا تقديرا عاليا في السمات التي نراها موضع استحسان , وتقدير منخفضا في السمات التي نراها غير مرغوبة , زد علي ذلك أن الإنسان يميل إلي كبت عيوبه ونواحي الضعف فيه , وسماته الملمومة , وذلك بإنكارها وإخفائها وعدم الاعتراف بها لنفسه والناس جميعا . إنه ينزع بفطرته إلي إخفاء سوءاته النفسية كما يخفي عوراته الجسمية . فنحن نعرف أنفسنا كما نحب لا كما هي عليه في الواقع .
وفي تجارب أخري طلب إلي أشخاص مختلفين أن يقدر كل منهم ذكاءه بنفسه , ثم ذكاؤهم عن طريق مقاييس موضوعة للذكاء , فوجد أن ذوى الذكاء المنخفض يميلون إلي المبالغة في تقدير ذكائهم , أن ذوي الذكاء المرتفع يميلون إلي الغض من تقدير ذكائهم .
وقد ظهر من دراسات عدة أن مستويات الطموح التي يتخذها كثير من الناس لأنفسهم تبتعد بعدا كبيرا عن مستويات قدراتهم الفعلية . ويقصد بمستوي الطموح , ذلك المستوى أو الهدف الذي يرسمه الفرد لنفسه ويسعى إلي الوصول إليه , أو هو المستوي الذي يتوقع الفرد أن يصل إليه بناء علي تقديره الذاتي لقدراته واستعداداته . فهذا الطالب يصبو أن يكون طبيعيا أو مهندسا أو مدير أعمال .. لكن ليس لديه من المؤهلات العقلية والشخصية ما يأذن له بالنجاح في هذه الأعمال . فإذا به يظهر يلهث لبلوغ هدفه هذ1 , فلا يناله من ذلك إلا الفشل المتكرر وخيبة الأمل والشعور بالذنب واستصغار نفسه أو ازدراؤها أو كراهيتها .. وإذا به أصبح نهبا للتأزم النفسي الموصول ينغص عليه حياته ويهيئه لاضطراب الشخصية . وما ذاك إلا لبعد الشقة بين ما يريده وما يقدر عليه بالفعل , بين مستوى طموحه ومستوي اقتداره . (( ورحم الله امرؤ عرف قدر نفسه )) . ولو وفق مثل هذا الطالب إلي من يعيشه علي تقدير ما لديه من ذكاء وقدرات وسمات تقديرا موضوعيا , إلي تقدير ما لديه من نواح للقوة وأخري للضعف .. لوفر على نفسه هذا الجهد الضائع وأعفاه مما يعانيه من توتر نفسي موصول وفشل أكيد .
بل لقد اتضح أن ميول كثير من الناس إلي امتهان مهن معينة ليست ميولا حقيقية بل ميول عارضة متقلبة أو ميول ظاهرية أو ميول مفروضة يصطنعها الفرد إرضاء لضغط خارجي , من والديه مثلا , وهنا يتعين علي علم النفي أن يتدخل للكشف عما لدي الفرد من ميول حقيقية غير زائفة .
علي هذا المحو يتضح لنا أن التقديرات الذاتية لا يجوز الركون إليها والاعتماد عليها في أخيار الفرد لمهنته .
ومع هذا فتحليل الإنسان نفيه لا يخلو من فائدة – وإن تكون فائدة محدودة . فقد يعينه هذا التحليل الذاتي , علي الأقل , علي أن يتجنب بعض المهن التي لا يستسيغها أو ينفر منها , فمن الناس من لا يطيقون المهن التي تضطرهم إلي التعامل مع الناس , ويؤثرون عليها المهن التي يتعاملون فيها مع الأشياء والأفكار , وآخرون يعزفون عن المهن التي تضطرهم إلي تحمل قدر من المسئولية ويؤثرون دور المقود لا القائد . وفريق ينفرون من المهن التي تضطرهم إلي لمس أجسام الناس كمن الحلاقة والتدليك والتمريض ومعالجة العظام وتقليم الأظافر .
مما تقدم نري أن اختيار الفرد لمهنته يجب ألا يقوم علي أساس ذاتي أو جزافي أو ارتجالي أو عاطفي , بل علي أساس علمي موضوعي دقيق , وهذا أساس حركة (( التوجيه المهني )) كما سنري بعد قليل .
ونوجز ما تقدم فنقول إن العوامل التي تحدد اختيار الفرد مهنته تنقسم إلى عوامل شخصية منها صحته العامة وحيويته وما يراه في نفسه من نواح للقوة وللضعف , ومنها فكرة الفرد عن نفسه , ومستوي طموحه , ودرجة ثقافته وتعليمه , ومنها أيضا ذكاؤه وميوله والقيم التي يدين بها , ودوافع شعورية ولا شعورية شتى .. هذا إلي جنب إعجابه ببعض الشخصيات أو نفوز منها . أما العوامل الخارجية التي تحدد اختيار المهنة فمن أهمها المركز الاجتماعي الاقتصادي لأسرة الفرد , وعلاقاته الشخصية .
سوء اختيار المهنة
ضرره بالفرد وبالمجتمع
قد تكون مهنة الفرد مصدر أمن واستقرار وسعادة له , أو تكون مصدر قلق وتأزم واضطراب وشقاء له ولذويه . والمهنة الملائمة مصدر الأمن والسعادة يجب أن تتوافر لها شروط ثلاثة:
1- أن يستطيع الفرد أداءها بنجاح أنها تتمشى مع حيويته وذكائه واستعداداته الخاصة .
2- أن يرضي عنها الفرد ويميل إلي ممارستها لأنها تتمشى مع مستوى طموحه وفكرته عن نفسه ومكانته الاجتماعية .
3- أن يكون الجو الإداري والاجتماعي الذي يحيط بها جواً رضيا لا تشوبه القوانين واللوائح الظالمة , أو الإدارة المتعسفة أو الزملاء المنافرين .
والمهنة الملائمة بهذا المعني مجال يرضي فيه الفرد دوافعه المادية والنفسية المختلفة وينمي شخصيته ويوثق ارتباطه بالمجتمع , ويؤكد ذاته .. فهي ترضى في الفرد حاجته إلي التقدير الاجتماعي , وحاجته إلي الانتماء إلي جماعة تشد أزره وتزيد من اعتداده بنفسه . كما تشبع لديه حاجته إلى التعبير عن شخصيته , والإفصاح عن رأيه , وتحقيق إمكاناته , والقيان بأعمال نافعة وذات قيمة للآخرين , وأن يكون منتجاً مبدعا .. مما يزيد من احترامه لنفسه واحترام الناس له . هذا إلي أنها تحدد للفرد هدفا في الحياة يعمل علي بلوغه راضيا مختاراً , وهذا يكون لها أثر عميق في اتزان شخصيته وتكاملها . ومن المقرر المعروف في علم النفس أن الفرد إن لم يوفق إلي إرضاء هذه الدوافع والحاجات بصورة واقعية مباشرة متزنة أصبح نهبا للقلق والتوجس والضجر والشعور بالنقص وعدم الرضا عن النفس وعن الناس .. ثم أخذ يرضى هذه الدوافع بطرق ملتوية غير مباشرة أو بطرق منحرفة .. منها الاعتداء علي غيره من الناس بالقول أو بالفعل , ومنها إلقاء اللوم علي غيره واتهامهم بأنهم مسئولون عن عجزه وفشله , أو تبرير ما به من عيوب وأخطاء باختلاف أعذار وهمية يخدع بها نفسه قبل أن يخدع الناس .. ومن هذه الطرق المنحرفة أن ينزوي ويعتكف وينسحب من الصلات الاجتماعية أو يستسلم لأحلام اليقظة يرضي في خيالاتها ما استعصي عليه تحقيقه في عالم الواقع . (( هذا إن لم يفزع إلي المخدرات خلاصا مما يكابده من توتر نفسي موصول وقد دلت إحصاءات كثيرة علي أن الأمراض النفسية والأمراض المهنية ترداد زيادة ملحوظة بين الأفراد الذين يقومون بأعمال تعلو أو تنحط كثيراً عن مستوى ذكائهم , وكذلك بين من يكرهون أعمالهم أو يضيقون بها.
والمهنة المنافرة سبيل إلى فتور همه صاحبها , أو تكاسله أو تمارضه أو تمرده بما يؤدى إلى تخاذل الإنتاج أو سوء نوعه , كما أنها سبيل إلى شعوره بالفشل وخيبة الأمل أو شعوره بالذنب والتقصير بما يؤدى إلى اهتزاز شخصيه واضطرابها .
المفضلات