مفكرة الإسلام : ربما كان دماغ الإنسان أعقد جهاز في هذا الكون سواء في التركيب أو في وظائفه أو عمله, فيحتوي هذا الجهاز على ما يفوق عشرة بلايين خلية عصبية وهو رقم يساوي ضعف عدد سكان العالم تقريبًا وكل خلية عصبية تعتبر مصنعًا كيمائيًا إلكترونيًا تشترك فيه آلاف الأنواع من المواد ويقوم هذا الجهاز العجيب بعدد كبير من المهمات والوظائف ابتداء من تنظيم الأفعال غير الإرادية كالتنفس ونبض القلب وحرارة الجسم والهضم وانتهاء بالإدراك والتفكير والعواطف والتذكر والخيال والإبداع.

ويتكون هذا العقل من حيث الوظيفة إلى نوعين: العقل الواعي والعقل اللاواعي وهو ما نسميه بالعقل الباطن, العقل الواعي هو المسئول عن تحركاتنا الإرادية وهو المسئول عن عمليات التفكير ولذلك هو عقل نشط فعال, أما الباطن فهو يمثل مجموعة من الأفعال والاعتقادات والأقوال والمشاعر المختزنة الآتية من العقل الواعي والتي تتحكم في تصرفات وسلوكيات الإنسان اللاإرادية.
مثلاً : هل تتذكر كم من المرات نسيت اسمًا لشخص أو بلد أو مكان ولم تستطع أن تذكره ولكنك فجأة وأنت منشغل بأمر آخر لا علاقة له بذلك الاسم تتذكره وكأن أحدًا أخبرك به؟
هل حدث لك أنه في مناسبات معينة كان يتعين عليك أن تستيقظ مبكرًا في ساعة معينة على غير عادتك فإذا بك تنتفض من نومك قبل الموعد بدقائق وكأن أحدًا أيقظك؟
تذكر كيف كنت في مراحل تعلم القيادة الأولى وكنت تجاهد نفسك على تذكر كيفية وضع يديك على المقود وكيف تضع قدميك على بدالات السيارة ثم أصبحت الآن تقود سيارتك بكفاءة تامة وأداء لا غبار عليه وربما وأنت تخاطب أحدًا بجانبك أو ذهنك منشغل بحل مشكلة من المشاكل؟
إن الأجوبة على كل ذلك أنه عقلك الباطن هو الذي يتحكم في هذه المواقف وجميع سلوكياتك اللاإرادية: فهو الذي أيقظك من نومك على غير عادتك وهو الذي أوجد حل المشكلة المستعصية بعد أن أعطيته المشكلة ونسيتها, أي دعنا نقول: إن المتحكم الأكبر في تصرفاتنا هو العقل الباطن.

تكامل و ليس تناقض:
إن العقل الباطن هو الذي يقود أحاديثنا ورؤانا وافتراضاتنا وقناعتنا, أما الواعي فهو الذي يصوغ حياتنا ومشاعرنا ونفسيتنا تبعًا لتلك الرؤى والقناعات والافتراضات, العقل الواعي يتعلق بالموضوع وبالمنطق يدرك السبب والنتيجة ويتلقى معلوماته عن طريق الحواس ويقابلها بما هو مخزون في الدماغ من معلومات سابقة فيحلل ويستنتج, أما الباطن فهو يتعلق بالذات وهو لا يفهم المنطق ولا يفرق بين الصواب والخطأ وهو طاقة محايدة يمكن أن تغير حياة الإنسان نحو الأفضل أو نحو الأسوأ كل ذلك يعتمد على ما يستقر فيه.
يتضح لك بذلك قوة التكامل والتواصل بين نوعي العقل: الواعي واللاواعي، فالواعي: هو الذي يقدم المعلومات التي من خلالها يصوغ اللاواعي القناعات والافتراضات وبالتالي السلوك كما أن اللاواعي هو الذي يوفر الأرضية التي على خلفيتها يفكر الواعي, إنه حقًا التناسق الذي أراده الله للكون {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر: 64]، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
إن هذا التأثر والتأثير بين نوعي العقل يعتبر من أساسيات الحلول التي تقدمها البرمجة اللغوية العصبية, فهي تقدم الأساليب والوسائل للتأثير على أحد النوعين لتحقيق الاستفادة القصوى من النوع الآخر.
ولما كان العقل الباطن هو المحرك لأنشطتنا وسلوكياتنا فسنتعمق في الكلام عليه أكثر.

وظائف العقل الباطن:
1ـ خزن المعلومات والذكريات: فهو الذي يختزن تجارب الإنسان: ما رآه وسمعه والأصوات وخشونة المواد وصلابتها وليونتها.......إلخ
2ـ هو معقل المشاعر والعواطف وبالتالي الرغبات والميول.
3ـ هو سجل العادات حسنة كانت أو قبيحة كما أنه مستودع المهارات التي يحوزها الإنسان مثل الكتابة والقيادة ومخاطبة الجماهير ......إلخ
4ـ هو الذي يتحكم بالطاقة الجسدية والنفسية وبيده توجيهها كمًا ونوعًا.

كيف يصاغ العقل الباطن؟
إن الحياة اليومية والنشاطات المتنوعة والمعلومات الواصلة لدماغ الإنسان هي التي تؤثر في العقل الباطن ولكنه تأثير غير منظم ولا مبرمج ولا مخطط للأسف أي أنه تأثير عشوائي لأنه يخضع للظروف المحيطة بالشخص فما كان منها إيجابيًا كان التأثير إيجابيًا وما كان منها سلبيًا كان التأثير مثله.
وهناك أنماط من التأثير في العقل الباطن تتصف بالرتابة والتراكم مثل التربية والتعليم ومجموعة القيم والأفكار السائدة في المجتمع ووسائل الإعلام المتنوعة وهو يستغرق وقتًا طويلاً في أغلب الأحيان.

التأثير غير المبرمج في العقل الباطن:
1ـ البـيـئـة:
وتشمل البيئة الطبيعية والاجتماعية, فالبيئة الاجتماعية على سبيل المثال هي من أعظم المؤثرات ابتداء من الأبوين والأسرة ووسائل الإعلام والأصدقاء وما يفرزه هذا المجتمع من ثقافة وأدب لذا نجد إبداع الشخص وإنتاجه معبرًا عن بيئته شاء أم رفض.
ابن خفاجة والمتنبي لهما شعر يصف الماء, ولكنهما مختلفون في البيئة فاختلف الوصف بين هذا وذاك,
يقول المتنبي
لولاك لم أترك البحيرة والغور دافئ وماؤها شبم
والموج مثل الفحول مزبدة تهدر فيها وما بها نظم
والطير فوق السحاب تحسبها فرسان بلق تخونها اللجم
كأنها والرياح تضربها جيشًا وغى هازم ومنهزم
كأنها في نهارها قمر حف به من جناحها ظلم
يقول ابن خفاجة:
لله نهر سال في بطحاء أشهى ورودًا من لمى الحسناء
متعطف مثل السوار كأنه والزهر يكنفه مجر سماء
وغدت تحف به الغصون كأنها هدب يخف بمقلة الزرقاء
فيصف المتنبي ماء البحيرة دون أن يتخلص مما هو مخزون في عقله الباطن من البيئة التي نشأ فيها وهي بيئة الحرب والكر والفر والقتال, في الموج في اندفاعه وهديره بفحول الإبل تثور بها رغباتها, ويتخيل طير الماء وقد اعتلى الزبد الأبيض فرسانًا يمتطون صهوات أفراس بيض, ويصور الرياح وما تثيره من أمواج كأن جيشين يقتتلان.
أما إذا نظرت إلى تشبيهات ابن خفاجة فستدرك كم تعكس طبيعة الحياة الأندلسية الناعمة وما في بيئته من قصور وجمال ونساء وحدائق غناء.

2ـ الانتماء:
فعندما يعلم شخص أنه ينتمي لقوم كرماء فتجده تلقائيًا يتأثر توجهه نحو الكرم حتى ولو لم ينشأ في قومه ولكن سماعه لصفات يمتاز ويشتهر بها قومه يجعله يتكيف معها من حيث لا يشعر، ولذلك المسلم الذي يذهب إلى أوروبا لا يأكل لحم الخنزير بالرغم من أنه قد لا يكون متدينًا.

3ـ الشخصية المؤثرة:
سواء كانت دينية أم سياسية أم علمية وليس من الضروري أن يكون التأثير مباشرة عن طريق الرؤية والسماع بل قد يكون عن طريق الأخبار والصور والكتابة فتجد الشخص المتأثر يحاول أن يقلده في كل أفعاله وأقواله معتبرًا أنه القدوة والأسوة, ولم تكن إنجازات العظماء في التاريخ إلا عن طريق التأثير في العقل الباطن لآلاف الناس.

4ـ العواطف الحادة:
عندما تمر بالإنسان أحداث مهمة تؤثر بقوة في عواطفه كفقد عزيز أو موقف إنساني مؤثر فهذا يؤثر في سلوكياته المستقبلية إلى حد كبير.
هذا هو التأثير غير المبرمج ولا المخطط الذي يؤثر في عقولنا, وتعني البرمجة اللغوية العصبية بمحاولة إحداث تأثيرات مبرمجة ومخططة تؤدي إلى نتائج يريدها الإنسان ولا يكون الإنسان عرضة للمؤثرات المجتمعية تذهب وتجيء به حيث شاءت وهذا ما سنتناوله في الحلقات المقبلة إن شاء الله