موقوف
- معدل تقييم المستوى
- 0
الخوف والشعور بالانقباض
يُعَدّ القلق أكثر الأعراض شيوعاً لدى البشر، خاصة في عصرنا الحالي، الذي يطلق عليه الكثيرون عصر القلق؛ ذلك أن القلق، إضافة إلى انتشاره، كمرض مستقل، يصاحب غيره من الأمراض، النفسية والجسمانية. ولا عجب في ذلك، فالشخص الذي يصيبه صداع، مثلاً، لأي سبب من الأسباب، ينتابه القلق لذلك. وينطبق هذا القول على كل ما يصيب الإنسان من أعراض مرَضية، أو عاهات جسمانية، ناهيك ما ينتابه من قلق، يتعلق بشؤون حياته، اليومية والمستقبلية، فضلاً عن قلقه من أجل من يرتبط بهم عاطفياً، مثل قلقه لمستقبل أبنائه الدراسي، وقلقه لصحتهم. وهكذا، يتضح أن القلق، ليس سمة من سمات العصر فقط، بل سمة من سمات الحياة نفسها.
ما القلق؟
إنه الخوف والشعور بالانقباض، وترقّب شر أو مصيبة، ستقع مستقبلاً. وإذا كان الخوف من شيء معلوم، أو أن المصيبة، التي يخشى حدوثها معلومة، (معروفة للشخص)؛ فذلك هو القلق الثانوي. وذلك ينطبق على خوف الطالب من الامتحان، وإحساسه أنه لن يمر على خير، ويرتقب شر نتيجته، إلى درجة، تزعجه، وتخل بتكيّفه النفسي.
أما إذا كان الخوف غير معروف السبب، فذلكم هو القلق الأولي. ونظراً إلى أن السبب مجهول، فإن الشر المرتقب، أو المصيبة المرتقبة، غير معلومة المصدر، أو الوقت أو الكيفية، فلا يعرف الشخـص من أيـن؟ ولا متى؟ ولا كيـف ستقع المصيبة؟ لذا، فهو في خوف وترقّب ووَجَل دائم، ولا يغمض له جفن، ولا يستكين له فؤاد، ولا يستقر له جانب، لأن المصيبة قد تقع في أي لحظة. فكل جديد، قد يأتي بالمصيبة، وكل آتٍ قد يحملها معه، وكل طرقة على بابه، يجفل لها، وترتعد فرائصه، وتضطرب ضربات قلبه، إنها المصيبة، قد تكون آتية!
تشمل صورة مريض القلق أعراضاً نفسية، وأخرى جسمانية. أما الأعراض النفسية، فهي شعور الخوف وعدم الراحة الداخلية، وترقّب حدوث مكروه، ويترتب على ذلك تشتت انتباه المريض، وعدم قدرته على التركيز في ما يفعل. ويتبع ذلك النسيان، لاختلال أداء التسجيل في الذاكرة، الذي يتطلب التركيز أو الانتباه. مثل الطالب القلق إلى درجة، لا يستطيع معها أن يركز في ما يقرأ (أو يذاكر)، ويترتب على ذلك، ألاّ يسجَّل شيء في ذاكرته مما قرأه. كما أن التفكير، قد يختل تسلسله، نتيجة للخوف ونقص التركيز. ويلاحظ أن الشخص، في موقف القلق المرَضي، يكون مرتبكاً في عرضه لأفكاره. فمثلاً، إذا كان قلق الطالب مرَضياً، أثناء وجوده في لجنة الامتحان، فإن إجابته عن الأسئلة، ستكون ناقصة أو غير متسلسلة، لفقد بعض أفكاره، نتيجة للنسيان المذكور. كما أن الحركة تضطرب، فترتعش يد هذا الطالب، أثناء الكتابة، وتهتز الكلمات في فمه، إذا كان الامتحان شفوياً. وأحياناً، يسقط الشخص خوفه الداخلي على الأشياء والأشخاص، المحيطين به. وذلك نراه واضحاً في الأم، التي خرج ابنها الشاب، فظلت خائفة عليه، حتى يعود. وإذا تأخر زوجها، قليلاً، فإنها تظل متوترة، حائرة بين الباب والشباك، حتى يعود. كما يكون الأرق (عدم النوم)، أحد أعراض القلق البارزة.
أما الأعراض الجسمانية، فتظهر في شحوب الوجه، واتساع فتحة إنسان العينَين، وتعبير الخوف على الوجه، وبرودة الأطراف، وسرعة ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وسرعة التنفس، والشعور بالاختناق، وجفاف الحلق، وصعوبة البلع، والإحساس كأن شيئاً، يسد البلعوم، زيادة الحموضة في المعدة، وعسر الهضم، وآلام المعدة والأمعاء، خاصة الأمعاء الغليظة (المصران الغليظ)، تعبّر انقباضاته وتقلصاته عن القلق. إضافة إلى الشعور بالانتفاخ وكثرة الغـازات، وصعوبـة التبول، والرغبـة المستمرة فيه، واضطراب الوظيفة الجنسية، التي عادة ما تكون في صورة سرعة القذف لدى الرجل، أو الارتخاء الجنسي، ولكن، كيف يحدث هذا؟ كيف يؤثر القلق في كل هذه الأجهزة من الجسم، فيخل بتكاملها؟
يتكون المخ من قشرة، تعلوه في المكان والمكانة. وتؤدي الوظائف العليا، من التفكير والذاكرة والحركة والكلام. وترتبط بجزء مهم، أسفلها مباشرة، هو المهاد (Thalamus)، الذي يستقر على جزء آخر، لا يقل عنه أهمية، بل يزيد، ويسمى تحت المهاد (Hypothalamus). وهذا الجزء، وبعض المكونات الأخرى، تكوّن الجهاز الانفعالي، أي الخاص بالانفعالات. ويشمل تحت المهاد مراكز عليا للجهاز العصبي المستقل (السمبتاوي ونظير السمبتاوي)، ومراكز عليا، للجوع والشبع والعطش والنوم، وللتحكم في درجة حرارة الجسم، كما أن المهاد الأسفل، تحت المهاد، يتحكم، بطرق مختلفة، في إفراز الغدة النخامية، المسيطرة على أغلب غدد الجسم، التي تفرز هرمونات عديدة.
وعندما يواجه الإنسان موقف مخيف، فإنه يفهم الخطر بقشرة المخ. وهذا الفهم، لا يلبث أن ينعكس على الجهاز الانفعالي، خاصة تحت المهاد، ومراكزه التي يشملها. فينشط الجهاز السمبتاوي (أحد شقَّي الجهاز العصبي المستقل)، وهو الخاص بعملية القتال والهرب في الإنسان. وهو، إلى جانب إفراز هرمونات الأدرينالين والنورأدرينالين، من الغدة فوق الكلوية (الكظرية) ـ يسرع من ضربات القلب، وضغط الدم، ومعدل التنفس. فيندفع الدم إلى العضلات، ويقلّ في الجلد، فيشحب لونه، ويتوقف البلع والهضم والجنس؛ فالوقت وقت خطر، إما حياة أو موت، وتكيف الإنسان لمواجهة الخطر، هو للإبقاء على حياته. ولكن القلق هو استشعار للخطر، طيلة الوقت، ومعاناة أعراضه وشكواها. وتشتد شكواه إذا لم يعرف لها سبباً، أي كان القلق أولياً.
أَكُلُّ القلق يُعَدّ مرضاً؟ ومتى يكون صحياً؟ ومتى يكون مرَضياً؟
عندما تواعد شخصاً ما مكاناً ما، بعيداً عن بيتك، أو عن المكان الذي توجد فيه، فإنك تشعر، عند اقتراب الموعد، ببعض القلق، يدفعك إلى سرعة ارتداء ملابسك، والخروج إلى الموعد. وإذا كان الطريق معطلاً، لاختناق المرور فيه، فإنك تنظر إلى ساعتك، في قلق، خوفاً على الموعد الذي قطعته على نفسك. وقد يربكك ذلك، فتصدم بسيارتك الآخرين أو سياراتهم (إذا كنت تقود سيارتك)، أو تحتك بمن يقف إلى جوارك في الحافلة، أو بمن يعترض طريقك أثناء نزولك منها. وإذا كنت طالباً، فأنت على موعد مـع الامتحان، الشهري أو السنوي، وتحسب لهذا الامتحان (الموعد) الحساب بالأشهر والأيام، والذي لا يلبث أن يتناقص إلى ساعات. وكلما اقترب الموعد، ازداد القلق. وكلما كان إنجازك العملي ضئيلاً، كان القلق أكثر.
القلق، إذاً، باعث لك على أن تتحرك للوصول إلى المكان المحدد، في الموعد المحدد. وهو، كذلك، باعث لك على الإنجاز الدراسي والتحصيل، كاستعداد للامتحان، إذا كنت طالباً. أضف أنه باعث للزوجة على تدّبر شؤونها المنزلية، قبل عودة زوجها، أو حضور ضيوفها. زِد أنه باعث للموظف (والموظفة)، أن يسرع الخطى، لبلوغ عمله في الموعد المحدد. واستطراداً، فالقلق هو باعث للحياة، ومحرك لها. ونقيضه الاسترخاء التام؛ بل السكون؛ وذلكم هو شلل الحياة الداخلي، الذي يصيب اليائسين، العاجزين، الذين لا أمل لهم، ولا رجاء.
من هذا المنطلق، يُعَدّ القلق شيئاً صحياً، يدفع نحو الأهداف. ولكنه، ككلِّ شيء، حين يزيد على حدِّه، فإنه ينقلب إلى ضده. وبعد أن كان باعثاً، محركاً، أصبح مربكاً معطلاً، بل مزعجاً.
فالطالب، الذي ازداد قلقه عن حدِّه، لا يستقر، يفتح كتاباً، ثم يقلب صفحاته، بتوتر واضح، ثم يغلقه، ليأتي بآخر، يفعل به مثلما فعل بالكتاب الأول. ثم يأوي إلى النوم، طلباً للهدوء. ولكن هيهات له أن ينام، وهو في هذه الحالة. فيطير النوم من عينَيه، وتنتابه الأفكار والهواجس، من مخاوف وغيرها. وقد يبكي مما يشعر به من ارتباك وتوتر. ناهيك ما يشعر به من أعراض جسمانية، مثل سرعة ضربات القلب، وسرعة في التنفس، وجفاف الحلق، وبرودة في الأطراف. ومن ثَم، يكون القلق مرضاً، لأنه أصبح يعوق الإنسان عن أداء عمله، والتكيف في حياته.
ولكن، ما دور القلق في حياة الإنسان؟
رحلة الإنسان مع القلق
تبدأ رحلة الإنسان مع القلق، منذ بدايته الأولى، كجنين في رحم أمه. فعندما تصاب الأم بالقلق والخوف، أثناء الحمل، فإن نسبة الأدرينالين والنورأدرينالين، تفرز في دمها، بكميات كبيرة، ويسبب ذلك زيادة في نشاط عضلات الرحم، فتحدث انقباضات غير منتظمة وغير منضبطة، قد ينشأ عنها الإجهاض، وعلى أقل تقدير، تزعج استقرار الجنين وسكينته. كما يقلّ الدم الواصل إليه، وتسرع دقات قلبه، وتختلج عضلات جسمه، تعبيراً عن الخوف المنقول إليه من الأم (بزيادة الأدرينالين في دمه). وتُعَدّ هذه أولى خبرات الإنسان بالقلق، إذ تبدأ قبْل ولادته. ثم تأتي لحظة الميلاد، وهي رحلة قصيرة، زماناً ومكاناً؛ فمن الرحم إلى خارجه عدة سنتيمترات، لا تستغرق وقتاً طويلاً، ولكنها تنقل الإنسان من عالم محدود جداً، إلى عالم متسع جداً، من عالم مريح جداً، إلى عالم شاق.
في الرحم، كان دم الأم، يحمل إليه الأكسجين والغذاء. أما بعد الولادة، فإنه لا بدّ من بذل جهد في التنفس والرضاعة. ولا بدّ لأجهزة جسمه أن تمارس دورها في عمليه التكيف الحياتية، مثل المحافظة على درجة الحرارة. لذا، فإن الانتقال، في عملية الولادة، يُعَدّ انتقالاً عظيماً. وهذا الانتقال العظيم، يصاحبه قلق وخوف لدى الطفل الوليد. ويزداد قلقه بازدياد التوتر لدى الأم، أثناء عملية الولادة. ولقد عدّ بعض علماء النفس، أن صدمة الميلاد، هي مصدر لكل أنواع القلق، التي تصيب الإنسان. وهذا القول، لم يكن مقبولاً، منذ عدة سنوات. ولكن الدراسات الحديثة، التي تناولت تأثير التوتر والقلق في الجنين، داخل الرحم، وأثناء الولادة، قررت التأثير المرَضي للحمل المتوتر، والولادة المتوترة، في ميل الرضيع إلى الاضطراب النفسي الفسيولوجي، وقلق ما بعد الولادة.
وتستمر رحلة القلق، بعد الولادة. ويعبّر عنه الرضيع بالبكاء والأنين، والتصلب وعدم الاستقرار، واضطراب النوم، مع البصق والقيء، والإسهال والعرق، والاحمرار. وهي كلها علامات الانزعاج الحسي الحركي. وهو انزعاج مؤقت، يظل لعدة دقائق، تكفي لجذب انتباه الأم، لتخفيف العوامل الضاغطة. وهو انزعاج تكيفي، أو قلق تكيفي، يتوخى التكيف، وإزالة العوامل الضاغطة. ولا يسمَّى قلقاً، في الأشهر الستة الأولى من حياة الرضيع، وإنما انضغاط أو انزعاج. وهذا الانزعاج، قد يزيد على الاحتمال (احتمال الأم)، فيسمَّى الانزعاج المرَضي. ويكون فيه البكاء كثيراً، وبصوت مرتفع. ويبدو أن الطفل متألم، وهو في حالة توتر شديدة، وحادة. كما يكون سريع الاهتياج، ويضطرب انتظام وظائفه الجسمانية وانضباطها، أي يصبح نومه متقطعاً وغير منتظم، وتقلّ رضاعته، فلا يأخذ الحلمة، أو لا يشعر بالشبع. ويكثر قيئُه وإسهاله. وقد تصيبه حساسية خفيفة. وتكثر حركته. وأحياناً، يصاحب ذلك هلع شديد من الأشياء الجديدة حوله. وإذا استمر هذا الانزعاج المرَضي فترة طويلة، فإنه يصبح مزمناً، وينسحب الطفل على نفسه، ويهبط نشاطه، ويقلّ نموه، الجسمي والنفسي والاجتماعي.
ولقد أشارت الدراسات، التي أجريت على بعض الأطفال، من المضطربين نفسياً، درجة خطيرة، مثل ذهان الطفولة (اضطراب عقلي في الطفولة)، إلى أنهم كانوا يعانون، في أشهرهم الأولى، انـزعاجاً مرضياً. ويزيـد من حدّته أن الأم تحار في طفلها، الذي لا يهدأ، ولا يأكل، ولا ينتظم نومه، ويكثر قيئُه وإسهاله، فتصاب بالقلق من جراء ذلك. وقلقها يزيد حالة طفلها سوءاً، وسوء حالة الطفل يزيد الأم قلقاً. وهكذا، يدخل الطفل والأم في دائرة مفرغة، لا يقطعها إلا علاج يقضي على قلق كلٍّ منهما.
القلق في الأشهر الستة الثانية، من حياة الطفل
وهي المرحلة، التي يميزها القلق عند رؤية شخص غير مألوف لدى الطفل، وقلقه عندما تنفصل عنه أمه. والقلق، في الحالتَين، عبارة عن خوف تكيفي، موروث في طبيعة تكوين الطفل. ويشبه ذلك الخوف من الأصوات العالية، والخوف من الألم. فمثلاً الخوف من الغرباء، يجعل الطفل ملتصقاً بأمه، ويحميه ذلك من الأخطار. لذا، فهي مخاوف تكيفية. ولكن، إذا ازداد الخوف على حدّه، فإنه لا يصبح تكيفاً، وإنما يمسي قلقاً مرَضياً. فالطفل يصاب بالذعر، أو الهلع، عندما يرى شخصاً غير مألوف لديه. وفي حالة وجوده مع أمه، من دون غرباء، يصعب انفصاله عنها، ولو لفترة قصيرة (وهذا الطفل، لا شك،
سيستمر ملتصقاً بأمه، لا ينفصل عنها بسهولة، حتى عند ذهابه إلى المدرسة).
ويصاحب هذه المخاوف اضطرابات الأكل، في صورة رفض الرضاعة، والغثيان والقيء، والمغص المتكرر، والإسهال أو الإمساك. ويتبع ذلك ضعف النمو. وفي أحيان قليلة، يميل إلى كثرة الرضاعة والسمنة، ويصاحبها، كذلك، اضطرابات النوم، مثل الأرق أو النوم المتقطع، غير المريح وغير المنتظم. ويتأخر نمو الكلام لدى هؤلاء الأطفال، وينتابهم العناد الشديد لمن حولهم. كما يكون عدوانهم شديداً، في صورة العض، أو الانفجارات المزاجية؛ إذ يعبّر، بانفعال شديد بأطرافه الأربعة، وكل عضلات جسمه، عن غضب شديد، ورفض لكل شيء، إضافة إلى البكاء الحاد جداً، وكثيراً ما يظهر على جسد هذا الطفل أعراض الاضطراب النفسي الفسيولوجي، في صورة إكزيما، أو التهاب الجلد.
القلق في السنتَين، الثانية والثالثة، من عمر الطفل
في هذه المرحلة من العمر، يكون القلق، عادة، حول الانفصال عن الأم، وعند مواجهة الغرباء؛ ولكن، إلى درجة أقلّ كثيراً عن قبْل، لدى الأطفال الأصحاء نفسياً. ويتبدد قلقهم، عند نهاية السنة الثالثة.
كما يبرز القلق حول فقْد وظائف الجسم، وفقْد التوافق مع موضوع الحب. وهذه الأعراض عابرة. والاستجابة المتفهمة من الأسْرة، تقلّل من حدّة هذا القلق. وعندما ينجز الطفل، من المهارات، ما هو مطلوب منه في هذه المرحلة، مثل التحكم في المخارج، والكلام، فإن قلقه يتناقص، ويحل محله الإحساس بالنفس والثقة، والفخر بالإنجاز والنجاح.
ويكون هذا القلق طبيعياً، إذا لم يعُق تكيف الطفل وإنجازه. أما إذا كان حاداً، ومستمراً لفترة طويلة، فهو القلق المرَضي، الذي سيؤثر في سلوك الطفل الحركي، فيؤخر قدرته على المشي والجري، ويصبح متململاً، لا يستقر في مكان. كما أن توافقه الحركي يتأخر. وينتابه الاندفاع، الذي يعرّضه للإصابات. ويشتد عناده وسلبيته وعدم طاعته لوالدَيه. ويكثر بكاؤه الحاد، الذي ينفعل فيه بكل جسمه. وقد يوقف تنفسه، أثناء البكاء، الأمر الذي يزيد خوف الوالدَين وقلقهما. ويصاحب ذلك تأخر في نمو إدراكات الطفل وقدرته على التفكير؛ إذ إن ذكاءه، يتجه إلى التعبير الحسي الحركي، أي الجسماني، ولا يتجه إلى التعبير برموز اللغة وكلماتها. لذا، فإن اللغة تتأخر لديه في نموها. وقد يكرر ما يعرفه، بصورة قهرية، وبنغمة حادّة، تعبّر عن التوتر. وكثيراً ما ينتابه البكم الاختياري (عدم النطق بأي كلمة، لفترة معينة، أو في مواقف معينة) أو التهتهة.
وقد يتمثل القلق المرَضي في هذه المرحلة، في التشبث بالأم، والتعلق بها، في ما يشبه طفل الثمانية إلى عشرة أشهر، فلا يتحرك بعيداً عنها، لاكتشاف البيئة المحيطة به. كما يظهر تناقض مشاعره تجاه أمه؛ فعلى الرغم من أنه يحبها، ويلتصق بها، إلا أنه يضربها، ويعضها، ويخدشها، كتعبير عن كراهيته لها. وانفصاله عنها يصيبه بالهلع؛ ومن ثَم، فهو لا يلعب مثل غيره من الأطفال الأسوياء، ولا يشاركهم حتى في لعبة يستقل بها.
ونظراً إلى أن التحكم في المخارج، أي التحكم في عملية التبول والتبرز، يُعَدّ أحد الإنجازات المهمة في هذه المرحلة، فإن القلق المرضي، ويكون إحدى علاماته البارزة. إذ يخاف الطفل من عملية التبرز، فيصبح عرضة للإمساك، لعدة أيام، أو يختل تحكمه في المخارج، فيلوّث ملابسه ببرازه أو بوله، خاصة أثناء اليقظة، مما يزيد قلقه حدّة وصورته عن نفسه اهتزازاً. ويضطرب نومه، فينتابه الفزع الليلي، والأحلام المخيفة، وكثيراً ما تصاحبها صور مخيفة، تظهر عند بداية النوم، أو عند الاستيقاظ منه، وتقلّ أثناء النوم، خاصة مراحله العميقة، التي يَبْطُؤ فيها إيقاع المخ (وهي المرحلة الرابعة من النوم البطيء الموجه)، وتعتريه نفس اضطرابات الأكل، من القيء والمغص والإسهال، ونقص الشهية أو ازديادها.
واستمرار هذا القلق لفترة طويلة، قد ينجم عنه توقّف في نمو جوهر الشخصية لدى الطفل؛ إذ ينتابه المرض العقلي، في صورة الذهان الكلي، أو فصام الطفولة، أو الاكتئاب الشديد، أو الشخصية النرجسية، أو يصبح مدمناً في حياته اللاحقة، بعد البلوغ.
منقول
المفضلات